يمانيون/ صنعاء

نص كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بمناسبة يوم القدس العالمي، التي ألقاها مساء يوم أمس الخميس 27 رمضان 1446هـ الموافق 27 مارس 2025م.

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَـاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

قال الله تعالى في القرآن الكريم:

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء:4-8]. صَدَقَ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيم.

في العشرين من شهر رمضان المبارك، لعام 1399 للهجرة، أعلن الإمام الخميني آخر جمعةٍ من شهر رمضان المبارك، من كل عام، يوماً عالمياً للقدس، ودعا كافَّة المسلمين، في كل أرجاء العالم الإسلامي، لإحياء هذا اليوم بالمظاهرات، والتَّجمُّعات، وإقامة المحافل، وأن يكون يوماً ليقظة جميع الشعوب الإسلامية، ويوماً للتعبئة العامة للمسلمين؛ من أجل أن تبقى قضية فلسطين حيَّةً في نفوس المسلمين، ومشاعر الجهاد والرفض لإسرائيل حَيَّة في نفوس المسلمين.

العنوان (يوم القدس)، العنوان والزمان كذلك (في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك)، يُذَكِّران المسلمين بمسؤوليتهم الدينية، تجاه فلسطين والأقصى والقدس، وتجاه الشعب الفلسطيني المظلوم، وتجاه أرض فلسطين، التي هي بقعةٌ مباركةٌ من بقاع وبلدان المسلمين، تجاه المظلومية الكبرى للشعب الفلسطيني، التي لها أكثر من قرنٍ من الزمان، منذ الاحتلال البريطاني، ثم خَلَفَهُ العدو الإسرائيلي المجرم، وله أكثر من سبعة عقود من الزمن، في عدوانٍ متواصل وإجرامٍ يوميٍ ضد الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى العدوان والاحتلال الذي طال بلداناً عربيةً أخرى، وهو مستمرٌ كذلك على عِدَّة بلدان، وتهديدٌ حقيقيٌ لبلدانٍ أخرى.

وقـد تزامنت المناسبــة في هـذا العــام، مـع تطــوُّراتٍ غــير مسبوقــة في عِــــدَّة اتجاهـــات:

أولاً: حجم الإجرام الإسرائيلي، وبشراكةٍ أمريكيةٍ كاملةٍ على كل المستويات: عسكرياً، وسياسياً… وغير ذلك، ضد الشعب الفلسطيني:

على مدى خمسة عشر شهراً، ثم استئنافه للعدوان، والإبادة الجماعية، والتجويع المعلن المكشوف، والمنع من دخول الغذاء والدواء إلى غَزَّة بأي شكلٍ من الأشكال، لا مساعدات، ولا بضائع… ولا غير ذلك، واستباحة الدم الفلسطيني، والقتل الشامل بكل وسائل القتل، وبكل وحشية؛ بهدف كسر الإرادة، والدفع بالشعب الفلسطيني للاستسلام، ومحاولة الوصول به إلى الانهيار التام، وفي هذا الاتِّجاه المجاهرة بالإجرام بمرأى ومسمعٍ من العالم.

ثانياً: انكشاف توجُّهات العدو الإسرائيلي والأمريكي معاً؛ لأنَّها توجُّهات مشتركة، والحديث عنها صراحةً، والتحرك السياسي والإعلامي المكشوف لأجلها، وهي: السعي للتصفية الكاملة للقضية الفلسطينية، وتهجير الشعب الفلسطيني، وتوسيع الاحتلال في البلدان المحيطة بفلسطين؛ تمهيداً لمراحل لاحقة، يُسْتَكْمَل فيها المشروع الصهيوني الإسرائيلي [من النيل، إلى الفرات].

في السابق كان الأمريكي والإسرائيلي يعتمدان على الخطوات العملية، مع استخدام أسلوب الخداع، لاسيَّما للأنظمة الرسمية العربية؛ فكان الأمريكي يتحدث عن السلام، والتسوية… وغير ذلك؛ ثم في هذه المرَّة أصبح يتحدث الأمريكي- بنفسه- عن التهجير، لم يعد هناك أي طرح لمسألة التسوية السياسية، ودولة الفلسطينية… وغير ذلك.

وتزامــن مــع ذلـك:

الإبادة الجماعية، والتجويع للشعب الفلسطيني في غَزَّة.

والتدمير والتهجير أيضاً في الضِّفَّة الغربية على نحوٍ متصاعد.

والسعي المكشوف لتهويد مدينة القدس.

وتكثيف الاقتحامات والاستباحة للمسجد الأقصى، ووضع المزيد من القيود والمضايقات على الوصول إليه.

الحديث الأمريكي المُعْلَن عن التهجير يُعتبر فضيحةً كبرى للأمريكي، يكشفه لمن يريد أن يتغابى، وأن يتجاهل الصورة الحقيقية له، وهو انتقال- كما قلنا- من مراحل الخداع في الماضي تحت عنوان التسوية، إلى هذه المرحلة الجديدة من الانكشاف، والتحرَّك المحموم، للانتقال إلى المراحل الأخرى التي هي واضحة:

السعي لتصفية القضية الفلسطينية.

والتهجير للشعب الفلسطيني.

والتَّوَسُّع في البلدان المحيطة بفلسطين.

هذا الانكشاف هو أيضاً من التطوُّرات المهمة، التي تزامنت مع هذه المناسبة في هذه المرحلة.

ثالثاً: في المقابل، حجم الصمود الفلسطيني، والثبات، والاستبسال:

هذا المستوى العظيم من صمود الشعب الفلسطيني وثباته في غَزَّة، وثبات مجاهديه، هو تطوّرٌ غير مسبوقٌ أيضاً، وكانت (عملية طوفان الأقصى) نقلةً جديدةً في ارتقاء الأداء الفلسطيني، وكذلك حجم الصمود العظيم في (معركة طوفان الأقصى)، وقد تجلَّى ضعف العدو الإسرائيلي مع هذا الصمود، وهذه النقلة المهمة؛ وإنما التجأ بشكلٍ كامل إلى الأمريكي، واعتمد عليه كليّاً، وكان التَّدَخُّل الأمريكي تجاه ذلك بشكلٍ غير مسبوق، ومع دعمٍ غربي، برز فيه: البريطاني، والألماني، والفرنسي… وهناك آخرون غيرهم أيضاً قدَّموا الكثير للعدو الإسرائيلي، وإلَّا فبدون ذلك كان العدو الإسرائيلي، بعد ضربة (عملية طوفان الأقصى)، في وضعٍ مهزوزٍ ومربكٍ بشكلٍ غير مسبوق، وكذلك ما قبل العملية كانت هناك- فعلاً- تساؤلات، عن مدى إمكانية استمرار ذلك الكيان المجرم الغاصب.

الإسرائيلي مع الأمريكي، اتَّجها معاً للعدوان على التصدِّي الفلسطيني بصمود وثبات، والتعامل مع التصدِّي الفلسطيني العظيم والبطولي للعدوان الإسرائيلي، باستخدام الإبادة الجماعية، والتدمير الشامل، يعني: لم تكن المسألة أن يقابلا الموقف الفلسطيني الصامد عسكرياً، من خلال أداء المجاهدين الفعَّال والقوي والثابت، أن يواجهاه بعمل عسكري نحو المجاهدين، يتَّجه نحو المجاهدين واستهدافهم، تعاملا بطريقة مختلفة: طريقة إجرامية، وحشية، شاملة، للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غَزَّة بشكلٍ عام، والتدمير الشامل لكل مقومات الحياة في قطاع غَزَّة، التدمير والنسف للمباني، بالأحزمة النارية، وبكل وسائل التدمير، تدمير المدن، تدمير القرى، تدمير الأحياء والمساكن، تدمير المستشفيات، تدمير آبار المياه، تدمير المدارس والمساجد… وكل مقومات الحياة؛ بدلاً من معركة عسكرية، يواجهون فيها عسكرياً، اتَّجهوا هذا الاتِّجاه الإجرام الوحشي، يحاولون بذلك الضغط على الجانب العسكري الجهادي في فلسطين للمجاهدين؛ ليستسلم وينهار من خلال هذا الأسلوب.

رابعاً: من التطوُّرات المهمة: ثبات الحاضنة الشعبية، ومجتمع غَزَّة، في ضل وضعيةٍ صعبةٍ جدًّا، ومظلومية كبرى، ومعاناةٍ رهيبةٍ لا مثيل لها:

هذا المستوى العظيم من صمود الشعب الفلسطيني في غَزَّة، في مقابل ذلك الإجرام الرهيب، والإبادة الجماعية، والتدمير الشامل، والتجويع، والإبادة بكل أساليب الإبادة، هو تطوُّرٌ غير مسبوق حتى في تاريخ الشعب الفلسطيني، وفي تاريخ شعوب المنطقة بشكلٍ عام.

خامساً: من التطوُّرات المهمة: جبهات الإسناد، وما قدَّمته من تضحيات:

بدءاً بلبنان، التي قدَّم فيها حزب الله أكبر التضحيات، في إسناده للشعب الفلسطيني، وللمجاهدين في قطاع غَزَّة، وقدَّم إسهاماً عظيماً، كبيراً، مهماً، متميِّزاً، مؤثِّراً في المعركة والمواجهة للعدو الإسرائيلي.

وكذلك اليمن، اليمن بإسناده الشامل، وتحرُّكه على كل المستويات: في العمليات العسكرية، ومنع الملاحة البحرية على العدو الإسرائيلي، والقصف إلى عمق فلسطين المحتلة، بالصواريخ والمسيَّرات؛ لاستهداف العدو الإسرائيلي، والتَّحَرُّك سياسياً، وإعلامياً، وشعبياً على نحوٍ عظيم، والخروج المليوني الشعبي، والأنشطة الشعبية، التي لا مثيل لها في العالم.

وكذلك في العراق، والدور المهم والكبير لفصائل المقاومة الإسلامية في العراق.

وكذلك الدور الأساسي والمحوري للجمهورية الإسلامية في إيران، بدعمها الدائم للشعب الفلسطيني ومجاهديه الأعزِّاء، ولاشتراكها أيضاً بعمليات الوعد الصادق، والعدو يدرك حجم هذا الدور وأهميته، ويسعى للضغط المستمر على الجمهورية الإسلامية في إيران، باستخدام أسلوب الضغوط القصوى، في العقوبات الاقتصادية، والعزل السياسي… وغير ذلك؛ بهدف التأثير على موقفها، الذي بقي ثابتاً منذ انتصار الثورة الإسلامية، وهو مستمرٌ في ثباته.

سادساً: الانكشاف، والفرز، والغربلة، لواقع الأمة، والحالة الرسمية في العالم العربي- بالدرجة الأولى- قبل بقية العالم الإسلامي:

هذا الفرز الكبير، الذي كشف واقع الأنظمة العربية الرسمية:

ما بين متخاذلٍ بشكلٍ غير مسبوق: مع أن الحالة حالة تخاذل، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}[الأعراف:129]، يعني: منذ بداية القضية الفلسطينية، لكن في هذه المرَّة، في هذه الجولة، تخاذل غير مسبوق، من المواقف- حتى في الحد الأدنى- المواقف العملية.

وما بين متواطئ مع العدو: ما بين أيضاً من تواطؤا مع العدو بشكلٍ أو بآخر.

هذا الفرز، وهذه الغربلة، تأتي ضمن سُنَّةِ الله تعالى لواقع المسلمين، الذين ينتمون إلى الإسلام العظيم، بمبادئه العظيمة، وقيمه العظيمة، والالتزامات الإيمانية فيه، ضد الظلم والطغيان، ونصرة المظلوم، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}[التوبة:16]، اختبار في الموقف: في الجهاد، واختبار في الولاء (وَلِيجَةً)، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}، من يتَّخذون دخلاء في ولائهم من أعداء هذه الأمة، بدلاً عن الولاء للمؤمنين، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة:16].

سابعاً: انكشاف المؤسسات الدولية، وفي مُقدِّمتها: الأمم المُتَّحِدة، ومجلس الأمن، والمنظَّمات ذات الطابع الحقوقي والإنساني، وفضيحة الغرب:

وهذا أيضاً هو تطوُّر غير مسبوق؛ لأنهم- أصلاً- كانوا فيما سبق في وضعية مُخْزِيَّة، ومكشوفة، ومفضوحة، لكن مع حجم الإجرام الصهيوني الإسرائيلي اليهودي، ضد الشعب الفلسطيني، وارتكاب الإبادة الجماعية بشكلٍ يومي، على مدى خمسة عشر شهراً، ثم استئناف ذلك في هذه الأيام، هذا كشفهم أكثر، حجم المأساة للشعب الفلسطيني بَيَّنت حقيقة أولئك، أنهم ليسوا جادِّين تجاه العناوين التي يزعمون أنهم يتحرَّكون من أجلها، وأنهم مؤسسات اُنشئت من أجلها: من أجل حقوق الإنسان، والأمن، والاستقرار العالمي… وغير ذلك، اتَّضح بشكلٍ واضحٍ جدًّا أمام هول المأساة، حتى لمن هو بليد لا يفهم، يستطيع أن يفهم؛ كذلك في التعامل في الغرب مع الصوت الإنساني في بلدانهم، في النشاط الجامعي وغيره، وسنتحدث عن هذه النقطة.

الأمم المُتَّحِدَة لم تتخذ أي خطوة عملية- عملية أكثر من مسألة تصريحات وبيانات- تجاه ما يقوم به العدو الإسرائيلي، من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وأيضاً من إجرام وعدوان كبير في الضِّفَّة الغربية، على الشعب الفلسطيني هناك.

الأمم المُتَّحِدَة، التي سبق لها أن اعترفت بالعدو الإسرائيلي على أرض فلسطين كدولة، واعترفت به عضواً فيها، وهذه جريمة كبيرة، ووزر فظيع لم تتخلص من هذا الوزر، في الحد الأدنى كان على الأمم المُتَّحِدَة أن تسحب اعترافها بالكيان الإسرائيلي؛ لأنه اعتراف باطل- أصلاً- من الأساس، أن تسحب ذلك الاعتراف، وأن تطرد العدو الإسرائيلي لا يبقى عضواً فيها، أقل ما كان يمكن أن تعمله، أن تعمل هذه الخطوة؛ لِتُخَفِّف عن نفسها هذا الوزر، وتطرح عن نفسها هذا العار.

مجلس الأمن كذلك، بيَّن أنه ليس من حساباته أمن الشعب الفلسطيني المظلوم، أمن شعوب المنطقة: الشعوب العربية، والشعوب الإسلامية، والشعوب المستضعفة في العالم، وأنه لا يحسب إلا حساب أمن الطغاة المستكبرين في هذا العالم، والظالمين المجرمين فقط، أمنهم في مقابل أن يضطهدوا بقية الشعوب، أن يظلموها، أن يجعلوها شعوباً لا تحظى لا بأمنٍ، ولا باستقرارٍ، ولا باستقلالٍ، ولا بِحُرِّيَّةٍ، وأن تكون شعوباً مظلومةً مضطهدة، مجلس الأمن كذلك ليس له أي موقف جادّ تجاه ذلك.

المُنَظَّمات الأخرى كذلك، ليست لديها مواقف جادَّة من العدو الإسرائيلي. وهكذا الحالة مكشوفة بالنسبة لهم.

ثامناً: الموقف الحُرُّ للأحرار في العالم:

هناك بعض الدول كان لها موقف حُرّ، مثل ما هو الحال بالنسبة لـ: فِنْزويلَّا، لجنوب أفريقيا، لكولومبيا… لدول وبلدان أخرى اتَّخذت خطوات عملية، تميَّز موقفها بأنه موقف جادّ، ليس مجرَّد بيانات، أو تصريحات، اتَّخذت خطوات عملية:

قطعت علاقاتها مع العدو الإسرائيلي: على المستوى السياسي، وعلى المستوى الاقتصادي.

وكذلك بيّنت عن موقفها هذا: أنه نُصرةً للشعب الفلسطيني، وضد الإجرام الصهيوني الإسرائيلي والأمريكي.

فكانت خطواتها خطوات عملية، هناك عدَّة بلدان في العالم- من غير البلدان الإسلامية والعربية- كان موقفها بهذا المستوى: قطع للعلاقات السياسية، والعلاقات الاقتصادية، بل وتحريك القضاء للمحاكمة، محاكمة حتى أي (مجرم إسرائيلي) يتَّجه إلى بلدانهم.

فتلك البلدان، اتَّخذت حكوماتها، ورؤساؤها، والأنظمة الرسمية فيها، مواقف عملية أكثر من البلدان العربية، من الأنظمة الرسمية العربية، وأكثر من أكثر الأنظمة الإسلامية في العالم الإسلامي.

كذلك الصوت الإنساني للأحرار، وللذين بقي لديهم ضمير إنساني حتى في الشعوب الغربية، المظاهرات والأنشطة التي تحرَّكت في أمريكا، في الجامعات الأمريكية، وفي الأوساط الشعبية في أمريكا، من خلال الجاليات، ومن غير الجاليات أيضاً، وبالرغم مما واجهته من اضطهاد، وقمع، وإذلال؛ كشف حقيقة الأنظمة الغربية- بنفسها- حتى في نفس البلدان الغربية، كيف تعاملت مع هذا الصوت الإنساني، بالرغم من أنه كان في إطار النشاط الذي هو مكفولٌ في دساتيرهم وقوانينهم، يعني: مظاهرات، احتجاجات، خروج للجامعات بشكل اعتصامات، يُعَبِّرون فيه عن موقفهم، المتضامن مع الشعب الفلسطيني، يطالبون فيه بوقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني؛ فاتَّجهت تلك الأنظمة لتتعامل مع ذلك بكل عدوانية.

الأجهزة البوليسية تعاملت بشكلٍ قمعيٍ ومُذِّل، تعاملت مع الطلاب، مع أساتذة الجامعات الذين شاركوا في تلك الأنشطة، بطريقة عنيفة، مُذِلَّة، وظالمة، تعاملت أيضاً مع المظاهرات بشكلٍ وحشي، والمشاهد واضحة في أمريكا، المشاهد التلفزيونية التي وثَّقت تلك الممارسات القمعية والعدوانية: في أمريكا، في بريطانيا، في ألمانيا، في فرنسا… في عِدَّة بلدان أوروبية، في أستراليا أيضاً في غير أوروبا.

وهكذا كانوا مفضوحين، أنَّهم ليسوا لا حول حُرِّيَّة تعبير، ولا حقوق إنسان، ولا حقوق مكفولة للشعوب، عندما تتعلق المسألة بمعارضة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، والاحتجاج ضد العدوان الهمجي، الإجرامي، الوحشي، الإسرائيلي؛ بيّنت مدى سيطرة ونفوذ الصهيونية في العالم الغربي، السيطرة الرسمية لها على التَّوجُّهات والسياسات.

وحرّكوا عنوان (معادات السامية)؛ ليجعلوا منه مبرراً لقمع أي احتجاج ضد إبادة الشعب الفلسطيني، ضد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، فأصبحوا يسوغون كل أنواع الجرائم التي يرتكبها العدو الإسرائيلي، ويمنعون أي انتقاد لها حتى بالكلمة، ومسارهم في ذلك يزداد تشدداً، مع الإجراءات الأخيرة التي أعلنها المجرم الكافر [ترامب] ضد الجامعات، التي كان فيها أنشطة متضامنة مع مظلومية الشعب الفلسطيني، ومحتجَّة ضد الإبادة الجماعية التي يمارسها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، إجراءات متشدِّدة، وإجراءات تهدف إلى: منع أي صوتٍ إنساني يتضامن مع هذه المظلومية للشعب الفلسطيني.

هذا فيما يتعلق بالتطوَّرات، التي هي بارزة ومتزامنة مع ما يحدث.

فيمــا يتعلـق بالوضــع الراهـــن:

العدو الإسرائيلي اتَّجه بشكلٍ مكشوف لنكث الاتِّفاق، الاتِّفاق الذي كان عليه ضمناء، والأمريكي منهم (من الضمناء) ضمين على العدو الإسرائيلي، الأمريكي شارك مع الإسرائيلي- كلاهما عدوان مجرمان ظالمان- في النكث بالاتِّفاق، والتَّنَكُّر له، والالتفاف عليه، وتجاه ضمانته، الأمريكي يُخِلّ بشكلٍ مكشوفٍ ووقح بضمانه والتزامه، ويتنكَّر لتلك الالتزامات وكأنها لا شيء؛ وهناك عِدَّة تطوُّرات فيما يتعلق بالوضع الراهن.

من المعلوم أن الاتِّفاق لوقف العدوان على غَزَّة، أتى نتيجةً للفشل الواضح للعدو الإسرائيلي، في تحقيق الأهداف المعلنة لعدوانه، فقد:

فشل في استعادة الأسرى من دون صفقة تبادل.

وفشل في إنهاء المقاومة في غَزَّة والقضاء على المجاهدين.

وفشل في إرغام الشعب الفلسطيني في غَزَّة على الاستسلام.

بالرغم من فظاعة الإجرام الهمجي، الذي لا مثيل له، والشراكة الأمريكية معه في ذلك، وبالرغم من الدور الغربي المساند، لكنه فشل.

وبناءً على ذلك، تم الاتِّفاق على وقف العدوان بصيغة واضحة، والتزامات محدَّدة وواضحة، وعلى مرحلتين، الاتِّفاق كان واضحاً، ما يتعلق منه بالشعب الفلسطيني، هي- أصلاً- استحقاقات، استحقاقات إنسانية، ومشروعة، ومكفولة في الحقوق المعترف بها عالمياً، يعني: ليست شروطاً مجحفة، أو شروطاً سياسيةً بعيدةً عن الجانب الإنساني، أو عن الحقوق المشروعة، وليست شروطاً تعجيزية، هي كما أنها التزامات ضمن اتِّفاق، هي في الأساس- ما قبل أن تكون ضمن هذا الاتِّفاق- استحقاقات إنسانية، مشروعة، مُعْتَرفٌ بها عالمياً، بأنها من الحقوق المكفولة لكل الشعوب، وهي:

إدخال المساعدات إلى قطاع غَزَّة، إدخال الغذاء، والدواء، والاحتياجات الإنسانية، والمتطلبات الضرورية لحياة الناس، وهذا شيءٌ مكفول، واستحقاق إنساني وقانوني في كل العالم، ومعترفٌ به عند كل الدول.

وقف الإبادة الجماعية، وقف العدوان والقتل ضد الشعب الفلسطيني، ومن حق الشعب الفلسطيني ذلك، العدوان عليه عدوان ظالم، وإجرامي، ووحشي، وحالة عدوان بكل ما تعنيه الكلمة.

أيضاً فيما يتعلق بانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غَزَّة، ومن المناطق التي توغّل فيها، وهذا حقٌّ مشروع للشعب الفلسطيني، ومن الحقوق المعترف بها عالمياً.

ومسألة تبادل الأسرى.

وصولاً إلى إعادة الإعمار، ضمن استحقاقات المرحلة الثانية.

فكل البنود المتعلقة بالشعب الفلسطيني في صيغة الاتِّفاق:

هي التزامات ضمن الاتِّفاق من جهة.

وهي استحقاقات إنسانية مشروعة، مكفولة للشعب الفلسطيني، معترفٌ بها عالمياً من جهة ثانية، هي حق ثابت للشعب الفلسطيني.

وحركة المقاومة الإسلامية، في سبيل إنجاح هذا الاتِّفاق، قدَّمت الكثير من التنازلات، تحت السقف الممكن والمتاح، بما لا يُفَرِّط بالقضية الفلسطينية من أساسها، أو بهذه الحقوق التي هي حقوق إنسانية، وحقوق معترفٌ بها عالمياً، من ضمن تلك التنازلات أنَّها:

قبلت أن يكون هناك إدارة فلسطينية عبر لجنة فلسطينية، إدارة مُؤَقَّتة للقطاع، حتى يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية.

قدَّمت تنازلات أيضاً في جوانب أخرى.

كانت حريصةً جدًّا على نجاح الاتِّفاق، وأوفت بكل ما عليها في الاتِّفاق في مرحلته الأولى، يعني: التزمت بما عليها، ونفَّذته كاملاً، ضمن بنود المرحلة الأولى؛ فلم يكن هناك من جانب (حركة المقاومة الإسلامية حماس) لم يكن من جانبها أي تَنَصُّل عن بند من البنود، أو امتناع عن تنفيذه، أو تنفيذه ناقصاً دون الوفاء به؛ أوفت بشكلٍ كامل بما عليها من بنود المرحلة الأولى.

في المقابل، العدو الإسرائيلي لم يفِ بما عليه ضمن التزامات المرحلة الأولى:

لا في نوعية وكمية المساعدات الإنسانية، المُتَّفَق على دخولها في صيغة واضحة، وأرقام محددة، ضمن المرحلة الأولى إلى قطاع غَزَّة:

نَقَّص الكثير جدًّا من المواد الغذائية.

منع الكثير أيضاً من الخيام، والشعب الفلسطيني في أمسِّ الحاجة إليها في قطاع غَزَّة؛ لأنه بدون مأوى.

منع دخول الكرفانات والبيوت المتنقلة.

منع خروج العدد المُتَّفَق عليه كاملاً من الجرحى والمرضى للعلاج.

كذلك في جوانب أخرى كثيرة، التفاصيل كثيرة، وهم يتحدثون عنها عادةً في البيانات، بالنسبة للإخوة الفلسطينيين:

لم يُكْمِل انسحاباته المُتَّفَق عليها ضمن المرحلة الأولى؛ فهو مُخِلّ من جوانب متعددة.

لم يلتزم بالوقف التام لإطلاق النار، لا يزال يَقْتُل، يعتدي؛ بالطائرات المسيَّرة، بالقصف أحياناً، بالمدفعية، بإطلاق النار من جنوده المجرمين… وهكذا، اعتداءات متكررة ومستمرة، وهناك عدد كبير من الشهداء.

هذا في مقابل أن الطرف الفلسطيني أوفى بما عليه كاملاً.

ما بعد ذلك، اتَّجه العدو الإسرائيلي لِلتَّهَرُّب بشكلٍ كامل من الدخول في المرحلة الثانية من الاتِّفاق، وهي ضمن الاتِّفاق، مرحلة ثانية عليها ضمناء أيضاً، الأمريكي ضمين عليها، وشَجَّعَهُ الأمريكي على هذا التَّهَرُّب، والتَّنَصُّل، والالتفاف، والتَّنَكُّر للاتِّفاق، والنكث للاتِّفاق والالتزامات، وشارك في دعمه، وأيَّدَهُ لأن يستأنف عدوانه من جديد؛ فقام من جديد باستئناف عدوانه، بارتكاب جرائم إبادة جماعية من اليوم الأول، يعني: في يومٍ واحد (مائة وثمانين طفلاً) قتلهم العدو الإسرائيلي في قطاع غَزَّة، هذه جريمة وحشية يندى لها جبين الإنسانية، ووصمة عار على المجتمع الدولي، وعلى أمريكا نفسها، التي شَجَّعَت العدو الإسرائيلي!

الأمريكي كان واضحاً، في أنه يَتَبَنَّى بشكلٍ كامل ما يقوم به العدو الإسرائيلي:

من نكثٍ للاتِّفاق.

ومن استئناف للعدوان والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

من منع لدخول المساعدات، قد مضت أسابيع كثيرة، وهو يمنع دخول الغذاء والدواء إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غَزَّة.

الأمريكي يقول: [ما تَمَّ، هو بمشورةٍ معه، هو يدعمه كاملاً، هو يتبنَّاه، هو يُشَجِّع عليه]، المسؤولون الأمريكيون، يقولون للإسرائيليين: [أبيدوهم جميعاً]، بهذا المنطق: [أبيدوهم جميعاً]، يعني: لا مشكلة عند الأمريكي أن يباد الشعب الفلسطيني.

الأمريكي بنفسه، المجرم [ترامب] من يومه الأول يتحدث بشكلٍ واضح ومكشوف، عن مسألة تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غَزَّة، وهو ضامن على تنفيذ اتِّفاق، اتِّفاق واضح، بانسحاب العدو الإسرائيلي من قطاع غَزَّة، بوقف عدوانه على قطاع غَزَّة، بدخول المساعدات إلى قطاع غَزَّة؛ ثم يتنكَّر لالتزاماته بكل وضوح.

هكذا هي الهمجية والطغيان، لا وفاء لشيء، يتنكَّرون لما هو من الحقوق الإنسانية، لما يعتبر الالتزام به التزاماً إنسانياً وأخلاقياً، ويتنكَّرون لكل ذلك، يتنكرون للالتزامات التي هي بشكل اتِّفاقات مُوَقَّعة، والتزامات مُوَقَّعة مُتَّفَقٌ عليها، لا يكترثون لذلك؛ يعني: يتعاملون بهمجية، وطغيان، وإجرام، ووحشية، وليس فيهم أي مُسْتَمْسَك: لا قيم، لا أخلاق، لا إنسانية، لا قوانين، لا مواثيق… ولا أي شيء، يتنكَّرون لكل شيء.

الإسرائيلي، استناداً واعتماداً على الأمريكي، عاد للحصار، للتجويع، للإبادة الجماعية، بالقنابل الأمريكية- نفسها- يستهدف أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غَزَّة، إلى خيامهم، وفي أطلال ما قد دَمَّرَه سابقاً من منازلهم، ويُبِيدهُم بشكلٍ يومي، يقتل الأطفال والنساء، والكبار والصغار، جرائم الإبادة الجماعية من جديد، وبدون أي مُبَرِّر، ليس له أي مُبَرِّر في تَنَصُّلِه عن الاتِّفاق، يعني: لا يمكن أن نقول: أن (حركة حماس) لم تفِ بما عليها من التزامات، هي أوفت؛ لكنَّه يستمر بكل هذه العدوانية، إضافةً- كما قلنا- أنه يمنع ما هو استحقاق إنساني، إضافة إلى التزامات الاتِّفاق؛ هــذا فيمـا يتعلـق بِغَــزَّة.

في لبنـــــان أيضــــاً:

هناك اتِّفاق، والأمريكي فيه من الضمناء، والضمين الأول على الإسرائيلي، ولجنة خماسية… وغير ذلك، العدو الإسرائيلي يستمر هناك أيضاً بارتكاب خروقات جسيمة للاتِّفاق:

اعتداءات بالقصف الجوي، بالطائرات المسيّرة وغيرها، والقتل لأبناء الشعب اللبناني، ويتكرر ذلك بشكلٍ كثير، إضافةً إلى تصعيد في بعض الأيام، تصعيد بغارات كثيرة.

يحتل مراكز في الأراضي اللبنانية، لم ينسحب منها، ويخالف بذلك الاتِّفاق.

يستمر بأشكال متعددة من الاعتداءات على لبنان: يقصف بالمدفعية، يعتدي جنوده، يختطفون أحياناً… أنواع كثيرة.

فيمـــا يتعلـــق بسوريـــا:

يواصل العدو الإسرائيلي أيضاً تثبيت سيطرته على الجنوب السوري في ثلاث محافظات.

يُوَسِّع من نطاق احتلاله؛ بهدف الوصول إلى مناطق من ريف دمشق.

يستمر في غاراته- وتكون مكثفة في بعض الأيام- لتدمير قُدرات سوريا.

سيطر على (حوض اليرموك)، أهم مورد مائي في سوريا.

وكأن المسألة عادية تماماً، يعني: الموقف الدولي، الموقف العربي، الموقف من المنظمات والمؤسسات، موقف بارد جدًّا، كأن المسألة عادية، استباحة كاملة، استباحة بكل ما تعنيه الكلمة.

مع هذه الممارسات العدوانية غير المسبوقة، هناك انكشاف واضح، ومجاهرة بالأهداف المشتركة للأمريكي والإسرائيلي، يعني: هناك وضوحٌ تام في أن الأمريكي والإسرائيلي يسعيان معاً:

إلى تصفية القضية الفلسطينية، إلى إنهائها.

إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.

إلى التَّوَسُّع في البلدان المحيطة.

وفي نفس الوقت السعي للوصول إلى أن يكون العدو الإسرائيلي مسيطراً على المنطقة بشكلٍ كامل، ما هو باحتلال مباشر، وما هو بسيطرة كاملة، والاستباحة، العدو الإسرائيلي يسعي إلى أن يُثَبِّت معادلة الاستباحة ضد هذه الشعوب، أن يكون لهم المجال مفتوحاً ليقتل من أراد، ليقصف متى أراد، في أي مكانٍ يشاء، لينهب ما يريد… ليعمل ما يشاء.

التخاذل العربي هو من العوامل المُشَجِّعَة للأعداء، فعلاً، العرب لم يتحرَّكوا رسمياً في الحد الأدنى من المواقف العملية، يعني: حتى على مستوى موقف فنزويلَّا، أو جنوب أفريقيا… أو غيرها من البلدان، لم يتحرَّكوا لا في المقاطعة السياسية، ولا الاقتصادية… ولا غير ذلك، مواقف عملية.

بل وصل بهم الحال- وللأسف الشديد- إلى أنَّهم ينتظرون الإذن من الأمريكي والإسرائيلي، في أن يُقَدِّموا الخبز، والغذاء، والدواء، للشعب الفلسطيني في غَزَّة، حتى على هذا المستوى الإنساني جدًّا، والذي هو- في نفس الوقت- مسؤولية كبيرة عليهم، يتركون الشعب الفلسطيني يَتَضَوَّر جوعاً، بمرأىً منهم، ومسمعٍ منهم، وعلمٍ منهم، لماذا؟ لأنَّه لم يأذن لهم الإسرائيلي أن يعطوه الخبز، أن يعطوه القمح، أن يعطوه المواد الغذائية، لم يأذن لهم بذلك، هم ينتظرون حتى يأذن الأمريكي والإسرائيلي في ذلك، هذا المستوى من التَّدَنِّي في موقفهم مؤسفٌ للغاية، ومُشَجِّعٌ للعدو الإسرائيلي، وللأمريكي.

العرب رسمياً، لم يراجعوا خياراتهم، وسياساتهم، التي قد ثبت قطعاً أنها غير مُجْدِيَة أصلاً؛ وإنما يُكَرِّرُونَها، يجتمعون في قِمة، يعلنون عن تَمَسُّكِهم بخيار السلام والمبادرة العربية، يعني: المبادرة السعودية القديمة، التي رفضها الإسرائيلي- أصلاً- ولم يقبل بها من وقته، مع ما فيها من التنازلات الكبيرة جدًّا، لكنَّه آنذاك رفضها، وأعلن [شارون] آنذاك رفضها بشكلٍ واضح.

العرب يعتمدون سياسة الاسترضاء للأمريكي، هذا على المستوى الرسمي، وهذه السياسة لم تُجْدِ شيئاً، البيانات لم تُجْدِ شيئاً، يُكَرِّرون المُكَرَّر، والذي قد ثبت أنه لا أثر له، ولا أهمية له، ولا نتيجة له، أصبح أشبه ما يكون بفعلٍ عبثي، تكرير ما ليس له قيمة، ما ليس له أهمية، ما ليس له أي فائدة، ولا يعطيه العدو أي اعتبار إطلاقاً، وليس له أي نتيجة إطلاقاً، أشبه ما يكون بأفعال عبثية.

هذه الخيارات لو كانت مجدية؛ لكانت قد أفادت حتى الآن فيما يتعلق بوضع سوريا، معلوم ما عليه التَّوَجُّه في سوريا، بالنسبة لتلك الجماعات المسيطرة في سوريا، هي: لا تتبنى العداء لإسرائيل، وتُصَرِّح بذلك، وتتبنى العداء لأعداء إسرائيل؛ لم ينفع ذلك، لم ينفع ذلك، هي لا ترد على ما يفعله العدو الإسرائيلي، بالرغم من جسيم ما يفعل: احتلال واسع للمناطق، قصف مُدَمِّر، قتل، جرح، وهي تسكت له عن كل ذلك؛ لم ينفع ذلك، لو كان خياراً مجدياً، لو كان التَّوَجُّه- بنفسه- الذي هو عليه توجُّهاً مفيداً؛ لكان الإسرائيلي قابله بطريقة مختلفة، وقال: [إذاً أنا سأتعامل معكم باحترام، سأنسحب مما كنت فيه من الجولان السوري]، وليس أن يُقْدِم على احتلال أراضٍ جديدة، [وسأتعامل معكم بِوُدّ، كما تتعاملون معي بِوُدٍّ واحترام]، لكنَّه قابل احترامهم بالهمجية والطغيان، قابل سكوتهم بالمزيد من الاعتداءات؛ ولـذلك خيارات غير مجدية.

السلطة الفلسطينية في الضِّفَّة كذلك، حالها معروف، الإسرائيلي يتنكَّر لكل اتِّفاقاته والتزاماته معها، معنى ذلك: أنَّها في اتِّجاه ليس مجدياً ولا مفيداً.

لـذلك ينبغي أن تشعر الأمة بمسؤوليتها، مسؤوليتها تجاه ذلك، نحن في شهر رمضان، شهر الصيام، وشهر الجهاد، وشهر التَّزَوُّدِ بالتقوى، وشهر نزول القرآن الكريم، وربيع القرآن، والأثر الذي هو معيارٌ للاستفادة من هذا الشهر المبارك هو:

زيادة الوعي والبصيرة من نور القرآن وهديه، مع الإقبال المُكَثَّف على تلاوته.

وكذلك منسوب الزيادة في التقوى، أن يزداد، أن يكون هناك زيادة في منسوب التقوى.

وكذلك في الشعور بالمسؤولية.

هذا مما ينبغي أن يكون من ثمار ونتائج وآثار شهر رمضان المبارك.

المسؤولية تجاه القضية الفلسطينية، وفي الموقف من الخطر الإسرائيلي، الذي يستهدف الأمة جميعاً، هي مسؤوليةٌ دينيةٌ على الأمة جميعاً، على الجميع، ليست على شعبٍ دون شعب، أو بلدٍ دون بلد، أو فئة دون فئة، أو مذهبٍ دون مذهب، هي مسؤولية على الجميع، وهي مسؤولية دينية، إلى جانب أنَّها مسؤولية إنسانية، ينبغي أن يقف العالم بكله معها، لكن بالنسبة للمسلمين هناك مسؤولية دينية، والتزام إيماني وأخلاقي، ومعنى ذلك: أن الالتزام تجاه هذه القضية هو جزءٌ من التزاماتنا الدينية، إلى جانب صلاتنا، وصيامنا، وأعمالنا التي هي من أعمالنا الدينية، والتي نعتبر أن الإخلال بها يترتب عليه جزاءٌ وحساب، نُسأل عنها يوم القيامة، ويجازينا الله يوم القيامة؛ لـذلك علينا أن ندرك هذه الحقيقة: أنها مسؤولية دينية، ليس التجاهل لها أمراً عادياً، أو التغاضي عنها أمراً عادياً.

العدو الإسرائيلي هو خطرٌ كبيرٌ جدًّا، على المسلمين جميعاً، خطورته عليهم شاملة، هو عدوٌ مجرم، بذلك المستوى من الإجرام والوحشية والدموية الذي تجلَّى في غَزَّة، لماذا لا يأخذ المسلمون العبرة؟ لماذا لا تترسَّخ لديهم هذه النظرة: أنه عدو بذلك المستوى من الخطورة؛ لأنه في غاية الوحشية، والإجرام، والدموية، عدوٌ يبيد الأطفال بدون أي رحمة، بدون أي ذرةٍ من الشعور الإنساني، يقتل النساء والأطفال، والكبار والصغار، بالقنابل، يُبِيدهم بكل وسائل الإبادة؛ بالتجويع، حتى بمنع وسائل التدفئة لهم؛ فيموت الأطفال، وهو يَتَلَذَّذ بذلك؟

عدو هو بذلك المستوى من الدموية والإجرام، كان يرسل الكلاب البوليسية على كبار السن والمرضى؛ لتنهشهم حتى الموت، كان يُقْدِم على الإبادة للمرضى وهم في المستشفيات، ويقوم بإعدامهم، بإطلاق الرصاص عليهم، بكل وسائل القتل والإبادة، يسفك الدماء بكل وحشية، دون أي اعتبار إنساني.

وعدوٌ طامع، لا أطمع منه، لديهم طمع رهيب جدًّا، وجشع رهيب، يسعى لاحتلال الأرض، هو يطمع في أرضكم يا أَيُّها العرب، في ثرواتكم، في بلدانكم، يسعى لاحتلال الأرض، يسعى لنهب الثروات، حتى الموارد المائية يسعى للسيطرة عليها، معروف ما يفعله الآن في سوريا، ومعروفٌ ما فعله حتى تجاه الأردن، وهو الآن يتحكَّم في مياه الشرب على الشعب الأردني، ومعلوم ما يتآمر به على العراق، وعلى مصر، في المسألة المائية بنفسها، يحاول أن يحاربكم حتى على شربة الماء، ينهب الممتلكات، ويسعى للسيطرة الكاملة على المنطقة؛ لكي يكون هو المتحكِّم بها، النافذ فيها، الذي يستبيحها ويفعل ما يشاء فيها.

يتحدث باستمرار عن التغيير لوجه الشرق الأوسط، حتى بالأمس المجرم [نتنياهو] يتحدث بهذا العنوان: التغيير لوجه الشرق الأوسط، يعني: بلدانكم أنتم، ماذا يقصد؟ هل تريدون أن ترونه يتحدث عن بلاد (واق الواق)، أو عن جزيرة وهمية في الأساطير؟! يتحدث عن بلدانكم أنتم أَيُّها العرب، وهذه الجملة واضحة في إيضاح نواياه، حينما يقول: [تغيير وجه الشرق الأوسط]، هو يواصل عمله وفق المشروع المشترك بينه وبين الأمريكي، وهو [المشروع الصهيوني]، ومشروع [إسرائيل الكبرى].

المشروع الصهيوني- للتذكير- يهــدف إلى:

أن تكون إسرائيل أكبر دولةٍ في المنطقة جغرافياً، بحيث تسيطر على الشام بكله، وأجزاء من مصر، وأجزاء من العراق، وأجزاء من السعودية، من السعودية (من الجزيرة العربية)، هذا أولاً: تكون دولة كبيرة جدًّا، أكبر دولة في المنطقة.

أن تكون بقية البلدان العربية مُقَسَّمَةً، ومجزأةً، ومبعثرةً، إلى دويلاتٍ صغيرة، على أساسٍ عرقي، وطائفي، ومناطقي، وتكون متناحرة فيما بينها، وأمة متعادية لم يبقَ لديها أَيٌّ من الروابط التي تجمعها، ولا تمتلك أي عناصر قوة تحميها من الإسرائيلي، وتكون مستباحةً له، يفعل فيها ما يشاء ويريد: يضع له قواعد عسكرية في أي منطقة يختارها، ويرى فيها أنها تناسبه استراتيجياً لقاعدة عسكرية، ينهب أي ثروة: سواءً نفطية، أو غيرها من المعادن، أو الثروات الوطنية في أي بلد، ويكون له ذلك، ولا يعترض عليه أحد، ولا يمنعه أحد، ويكون له أيضاً أن يستفيد من الثروة البشرية؛ لِيُجَنِّد من أراد لضرب من أراد.

أن تتحول واقع أمتنا إلى هكذا: منطقة مبعثرة في دويلات صغيرة، لا تمتلك أي عناصر قوة تحميها منه، وأن تكون مستباحةً له وللأمريكي:

مستباحةً في الدم: أن تكون هذه الأمة مستباحة في دمها للإسرائيلي، يقتل من يشاء منها دون رد فعل، دون رد فعل، ويقتل كم ما أراد، يعني: من أراد، وبالمقدار الذي يريد، حتى لو ارتكب إبادة جماعية هنا أو هناك، لا أحد يعترض، ولا أحد يتكلم.

ومستباحةً في العرض: لاغتصاب النساء، وهذه من الجرائم التي يمارسها العدو الإسرائيلي؛ ولاغتصاب الرجال، وهذه أيضاً من الجرائم التي يفعلها، ويرتكبها، ويتباهى بها، وينشر الفيديوهات لها حتى من سجونه.

ومستباحة المال والأرض: مستباحة الثروة، النهب، يريدها أن تكون على هذا النحو.

وأن تكون خاضعةً لأمره: يقرِّر ما يشاء فيها ويريد، في أي مجال من المجالات: يتدخل في شؤونها السياسية، يُعَيِّن هو مسؤولين أو حكاماً، يتدخل في مختلف شؤونها: في مناهجها الدراسية، في شؤونها الثقافية… وغير ذلك.

في المشروع الصهيوني السيطرة على المقدسات: هذا جزءٌ من المشروع الصهيوني اليهودي العدواني، المُقَدَّسات فيها: القدس، المسجد الأقصى، فيها مكة والمدينة… وغيرها من المقدسات.

وتغيير هوية الأمة، وإعادة صياغة الإسلام، بطريقة محرَّفة يُدَجِّن الناس، يُدَجِّن شعوب هذه المنطقة للإسرائيلي والأمريكي، ولا يبقى للإسلام أي أثر في النفوس والحياة؛ لأن الإسرائيلي في مشروعه الصهيوني والأمريكي، يعملان على أن يُفَرِّغان أبناء هذه الأمة من المحتوى الإنساني، لا يريدان لك أن تبقى إنساناً بإنسانيتك، بضميرك الإنساني، بشرفك الإنساني، بِعِزَّتك، بكرامتك؛ يريدان أن يحوِّلان هذا الإنسان العربي، إلى شبه إنسان، شبه إنسان، صورته صورة إنسان؛ لكنَّه فُرِّغ من محتواه الإنسان؛ فلم يبقى حُرّاً، ولا شريفاً، ولا عزيزاً، ولا كريماً، ولا غيوراً؛ يتحوَّل إلى إنسان مائع، فاسد، ضال، يعبئانه- فرمتة بعد الفرمتة- يعبئانه فكرياً وثقافياً بما يُدَجِّنه للأمريكي والإسرائيلي، يتحوَّل إلى مطيع لهم، ومتولٍ لهم، وخانعٍ لهم، وذليلٍ لهم، ومستسلمٍ لهم، وعبدٍ لهم، هذا كارثة بكل المقاييس!

يحاولان الإضلال، والإفساد، والتمييع للشعوب، حتى للشباب، يريدان للشباب هذه الأمة أن يتحوَّلوا إلى: صائعين، مائعين، تافهين، فاسدين، مجرمين، مدمني مخدرات… ضائعين بكل ما تعنيه الكلمة؛ وأن يُضَيِّعا من هذه الأمة كل القيم والمبادئ التي تصون هذه الأمة، تحفظ للإنسان كرامته، وعِزَّتَه، وشرفه الإنساني.

المشروع الصهيوني هو كارثي على الأمة، هو هكذا بهذه العدوانية، بهذا السوء الذي تخسر معه الأمة دينها ودنياها، إنسانيتها، وعروبتها… وكل شيء، هو كارثي على الأمة، هو مشروع حقيقي، يعني: ليس كلاماً بادَّعاءات على الإسرائيلي، دعايات عليه، لا، هذا هو مشروع موجودٌ لديه: في فكره، في ثقافته، في مناهجه التعليمية، في خططه؛ موجودٌ في أنشطته، ويبني عليه مؤامراته.

لـذلك يجب أن تتحرَّك الأمة لمواجهة هذا المشروع الوحشي، الإجرامي، التدميري، الكارثي، العدواني، بمشروعٍ صحيح، مشروعٍ عملي صحيح وجادّ؛ لأن نجاح المشروع الصهيوني متوقف على خنوع هذه الأمة، على تَقَبُّل هذه الأمة لهذا المشروع، الذي هو كارثيٌ عليها، ويجلب عليها حتى سخط الله.

لو رضيت هذه الأمة بكل ذلك: أن تكون أمةً مستباحة للإسرائيلي، بإجرامه، بوحشيته، بعدوانه، قبلت بالاغتصاب، قبلت بنهب الثروات، قبلت بالإذلال، قبلت بالإبادة، قبلت بكل هذا السوء، الذي لا ينبغي أن يقبله أي إنسان بقي فيه ذرة من إنسانيته، وشرفه الإنساني، وجوهره الإنساني؛ لو قبلت بذلك، ليس ذلك مفيداً لها؛ تجلب على نفسها سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ولعنة الله، وجهنم في الآخرة، وجهنم في الآخرة، المسألة خطيرة جدًّا على هذه الأمة.

الأمة يجب عليها أن تتحرَّك، ولديها كل مقومات التحرُّك، ليس هناك أي مُبَرِّر إطلاقاً للأمة لتقبل بالمشروع الصهيوني الإسرائيلي الأمريكي، ليس لديها أي مُبَرِّر، لماذا تقبل بذلك؟ هل تحاشيا من ماذا؟ تحاشياً من خطر؟ هذا هو الخطر بكله، قبولها بالمشروع الصهيوني الإسرائيلي الأمريكي هو أكبر خطر عليها، في حياتها، ودينها، ودنياها… في كل شيء، فما هو المُبَرِّر؟ لا يوجد أي مُبَرِّر.

هذه أمة لديها كل المقومات، التي تساعدها على أن تتصدَّى لهذا المشروع، وأن تفشله، وأن تبطله، ولديها السند العظيم هو: الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إذا نهضت بمسؤوليتها، وفق توجيهات الله وتعليماته؛ فهي ستنتصر، وتؤدي حتى دورها العالمي، في إنقاذ بقية الشعوب والمجتمعات، من الخطر اليهودي الصهيوني، الذي هو خطرٌ على الإنسانية بكلها، هذه الأمة لديها الثروة، لديها الجغرافي، لديها المجتمع البشري، لديها الثروة البشرية، هي مجتمع كبير، أمة كبيرة عظيمة، على المستوى العربي: (مئات الملايين)، على المستوى الإسلامي العالمي: (أكثر من ملياري مسلم)؛ فلماذا يقبلون بهذا المشروع العدواني؟

لدى هذه الأمة كل المقومات كأمة كبيرة، تساعدها على إفشال ذلك المشروع، وأن تكون في الموقف القوي؛ لإفشاله وإبطاله: الجغرافيا، الثروة البشرية، لديها الهدى والنور (القرآن الكريم)، الهدى والنور والبصائر، الذي يساعدها على أن تكون في رؤيتها، وفي خطتها العملية، وفي تُحَرِّكُها، قائمةً ومتحركةً على أساس بصيرة ووعي، وفهم صحيح، وقرارات صحيحة، وخيارات صحيحة مجدية، نافعة لهذه الأمة، تصلها بالله، بتأييده، بمعونته، وتفيدها على أرض الواقع.

لـذلك الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال عن القرآن الكريم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، وفعلاً الخيارات الأقوم، المواقف الأقوم، التَّوجُّهات الأقوم، التي يستقيم بها حال الأمة، وفي كل شيء.

لـذلك فتحرُّكنا في مسيرتنا القرآنية المباركة هو في إطار مسؤوليتنا الدينية، وشعبنا (يمن الإيمان والحكمة)، الذي قال عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، انطلق أيضاً من منطلق انتمائه الإيماني، وهويته الإيمانية، بوعيٍ وبصيرةٍ، وإدراكٍ لضرورة هذا الموقف، ضد ذلك الخطر، ضد ذلك العدو المجرم، المتوحِّش، المستهتر بالدماء.

تحرُّكنا في مسيرتنا، وتحرُّك شعبنا العزيز، في إطار الاهتداء بالقرآن الكريم، في إطار الوعي والبصيرة تجاه الخيارات الصحيحة:

الله كشف لنا في القرآن الكريم خطر أعدائنا، وماذا يريدون، وكيف هم، وكيف سوؤهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:82]، {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء:44]، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}[آل عمران:118]، {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[آل عمران:119]، كم في القرآن الكريم من آيات! التي تكشف حقدهم، عداوتهم، سوأهم، إجرامهم، نفسياتهم، يُقَدِّم تشخيصاً كاملاً عنهم، ويرسم لنا الطريق الصحيح للتصدِّي لهم، والواقع كله مصاديق تشهد لما ورد عنهم في القرآن الكريم، كله حقائق جَلِيَّة بما ذكره الله عنهم في القرآن الكريم.

كشف لنا عن تحالف فريق الشَّرّ من أهل الكتاب (من اليهود والنصارى)، وقال عنهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة:51]، وها نحن نرى أمريكا وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، وكلهما يتحرَّك في أطار المشروع الصهيوني، ويؤمن به.

حرَّم الله تولِّيهم (الموالاة لهم) أشدَّ التحريم، إلى درجة أن يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51].

بَيَّن أن ذلك يُفْضِي إلى الارتداد عن مبادئ الدين وقيمه، وعن تعاليم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفعلاً الموالاة لهم ثمنها التراجع عن مبادئ من أهم مبادئ هذا الدين، التخلِّي عن قيم من أهم قيم هذا الدين، التَّنكُّر لتعليمات الله تعالى.

رسم لنا برنامجاً كاملاً في (سورة آل عمران)، وفي (سورة المائدة)، للانتصار عليهم: وفي هذا المسار المهم، والبرنامج العظيم، بيَّن لنا أهم الخطوات والتفاصيل المتعلقة بها، وهي:

التولِّي لله تعالى، وامتداد ولايته إلى واقعنا.

والاعتصام به “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101]، وبحبله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103].

والسير على هديه وتعليماته.

والتقوى لله في الالتزام الإيماني، والالتزام في النهوض بمسؤولياتنا المقدَّسة: في الجهاد في سبيل الله تعالى بكل وسيلةٍ من وسائل الجهاد، في كل مجالات الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأمة تتحرَّك جماعياً، وتحذر التفرُّق والاختلاف في داخلها.

فالله تعالى سيتولَّى النصر لها، وستكون غالبةً بنصره وتأييده.

الأمة في هذه المرحلة بحاجة إلى الله تعالى، وإلى معونته، ونصره، وهدايته، وبحاجة إلى القيم والأخلاق، في مواجهة عدوٍ مفسدٍ مُضِلٍّ، يسعى للإضلال، للإفساد، تحتاج الأمة أن تكون مُحَصَّنةً عنه من ذلك، مُجْرِم، يعمل امتداداً للشيطان، يسعى بكل الوسائل إلى تجريد الأمة من كل عناصر قوتها، وفي مقدِّمتها: عناصر القوة المعنوية، والجانب المعنوي؛ لأنه يريد أن يسلب إرادتها، ويريد أن يُفَرِّغها من محتواها الإنساني والإيمان؛ ليسهل له السيطرة التامة عليها، ثم بعد ذلك إبادتها.

الأمريكي جرَّب، والغرب جرَّب، الإبادة لشعوب بأكملها في القارة الأمريكية، لم تكن تلك الشعوب تمتلك ما لدى المسلمين، من قيم، من مبادئ، تُرَسِّخ هذا التَّوَجُّه التَّحَرُّري والإيماني، وتصلها بالله؛ ولـذلك أبادوا، يعني: في بعض الإحصائيات أن تلك الشعوب تُقَدَّر بـ(مائة مليون إنسان أُبيدت)، أبادها الأوروبيون في القارة الأمريكية، وهم يريدون تكرار هذه التجربة في بلداننا، لكن العائق أمامهم هو الإسلام.

الإسلام هو الذي جعل الشعب الفلسطيني في ذلك المستوى من التماسك والثبات، جعل أهل غَزَّة في ذلك المستوى من الصمود، والصبر، والثبات؛ فيريدون أن يُفَرِّغُونا من المحتوى الإنساني والإيماني؛ ليبيدونا فيما بعد ذلك، بعد أن نكون أمة مائعة، تائهة، ضائعة، بكل سهولة.

نجاح العدو في فصل التَّوَجُّه في الموقف عن المبادئ، والقيم، والأخلاق الدينية، هو الذي يصنع له الكثير من العملاء؛ فتتحول الخيانة، والعمالة، والتعاون مع العدو الإسرائيلي والأمريكي، إلى وجهة نظر وخيار سياسي؛ لأن المسألة فُصِلت عن الالتزامات الإيمانية والدينية، عن القيم والأخلاق والجانب الإنساني، وهذا ما يرغب به المنافقون من أبناء هذه الأمة؛ لِيُسَهِّلوا لأنفسهم المسألة.

إن من نعمة الله تعالى هو التوفيق لأن نكون في الموقف الصحيح ضد ذلك العدو:

هذا مهم لإنسانيتنا؛ لنبقى فعلاً بشراً، ويبقى الإنسان إنساناً؛ ولشرفنا، ولقيمنا، ولأخلاقنا، من نعمة الله أن نكون ضد العدو الإسرائيلي، ضد إجرامه، ضد وحشيته، ضد سوئه، ضد طغيانه؛ وكذلك الأمريكي معه.

مهمٌ أيضاً لعِزَّتنا الإيمانية، لرشدنا، لبصيرتنا، لحكمتنا.

ومهمٌ أيضاً لأنه الخيار الصحيح في الواقع، الذي له نتيجة تبني الأمة، وتحمي الأمة، وتحمي شرفها.

أمَّا التضحية في هذا السبيل، فهي أقل بكثير من كلفة الخيارات الأخرى، في الخيانة والاستسلام، الاستسلام والخيانة كلاهما يمكنان العدو، ثم يفعل ما هو أكثر من الإبادة العامة للأمة.

لـذلك الخيار الإيماني هو خيارٌ صحيح، يُعَبِّر عن الثقة بالله تعالى، خيارٌ فعَّال له أفُقٌ حقيقي، وعليه ضمانة من الله تعالى، عليه ضمانة، الضمين لنا في هذا الخيار الذي نحن فيه هو من؟ هو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونحن نثق به، ونثق بوعده، فالعدو الإسرائيلي مهما بلغ إجرامه وطغيانه، مهما كان حجم الدعم الأمريكي له والغربي؛ هو إلى الزوال، هذا وعد الله المحتوم، وأتى مقروناً حتى بخبر تمكُّنه، حينما قال الله: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:4]، أتى أيضاً بخبر نهايتهم وزوالهم، على يد عبادٍ لله أولي بأسٍ شديد، عُلُو العدو الإسرائيلي هو إفساد، إفساد في الأرض غير قابل للبقاء، تكبر وظلم وإجرام غير قابل للبقاء، الله يقول: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}[الإسراء:7]، هو القائل: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}[الإسراء:8]، فالله يعود، يعود لقلع فسادهم.

العدو الإسرائيلي هو كيانٌ مجرمٌ فاسد، موبوء، مُصَدِّرٌ لِلشَّرّ ومفسد، وواقعه عند هزَّة (طوفان الأقصى) وما قبلها يكشف ما هو عليه من الاهتزاز، ليس له جذور ثابتة، لديه هاجس النهاية بشكلٍ دائم، وبشكلٍ مستمر؛ ولـذلك هو يعتمد على العدوان، والإجرام، والإبادة، والشَّرّ كأساس لبقائه مُؤَقَّتاً، وهو يدرك أن بقاءه ليس سوى بقاء مُؤَقَّت، يعتمد على تخاذل الأمة، وعلى الدعم الغربي، لا يمتلك مقومات ذاتية للبقاء، هو في حالة احتلال ونهب، يعرف أنه على أرض غيره، وفي غير بلده؛ ولـذلك فالموقف الصحيح هو نعمة وشرف، ويجب الثبات عليه.

فيمــا يتعلــق بالعــدوان الأمريــكي على بلدنـــا:

هو عدوانٌ واضح، ليس له أي مبرر؛ لأن المنطق الأمريكي أحياناً يُسَمِّي عدوانه على بلدنا بـ[الدفاع]، أيُّ دفاع؟ متى اعتدينا على الأمريكي؟ الأمريكي هو الذي ابتدأ عدوانه علينا:

أولاً: خلال (معركة طوفان الأقصى)، قام هو بالابتداء بالعدوان علينا؛ إسناداً منه للعدو الإسرائيلي، كان موقفنا واضحاً وحصرياً ضد العدو الإسرائيلي، فقام هو بالعدوان علينا؛ ثم نحن نَتَصَدَّى لعدوانه ونرد عليه.

وفي هذه المَرَّة، أعلن عن جولة تصعيدية في العدوان علينا من جديد، وابتدأنا بعدوانه؛ ونحن نرد عليه ونتصدَّى لعدوانه.

فهو في موقف عدواني، ليس له أي مستند، لا قانوني، حتى في القوانين الأمريكية والدستور الأمريكي هو مخالفٌ له، مخالفٌ أيضاً للإنسانية، للضمير، هو في حالة عدوان؛ إسناداً منه للعدو الإسرائيلي.

عدوانه علينا؛ بهدف التأثير على موقفنا، وموقف شعبنا، وهذا هو المستحيل، عدوانه علينا مهما كان، مهما بلغ؛ لن يؤثِّر أبداً على موقفنا، ولن يُغَيِّر من موقفنا، ولا من موقف شعبنا العزيز، ولن يكسر إرادة شعبنا، ولن يؤثِّر على قدراتنا؛ بل سيسهم- كما أَكَّدْتُ ذلك- في تطويرها أكثر وأكثر، وهناك بشارات قادمة في هذا الأمر.

بحمد الله، بقوة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بعونه ونصره، هناك تصدٍ قوي للعدوان الأمريكي، واستهداف مستمر لقطعه البحرية في البحر، وهي تهرب باستمرار إلى أقصى شمال البحر الأحمر، وإعلانه عن استقدام حاملة طائرات أخرى هو يُثْبِت فشله، وعدم نجاحه؛ لأنه يقول: أن عدوانه ناجح؛ هو غير ناجح أصلاً.

فيمــا يتعلـق بيـوم الصمـــود الوطنــي:

أتى هذا العام على مقربة من مناسبة (يوم القدس العالمي)؛ ولأن الموضوع مترابط- العدوان على بلدنا؛ لموقفه مع القدس، مع فلسطين- بقي الخروج الشعبي لـ(يوم القدس)؛ حتى لا يكون هناك خروج قريب في يوم، ولفارق يوم آخر، ثم خروج في يومٍ ثالث.

وفيما يتعلق بهذا الموضوع، أنا أكتفي بكلمة الأخ الرئيس “حَفِظَهُ اللَّه”، قد ضَمَّنها ما يكفي ويفي بشأن هذا الموضوع.

العدوان على بلدنا من بدايته هو أمريكي، أُعْلِن آنذاك من واشنطن، وكان بأدوات إقليمية، والهدف منه: خدمة إسرائيل؛ ولـذلك نصيحتنا لتلك القوى الإقليمية: أن تحذر من التوريط الأمريكي لها، وأن تدرك أن هَمَّ الأمريكي هو الاستغلال لها، ولا يريد إلا السعي لتمكين الإسرائيلي.

في الختــــام، نُؤَكِّد على الثبات على موقفنا المناصر للشعب الفلسطيني، وإسناد غَزَّة، والسعي لتحرير فلسطين كُلِّ فلسطين، واستعادة المُقَدَّسات، وعلى رأسها (المسجد الأقصى الشريف).

أدعو شعبنا العزيز إلى الخروج المليوني العظيم، في (يوم القدس العالمي)، عصر غد الجمعة إن شاء الله، في العاصمة صنعاء، وفي بقية المحافظات.

هذا الخروج في هذه المرحلة، في هذا التوقيت، في طار الموقف العظيم لشعبنا العزيز، هو جزءٌ من الجهاد في سبيل الله تعالى.

شعبنا العزيز، هذا الخروج هو من أعظم ما تتقرَّبون به إلى الله في شهر الصيام، في هذا الشهر الكريم، هذا الخروج يُعَبِّر عن وفائكم، عن ثباتكم، عن شجاعتكم، وهو غيظٌ وقهرٌ للأعداء الأمريكان والصهاينة.

آمل- إن شاء الله- أن يكون الخروج واسعاً، وكبيراً، وعظيماً، كما هو المعتاد منكم، يا من تكثرون تحت الرايات، أنتم الأنصار، كما كان آباءكم وأجدادكم الذين حملوا راية الإسلام في مواجهة التحديات.

أَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: الأمریکی والإسرائیلی الصهیونی الإسرائیلی الفلسطینی فی قطاع غ للشعب الفلسطینی فی الشعب الفلسطینی فی ضد الشعب الفلسطینی ه العدو الإسرائیلی القضیة الفلسطینیة یوم القدس العالمی شهر رمضان المبارک الإبادة الجماعیة المشروع الصهیونی للعدو الإسرائیلی فی القرآن الکریم الفلسطینی فی غ ز المرحلة الأولى ذلک المستوى من ة طوفان الأقصى الإسرائیلی ا شعبنا العزیز الإسلامیة فی هذا المشروع الأمریکی هو هذا المستوى على المستوى هذه المرحلة الأمم الم ت فیما یتعلق الله تعالى لیس له أی م بها عالمیا فی قطاع غ ز فی العالم غیر مسبوق فی أمریکا بکل وسائل هذه الأمة فی الموقف ع ل ى آل ت ع ال ى س ب ح ان ه وأن تکون بما علیه آل عمران ینبغی أن ما علیها مع العدو وغیر ذلک فی سوریا ما یتعلق هذا الات التی هی ذلک الم کذلک فی الذی هو أن یکون ما یشاء أن تکون أی م ب ر أکثر من ما علیه من أراد من جدید فی إطار غیر ذلک هذه الم کل شیء ة الله ذلک فی فی ذلک حتى فی فی هذا ما کان ة التی بکل ما ة بشکل من الت دون أی تکون م هو الم من الم ما بین ار الم فی هذه

إقرأ أيضاً:

الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

#الأيديولوجية_الدينية في #الصراع_الفلسطيني ـ #الإسرائيلي

الدكتور #حسن_العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

تمثل القومية ـ باعتبارها مرجعاً قوياً للهوية ـ عنصراً مهماً في تطور وتصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. علاوة على ذلك، وضمن السرديات الأوسع للقومية، تلعب القومية الدينية خاصة، والتي تتمثل في دمج الدين في السرد القومي، دوراً رئيسياً أيضاً، لأنها تضيف الشرعية الأخلاقية إلى القومية وافتراضها المرتبط بالقيمة العليا والمقدسة للدولة القومية.

مقالات ذات صلة في حب الملك..! 2025/04/23

إن دور الدين في السياسات الوطنية أخذ في التصاعد منذ تسعينيات القرن الماضي. لقد انتقل دور الدين في الشرق الأوسط ـ بصورة عامة ـ بشكل متزايد إلى صدارة التاريخ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001. وقد أثيرت أسئلة مهمة بشأن الدور الذي يلعبه الدين في تعزيز فرص السلام أو إدامة وتصعيد الصراع. بلا شك إن الديانات التوحيدية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية عززت تاريخياً الصراع والسلام، مما يجعلها متناقضة. فحين تعكس كل هذه الديانات سرداً وقيماً للسلام، إلا أنها أصبحت أيضاً طرفاً في العديد من الصراعات عبر التاريخ. وكانت الكراهية القائمة على الاختلافات العرقية والدينية في جذر العديد من الحروب عبر التاريخ، بما في ذلك الحروب الصليبية في العصور الوسطى (المسيحيون الأوروبيون مقابل المسلمين العرب)، وحرب الثلاثين عاماً (الكاثوليك مقابل البروتستانت)، والتي دمرت أوروبا في القرن السابع عشر. لقد أصبح الدين متشابكاً مع تكثيف الصراع والعنف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وينعكس هذا الاتجاه أيضاً في جوانب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

يمكن بوضوح الإشارة إلى اليهود الأرثوذكس والصهاينة المتدينون المتشددون كمجموعة أدرجت الدين في هويتها الوطنية ورؤيتها للصراع بما يتجاوز الأطر القومية التي جعلت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد. بحيث أصبح فيها الدين محفزاً للصراع، وأداة إضافية للتحريض على قتل وإبادة الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم وطردهم من وطنهم.

مراجعة الأدبيات

إن فهم دور الدين في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتطلب فهماً للصراع القومي الأوسع الذي يدور حول العرق بين الجانبين. ويوفر هذا الأخير السياق للبحث في الطرق المختلفة التي يتعامل بها أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية على التوالي مع وظيفة دينهم في الصراع. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه في حين أن القومية ونهجها العرقي تجاه الدولة يشكلان محركاً مركزياً في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن القومية ليست فريدة من نوعها بالنسبة للجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني، حيث إن القومية هي سرد رئيسي يربطه العلماء بالتطور التاريخي للحداثة وظهور الدول القومية. ولهذا السبب، من الضروري مراجعة الأدبيات حول الخصائص الأساسية للقومية كحجر أساس للتركيز على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووظيفة الدين في داخله.

إن موسوعة الهوية تعد أحدث مجموعة من الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، تسلط الضوء على القومية باعتبارها أحد المراجع المركزية للهوية. وتشير الموسوعة إلى مجموعة واسعة من المراجع المتعلقة بالهوية، من الطبقة إلى العرق إلى الجنس، إلخ. ومع ذلك، باعتبارها سرداً حداثياً لتكوين الهوية، فإن القومية لها دور بارز في الصراع من خلال ارتباطها بالدولة القومية.

وسواء كانت في الرؤى العلمانية أو الدينية، ينظر العلماء إلى القومية باعتبارها واحدة من أقوى القوى في العالم الحديث. فما هي الخصائص الرئيسية لهذه السرد القوي؟

إن مفهوم القومية متأصل في الحياة اليومية لمواطني الدول القومية الحديثة. إن الفخر الذي يشعر به الناس تجاه الإنجازات الوطنية، والتعبيرات التي يبديها السياسيون عن “المصالح الوطنية” في تبرير السياسات، والرموز التي تستخدمها الدول للتعريف بالذات (مثل الأعلام، والأناشيد الوطنية، والآثار) هي إشارات سائدة للقومية باعتبارها هوية جماعية، وتساعد في خلق وعي وطني بين الأفراد المختلفين. وفي حين كانت القومية ضرورية لبنية الدول القومية الحديثة ويمكنها أن تلعب دوراً حتمياً عندما تواجه المجتمعات أوقات الأزمات، فإنها يمكن أن تدفع الناس وقادتهم أيضاً إلى النظر إلى دولتهم على أنها معصومة عن الخطأ ولا تشوبها شائبة، مما يبرر استخدام القوة والعنف للتعامل مع الخصوم الحقيقيين أو المفتعلين.

وقد تضاعف الاهتمام البحثي بمفهوم القومية بشكل كبير خلال الثمانينات واستمر حتى يومنا هذا. ركزت الدراسات السابقة على القومية الأوروبية باعتبارها القوة الدافعة التي أدت إلى الحربين العالميتين، ولكن في الآونة الأخيرة كان هناك المزيد من التركيز على الأمثلة غير الغربية، وخاصة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. في الشكل الكلاسيكي للقومية، والذي ينطوي على إنشاء الدول ذات السيادة والحفاظ عليها، فإن الولاء للأمة له الأسبقية على جميع الولاءات الأخرى، مثل الروابط الإقليمية أو المحلية أو القرابة. وعلى النقيض من القومية الكلاسيكية، من المرجح أن تثير الدول ما بعد القومية حقوق الفرد والإبداع وتنوع المجتمعات داخل الأمة باعتبارها أساسية للديمقراطية.

في القومية، تتمتع فكرة الأمة بالسيطرة على الناس والتي ربما يمكن فهمها بشكل أفضل على أنها نتيجة للخصائص المبالغ فيها التي يروج لها العقل القومي ويمنحها للدولة القومية. وبصرف النظر عما إذا كانوا يرون القومية كقوة إيجابية أو سلبية، فإن العلماء عادة ما يعترفون بأن الأمة في القومية تحتل أعلى مرتبة، وتُنظر إليها باعتبارها الوكالة العليا للأهمية والهوية الجماعية والتبرير الأخلاقي. لقد لاحظ المفكر اليساري البريطاني “إريك هوبسباوم” Eric  Hobsbawm بشكل نقدي أن إحدى الطرق القوية التي تكتسب بها القومية صفة الإثبات التاريخي هي من خلال افتراضها أن الأمة مقدسة. فيما ذهب البعض إلى اعتبارها بديلاً للدين. ويمكن تطبيق هذا التصريح على القوميات التي جسدت الدين التقليدي كجزء من بنيتها العقلية للقيم (على سبيل المثال، القوميات الصربية واليونانية والهندوسية والإسلامية والأيرلندية البروتستانتية والأيرلندية الكاثوليكية) وكذلك على القوميات العلمانية التي تهدف إلى إلغاء الدين التقليدي من هياكل قيمها للهوية الوطنية (على سبيل المثال، القوميات التركية والفرنسية والمصرية والسورية).

وفيما يتصل بالنهج القومي للتاريخ، فقد تم إضفاء طابع طقوسي على إسناد القداسة إلى فكرة الأمة في تمثيل الزعماء الوطنيين، وفي الاحتفالات العامة ذات التوجه العرقي، وفي السرديات الرئيسية للأعمال الشجاعة الوطنية التي تركز على الإنجازات غير العادية، والتي تسلط الضوء عليها الثورات والحروب وقصص الأعمال البطولية. وتدمج هذه السرديات القومية للتاريخ حقائق تاريخية مختارة في أساطير المجد الوطني والعظمة والمصير الملزم والعظمة، وتربط بين هذه الأساطير والحكايات. إن القومية، من خلال تصور مبالغ فيه للأمة، تبرز صورة مجيدة للأمة، وتضعها في ماضٍ بدائي فائق، تحول بالضرورة إلى حاضر مقنع ملزم بالواجب، ومستقبل لا نهائي وعظيم. بكل هذه الطرق، تُطور القومية مفهوماً أحادي المركز ونرجسياً لعالم حياة الأمة، وتصمم صورة لتاريخ الأمة تحدد “الخير” بأمتها و”الشر” بـ “الآخر”، وتحديداً “العدو الآخر”.

كان الجانب الأكثر إشكالية في القومية على المستويين الوطني والدولي هو قدرتها على ربط التفكير الأخلاقي واستخدام القوة / العنف، وخاصة في وقت الصراع. بطريقة فريدة من نوعها. لقد أسست القومية تاريخياً الحق في استخدام القوة/العنف في المنطق الأخلاقي القائل بأن الأمة هي القيمة الجماعية النهائية والأساس الضروري للمجتمع، والهوية، والأمن، والرفاهية. وقد جعل هذا التكوين من المعتقدات والأفعال القومية مُشرعاً قوياً لاستخدام القوة والعنف طوال التاريخ الحديث ومعظم تاريخ ما بعد الحداثة. تكشف أبرز رموز القومية، بدءًا من الأناشيد الوطنية والأعلام الوطنية والآثار والتأريخ، عن رموز وتتضمن سرديات الحرب والثورة والبطولات وسفك الدماء كمراجع عليا للهوية الوطنية والمجد والشرف.

تعمل القومية على افتراض أن بنية الهوية هي عرقية أحادية البعد بشكل حصري وأساسي. ويوضح المؤرخ الكندي “مايكل إغناتييف” Michael Ignatieff وهو باحث مشهور في القومية العرقية، أن: “القومية، باعتبارها مثالاً ثقافياً، هي الادعاء بأن الرجال والنساء لديهم هويات عديدة، ولكن الأمة هي التي تزودهم بالشكل الأساسي للانتماء”. ويشير إغناتييف كذلك إلى أن القومية هي أقوى حافز وشرعية للعنف المميت واستخدام القوة المميتة. كما يؤكد أنه على عكس المراجع الأخرى للهوية والانتماء، مثل الأسرة أو المهنة، تقدم القومية سردًا يمكنه اللجوء بسهولة إلى مبررات للعنف. ويشير إلى أنه ليس من الواضح “لماذا يجب أن تكون الهوية الوطنية عنصراً أكثر أهمية للهوية الشخصية من أي عنصر آخر؛ ولا من الواضح أيضاً لماذا يبرر الدفاع عن الأمة استخدام العنف”. وهذا يعني ضمناً أنه على عكس جوانب أخرى من الهوية، تفسر القومية الهوية الوطنية على أنها عليا ومقدسة، وبالتالي تستحق التضحية البشرية.

عند النظر إلى الحروب والعنف الذي اجتاح الشرق الأوسط في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، باعتبارها السياق الأوسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتكشف، نلاحظ تكثيف القوميات المتنافسة داخل المجتمعات وبينها. وقد شكل انتكاس القومية في المنطقة، وبشكل أكثر تحديداً صعود القومية الدينية والتشدد، تحديات جديدة خاصة في مواجهة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وفي بعض الأحيان في التحالف معها.

عند الحديث عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على وجه التحديد، تدور صراعات الهوية حول تكوينات الهوية الوطنية للمجموعات المعنية. نؤكد على فكرة أن الصراعات القائمة على الهوية تحتوي على عناصر أساسية تستند إلى الرفض المتبادل لشرعية الجانب الآخر خوفاً من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تقويض شرعية المرء وقيمه ومطالباته. في الماضي غير البعيد، كان الإسرائيليون يخشون أن يؤدي اعتبار المطالبات الفلسطينية مشروعة أو تؤخذ على محمل الجد إلى تقويض المطالبات الإسرائيلية. وكان لدى الفلسطينيين نفس المخاوف بشأن الإسرائيليين. وبالتالي، كان يُنظر إلى الوضع والتنازل عن الموارد والأراضي على أنهما محصلتهما صفر، وذلك في المقام الأول بسبب المخاوف والشكوك المتبادلة بشأن الاعتراف بالهوية. لكن الإسرائيليون يتناسون أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الأصليين، وأن الصراع بينهم وبين الفلسطينيين ليس على أشياء مُتنازع عليها، إنما هو صراع بين مُستعمر مُحتل، يُحاول أن يبني سرديته فوق الأرض التي يحاول أن يدفن تحتها الرواية الحقيقية لمظلومية الشعب الفلسطيني.

أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع على أصول مادية حقيقية، مثل الأراضي والمياه والحدود والأمن وما شابه ذلك. وفيما يتعلق بكون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراعاً على الهوية، فإن هذا الصراع هو صراع يرى فيه كل جانب الهوية الوطنية للجانب الآخر كتهديد، أو كترجمة لهذه الهوية إلى المجال السياسي – أي إلى “دولة قومية” – كخطر على هويتها الوطنية المستقلة. وبالتالي فإن أحد الجانبين يرفض بالتالي التعريف إذا كان الجانب الآخر كأمة، أو على الأقل، ينكر حقه في تحقيق هذه الهوية في سياق الدولة الوطنية. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ في جوهره ـ ليس فقط صراع على الهوية لأن أصله وسبب استمراره متجذران في إنكار كل جانب لقومية الجانب الآخر، ومطالبة كل جانب بالحق في إنشاء دولته القومية العرقية، بل هو صراع سببه قيام إسرائيل باحتلال وسرقة الأراضي الفلسطينية وطرد السكان الأصليين ومصادرة ممتلكاتهم بغير وجه حق.

وبشكل أكثر تحديداً يتم وضع دور ووظيفة الدين في سياق الإطار المذكور أعلاه للصراع القومي الإسرائيلي الفلسطيني، لذلك من الطبيعي أن يتخذ دين الجانبين علاقة معينة بالقومية. هناك نوعين رئيسيين من القوميين الدينيين: العرقي والأيديولوجي. يهاجم القوميون الدينيون العرقيون الأعراق المنافسة، بينما يهاجم القوميون الدينيون الإيديولوجيون العلمانية داخل بلدهم (الحكومة والمؤيدين) أو الأديان المنافسة. فإذا كان النهج العرقي للقومية الدينية يسيّس الدين من خلال استخدام الهويات الدينية لأغراض سياسية، فإن النهج الإيديولوجي للقومية الدينية يفعل العكس: إنه يضفي طابعًا دينياً على السياسة. ومن الضروري فهم هذا الأمر لأنه يشير إلى الطريقتين الأساسيتين اللتين يتم بهما دمج الدين في السياسة الوطنية، وتشكيلات الهوية الوطنية.

الهجرة الدينية والاتجاهات الصاعدة

يحاول بعض الباحثين إقناع الجمهور في أن الإيديولوجيات الدينية في كل من القوى الدينية الفلسطينية واليهود الأرثوذكس تمثل عنصراً رئيسياً في كيفية نظرهم إلى سياساتهم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. والتأكيد بشكل متكرر على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتعلق بشعبين يتقاتلان على نفس قطعة الأرض، وبالتالي فقد تم اعتباره أيضًا صراعاً جيوسياسياً دينياً ووطنياً. لكن الحقيقة التي يتم تجاهلها أن فلسطين كانت تسكنها تاريخياً اغلبية عربية مطلقة، ويعيش بجوارها اقلية قليلة من اليهود. وبسيطرة بريطانيا على فلسطين بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تحكم هذا الجزء من الشرق الأوسط، في الحرب العالمية الأولى وفي نفس العام أي في 1917 أرسل “آرثر جيمس بلفور” Arthur James Balfour وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى البارون “ليونيب وولتر دي روتشيلد” Lionel Walter Rothschild وفي هذه الرسالة قدم بلفور تعهداً بدعم بريطاني لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، أي أن بريطانيا قدمت فلسطين التي لا تملكها إلى الحركة الصهيونية التي أعلنت قيام دولة إسرائيل عام 1948 وطرد مليون فلسطيني من منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم بما يعرف بالنكبة.  ولكن الدين في تلك الفترة لعب دوراً ثانوياً نسبياً قبل أن يصبح أكثر حضوراً بعد حرب 1967. وسيكون من الخطأ القول إن الدين كان غائباً تماماً عن الصراع لأن عدداً من اليهود انتقلوا إلى فلسطين لأسباب دينية.

بعد الهزيمة التي مني بها العرب عام 1967 بدأ اليهود المتدينون يعتقدون أن انتصاراتهم كانت علامة من الله على أن المسيح في طريقه. لقد اعتقدوا أن انتصارهم كان علامة من الله لمضاعفة جهودهم في استيطان كل الأراضي لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. وجد العديد من اليهود المتدينين المعروفين بالصهاينة اليمينيين تمثيلهم أثناء تشكيل حركة “غوش إيمونيم” Gush Emunim وهي حركة ناشطة إسرائيلية يمينية ملتزمة بإنشاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. نشأت حركة غوش إيمونيم بعد هزيمة عام 1967، وشجعت الاستيطان اليهودي في الأرض على أساس الاعتقاد بأن الله أعطاها للشعب اليهودي وفقًا للتوراة” لم تعد حركة غوش إيمونيم موجودة رسمياً، لكن آثار نفوذها لا تزال قائمة في المجتمع الإسرائيلي.

تسببت هزيمة حرب عام 1967 موجات صدمة في العالم العربي، وأُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم دون أي استحقاق للعودة. لقد أدرك الفلسطينيون أنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على جامعة الدول العربية، ولجأوا في النهاية إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) عام 1964. ووضع الشعب الفلسطيني كل آماله على منظمة التحرير في محاولته لاستعادة أرضه. لكن التحرير بدا أمراً معقداً تدريجيًا في الزقت الذي بدأ فيه المستوطنون الإسرائيليون يبنون المزيد من المستوطنات في غزة والضفة الغربية. ولقد ازداد عدد المستوطنين بسرعة على مر السنين، من أقل من 1200 مستوطن في الضفة الغربية في عام 1972، إلى أكثر من 44 ألف بحلول عام 1985. أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية غير فعّالة في نظر جزء من الشعب الفلسطيني، فبدأوا تدريجياً في البحث عن قيادة أقوى. ثم انطلقوا بحثاً عن حركة جديدة تعالج حاجتهم إلى استعادة ما اعتبروه وطنهم الشرعي. وهكذا تحول جزء من الفلسطينيين إلى الإسلام السياسي. وفي شكل القومية الدينية، انفجر الإسلام السياسي في طليعة التاريخ مع الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الإطاحة بالشاه في عام 1979. مما أدى إلى ترسيخ القومية الإسلامية الشيعية التي حفزت المسلمين المتدينين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك عدد كبير من الفلسطينيين على الرغم من حقيقة أنهم كانوا من المسلمين السنة.

 تم تشكيل حركة الجهاد الإسلامي في الفترة ما بين عامي 1985 و1986وتأسست حركة حماس (التي تعني اختصاراً “حركة المقاومة الإسلامية”) في عام 1988، وكانت فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين، ونمت نتيجة رد الفعل على الاحتلال الإسرائيلي القمعي وعنف المستوطنين اليهود في الضفة الغربية. نمت حماس واشتدت بشكل مطرد بحيث فازت بالانتخابات الفلسطينية في عام 2006 بحصولها على 76 مقعداً في المجلس التشريعي البالغة من أصل 132 بينما حصلت حركة فتح على 43 مقعداً، والجبهة الشعبية على ثلاثة مقاعد.

يعود فوز حركة حماس إلى عدة أساب أبرزها:

أولاً: ضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم فعاليتها في تخفيف ظلم الاحتلال الإسرائيلي، وفشلها في بذل أي جهد لوقف نمو المستوطنات. بحلول عام 2006، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى ما يزيد عن 260 ألف. وعلى النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية، كان يُنظر إلى حماس باعتبارها قوة ضد المستوطنين وباعتبارها أثرت على القرار الإسرائيلي بالانسحاب من غزة في عام 2005.

ثانياً: خلقت السلطة الفلسطينية سمعة سلبية لنفسها بسبب الفساد والمحسوبية، وعلى النقيض من حماس التي طورت سمعة من الصدق والنزاهة.

ثالثاً: قيام حماس ببناء أساس متين من الثقة المتبادلة بينها وبين فئات عديدة من الشعب الفلسطيني. لقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى إحداث تغييرات إيجابية في حياة الفلسطينيين من خلال تشغيل برامج اجتماعية مثل المساجد، والمدارس، ومطاعم الحساء، والعيادات.

وبحلول الوقت الذي نشطت فيه حماس، كانت الصهيونية الدينية اليمينية حاضرة بقوة وبشكل كامل على الجانب الإسرائيلي، ترتكب أشنع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى إبادته. كان الصهاينة المتدينون المتطرفون ينظرون إلى اللجوء إلى العنف على أنه مبرر أخلاقياً. ويعتقد قادتهم أن الله يؤيد أجندتهم الوطنية، وأن الله أعطاهم كل أراضي المنطقة، وأن الله يريد أن يؤمنوا الأرض ودولتهم من خلال جميع الوسائل بما في ذلك القوة المميتة والعنف. مثل هذه الافتراضات في السرديات القومية الصهيونية جعلت من السهل نزع الصفة الإنسانية عن “الآخر” وتبرير قتله.

دور الدين في إسرائيل ـ الأيديولوجية الصهيونية الدينية

يعتبر الفصيل اليهودي الأرثوذكسي الجماعة الدينية الأصولية في إسرائيل. وداخل مجموعة اليهود الأرثوذكس، هناك ما يسمى بالصهاينة. لا تمتلك الصهيونية أيديولوجية موحدة، ولكنها تطورت من خلال التفاعل بين عدد كبير من الأيديولوجيات، إحداها الصهيونية الدينية. فقبل تأسيس دولة إسرائيل، كان الصهاينة الدينيون في الأساس يهوداً ملتزمين (يهود يلتزمون بقواعد وأهداف التوراة) الذين دعموا الجهود الصهيونية لبناء دولة يهودية في فلسطين.  تركزت هذه الأهداف أولاً على إنشاء دولة يهودية في عام 1948 تم استخدام الحجج التاريخية واللاهوتية والوطنية والوجودية والسياسية والمجتمعية والثقافية لتبرير هذه الأهداف، وتبرير احتلالها لفلسطين وطرد سكانها العرب الأصليين.

الأرض كانت ولا زالت هي محور الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهي قضية مهمة للغاية لدرجة أن الهيئات الدولية تناولتها. حيث يعتبر المجتمع الدولي المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل غير قانونية بموجب القانون الدولي، وذلك بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبموجب الشرعية الدولية أيضاً. ومع ذلك، ففي نظر القوميين المتدينين الصهاينة، فإن التفسيرات الدينية تتجاوز القانون الدولي.

إن وجهات النظر من المنظور الصهيوني الديني تلعب دوراً هاماً في التعامل مع الحقوق الإقليمية في المنطقة، وخاصة من جانب الشخصيات الصهيونية السياسية. ومن الأمثلة على ذلك “مائير كاهانا” Meir Kahane الحاخام الإسرائيلي الأمريكي الأرثوذكسي، والسياسي القومي المتطرف، ومؤسس حزب «كاخ» اليميني المتطرف الذي طالب برنامجه بضم جميع الأراضي المحتلة وتهجير الفلسطينيين قسراً. وكان كاهانا أيضاً حاخاماً أرثوذكسياً مُرسَماً، دعا إلى تفجير المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الثالث. وشغل أيضاً منصب عضو في الكنيست الإسرائيلي. وكان جزء كبير من أيديولوجية كاهانا هو أن إسرائيل لا ينبغي لها أبداً أن تبدأ حرباً من أجل الأراضي، ولكن إذا شُنت حرب ضد إسرائيل، فيجب ضم الأراضي التوراتية. كما عرّف كاهانا الأراضي التوراتية بأنها الحدود الجنوبية التي تصل إلى العريش (أكبر مدينة في شبه جزيرة سيناء)، والتي تضم كل شمال سيناء. وإلى الشرق، تمتد الحدود على طول الجزء الغربي من الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومن ثم فهي جزء مما يُعرف الآن بالأردن. كما تشمل أرض إسرائيل جزءًا من لبنان وأجزاء معينة من سوريا وجزءًا من العراق، وصولاً إلى نهر دجلة. كما ذكر كاهانا أن “المعجزات لا تحدث من تلقاء نفسها”. لقد شعر أن الطريقة الوحيدة لعودة المسيح هي عندما يخلق اليهود الظروف السياسية المناسبة.

مثال آخر يمثله الصهيوني المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” Bezalel Smotrich الذي يحفل سجله بالتصريحات المتطرفة والعنصرية التي يتماهى فيها مع الإرهاب اليهودي وأعمال العنف التي تقوم بها عصابات المستوطنين المتطرفين مثل “شبيبة التلال” و”تدفيع الثمن”. سموتريتش من أصل أوكراني ترعرع في المستوطنات وفضل تعلم التوراة على الخدمة في الجيش، الذي التحق به في سن متأخرة وخدم فيه مدة 16 شهرا فقط. مواقف سموتريتش وتصريحاته العنصرية كثيرة جداً، ولكن ربما من أبرزها اعتباره في العام 2015 أن إحراق ثلاثة أشخاص من عائلة دوابشة حتى الموت من قبل مستوطنين يهود “لا يعد عملا إرهابيا” وأن الإرهاب هو “العنف الذي يوجه إلى اليهود من قبل العرب فقط”، وهي تصريحات تكررت عند قيام ميليشيات من المستوطنين بإحراق عشرات المنازل والمركبات والمحال التجارية في قرية حوارة التي دعا إلى “محوها”. ومنذ أن أصبح وزيراً للمالية في حكومة “بنيامين نتنياهو” شنّ حرب الاستيطان على الشعب الفلسطيني. فقد شرع بتنفيذ خطط ابتلاع 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، تنفيذًا لوعده بالقضاء على حل الدولتين وتوافقاً مع عقيدة “إسرائيل الكبرى” التوسعية، كما يُطلَق عليها. وفي أكثر من مناسبة، لوّح سموتريتش بتوسيع الاستيطان، حتى إنّه رسم معادلة قوامها إقامة مستوطنة جديدة باسم كل دولة تعترف بشكل أحادي بالدولة الفلسطينية، بل إنّه يقول إنّ مهمّة حياته هي “إحباط إقامة دولة فلسطينية”.

وهناك مثال آخر على هو وزير الأمن القومي الصهيوني المتطرف “إيتمار بن غفير” Itamar Ben-Gvir الذي أوعز لأجهزة الجيش والشرطة بكف يدها عن عنف المستوطنين الذين شنوا مئات الهجمات ضد الفلسطينيين للاستيلاء على أراضيهم ومزارعهم. أسس حركة “العظمة اليهودية” (عوتسما يهودت)، وأصبح عضوًا في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي عام 2021.  وينحدر بن غفيرلوالدين من جذور عراقية كردية. ويستمد أفكاره المتشددة من الحاخام مائير كاهانا، مؤسس حركة “كاخ” الذي فاز بمقعد في الكنيست الإسرائيلي عام 1984، قبل أن تُصنف حركته “إرهابية وفاشية. وصفت صحيفة هآرتس العبرية فوزه مع حزبه في انتخابات الكنيست عام 2022 بأنه “اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل”. ينتمي بن غفير لليمين المتطرف، الذي يرى أن إسرائيل دولة يهودية قومية وصهيونية، ويناهض تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويدعم عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ويدعو إلى الطرد القسري للمواطنين العرب “غير الموالين” من البلاد، وفق “تايمز أوف إسرائيل”، مما جعله صاحب شعبية كاسحة.

أما أدبيات حزب الليكود الإسرائيلي فتتضمن “إن حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل أبدي ولا جدال فيه ويرتبط بالحق في الأمن والسلام؛ وبالتالي، لن يتم تسليم يهودا والسامرة إلى أي إدارة أجنبية. وبين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية”.

تغلغل التطرف الديني

وفقًا للمنظور الصهيوني الديني، فقد عهد الله بالأرض (الأرض التوراتية) إلى الشعب اليهودي وأنه لم تكن هناك دولة فلسطينية قط. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يعيشون على أرض ليست لهم. ويتمثل طموح القوميين المتدينين في تحقيق إقامة “إسرائيل الكبرى”. ويتطلب تفسيرهم الديني توسيع الحدود الحالية لإسرائيل أكثر فأكثر. وينضم عدد متزايد من اليهود المتدينين إلى جيش الدفاع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، بحيث أن التغيير الأكثر أهمية الذي شهده جيش الاحتلال الإسرائيلي هو عمل الدين داخل ثقافته المؤسسية. إن الزعماء والقادة الدينيين الصهاينة المتطرفين قد أدخلوا أنفسهم في الجيش كلاعبين رئيسيين. وقد احتل هؤلاء محل القادة العلمانيين في الجيش، وينتقلون إلى مناصب أعلى وأكثر قوة. وكلما ارتفعت أصواتهم، كلما كان تأثير الدين على جيش الدفاع الإسرائيلي أكبر. وهذا يعني ضمناً أن الجيش الإسرائيلي يعمل كشريك للتأثيرات الدينية في استخدامه للقوة والعنف في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

لقد نشأت القومية الدينية الصهيونية من عدم الرضا عن هيمنة الثقافة الغربية الحديثة، والتي يبدو أنها تسير بالتوازي مع القومية العلمانية الإسرائيلية. وما اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحاق رابين” Yitzhak Rabin عام 1995إلا مثال مهم على قوة هذه الجماعات. فقد اغتيل رابين على يد طالب لاهوتي يهودي شاب يدعى “ييجال أمير” Yigal Amir الذي ادعى أنه تصرف بناءً على أوامر الله. وقال: “كل ما فعلته، فعلته لمجد الله”. ادعى أمير أنه كان في سلام وأنه شعر بأنه طبيعي. زعم أمير أن مقتل رابين كان أمراً يستحق الثناء وفقاً لقراءات الشريعة الدينية. وقد زعم أن أحد هذه القوانين يسمح بقتل أولئك الذين يمكنهم تدمير الأمة.

مقالات مشابهة

  • الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي
  • الرئيس الفلسطيني: الاحتلال يحاصر القدس ويهدد الأقصى ببناء معبد يهودي
  • كلمة الرئيس الفلسطيني خلال الدورة الـ 32 للمجلس المركزي لمنظمة التحرير
  • القوات المسلحة تهنئ الرئيس السيسي بمناسبة الذكرى الـ 43 لتحرير سيناء
  • طائرات الشبح الأمريكية تُقابلها صواريخ قدس اليمنية: معادلة صنعاء التي أرعبت واشنطن
  • العدو الصهيوني يفجر منزل عائلة الشهيد الفلسطيني محمد شهاب في الرام شمال القدس
  • غضب يمني عارم إزاء تمادي العدو الأمريكي في استهداف المدنيين والأحياء السكنية:الفعاليات الوطنية تحمّل الأمم المجتمع الدولي مسؤولية صمتها على الانتهاكات الجسيمة بحق الشعبين الفلسطيني واليمني
  • شاهد | العدو الإسرائيلي يقر أن العدوان الأمريكي على اليمن سيفشل
  • تجدد القصف الأمريكي على مواقع الحوثي في اليمن
  • بمناسبة شم النسيم | كريم فهمي ضيف كلمة أخيرة .. غدا