لم يكن الاستبداد يومًا مجرد سلطة خشنة تُمارَس بالحديد والنار، بل هو هندسة متقنة للوعي، معماريّة للذهن تُشيَّد بالمفاهيم قبل السجون، وباللغة قبل البنادق. فالكلمات ليست محايدة، إنها دواليب الزمن، وقاطرات التاريخ، وأحيانًا، قيود لا تُرى. ومنذ أن أدرك الطغاة أن العنف العاري يخلق المقاومة، لجأوا إلى ما هو أكثر مضاءً: تفخيخ المصطلحات، وإعادة تعريفها بحيث تبدو كما هي، لكنها تحمل نقيضها.

فالطاعة ليست طاعة، بل “استقرار”، والخضوع ليس خضوعًا، بل “مصلحة وطنية”، واحتكار السلطة ليس استبدادًا، بل “وحدة الصف”.

يبدأ كل استبداد بعملية إعادة تأويل ممنهجة للمفاهيم، حيث تتحول اللغة إلى أداة ضبط لا تُمارِس القمع المباشر، لكنها تشكل العقل ببطء، كما ينحت النهر الصخور بصبر لا ينفد. منذ لحظة دخول الإنسان إلى فضاء السلطة، سواء عبر الدولة أو المؤسسة الدينية، يجد نفسه محاطًا بمفاهيم لا يملك رفاهية مساءلتها، لكنها تشكل حياته بأدق تفاصيلها. فالطاعة ليست فقط علاقة بين الفرد والسلطة، بل منظومة تُعاد هندستها في المدارس، ودور العبادة، والبرامج التلفزيونية، والوثائق الرسمية، وحتى في الأحاديث اليومية التي تجري بلا اكتراث، لكنها تحمل في طياتها ترسبات قرون من الإخضاع الممنهج.

حين قال أفلاطون إن الحاكم ينبغي أن يكون “راعيًا” لشعبه، لم يكن يدرك أنه يضع حجر الأساس لاستعارة قاتلة. فالراعي لا يكون إلا إذا كان الناس قطيعًا، والقطيع لا يسير إلا بوهم الطاعة أو بسوطها. ولذا، شُيِّدت النظم السلطوية على مصطلحات تُعيد إنتاج هذه العلاقة، فأُفرغت السياسة من معناها الجدليّ، وأُعيد تعريفها كعلاقة رأسية، لا تقوم إلا على الطاعة والتسليم.

في السياق الديني، تحولت عبارات مثل “طاعة أولي الأمر” و*“درء الفتنة”* و*“الخروج على الجماعة”* إلى أسلحة مفاهيمية تضمن للسلطة بقاءها، لا بالحجة، بل بإرهاب الفكرة نفسها. هكذا أصبح الحاكم ظلّ الله، وأي مساس به مساس بالعقيدة. حتى أن الغزالي، رغم تأملاته العميقة، سقط في فخ هذه الصياغة حين قال: “السلطان ضروري في نظام العالم”، رغم أن السلطان لم يكن يومًا إلا الضرورة الوحيدة في خراب العالم.

أما في الحقل السياسي، فالأمر أكثر تعقيدًا، إذ يتخذ الخطاب أشكالًا أكثر حداثة، لكنها لا تقل قِدَمًا في جوهرها. فمصطلحات مثل “الأمن القومي” و*“المصلحة العليا للدولة”* تُستخدم اليوم بذات الطريقة التي استُخدمت بها في عصور السلاطين، لكن في لبوس جديد. في القرن العشرين، لم يكن القمع في الأنظمة السلطوية يُمارَس بذريعة الحق الإلهي، بل تحت راية “حماية الاستقرار”. ومن السودان البشير إلى عراق صدام، ومن سوريا الأسد إلى ليبيا القذافي، ظل “الاستقرار” حجر الأساس في قمع كل ما يهدد احتكار السلطة.

منذ فجر التاريخ، كان للسلطة قدرة خارقة على التكيف، على تغيير جلدها دون تغيير جوهرها. ففي الدولة الأموية، حين أراد عبد الملك بن مروان أن يُحكم قبضته على الخلافة، لم يُشهر سيفه فحسب، بل أشهر مفهومًا: الجبرية، التي صاغها وعّاظ السلطان لتصبح أيديولوجيا تخدم الخليفة. فصار الحاكم هو قَدَر الأمة، ورفضه هو رفض لإرادة الله. هذه الصياغة لم تكن سوى صورة أولية لما سيأتي لاحقًا في الأنظمة الحديثة، حيث يُعاد إنتاج الطغيان لا بالسيوف، بل بالمفاهيم.

وما الجبرية سوى نواة لأشكال أخرى من إعادة إنتاج الطاعة؟ في العصر الاستعماري، كانت “رسالة الرجل الأبيض” هي الجبرية بثوب حديث، حيث صُوّرت الهيمنة الغربية كقدر لا يُردّ، ومهمّة حضارية لا تقاوم. أما في الدولة الوطنية، فقد تحول الاستعمار إلى استعمار داخلي، حيث استبدلت الشعارات، لكن البنية بقيت كما هي. فالقائد الضرورة هو ذاته الحاكم بأمر الله، والدولة الأمنية هي امتداد للحامية الاستعمارية، وإن تغيّرت الأسماء.

لكن هل يمكن قلب الطاولة؟ هل يمكن للمصطلحات أن تُحرر بدل أن تُكبِّل؟ هنا يأتي دور المثقف، ليس بوصفه مصلحًا اجتماعيًا، بل بوصفه مُخرِّبًا للخطابات المستقرة. فالتفكيك ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة سياسية، وهو فعل مقاومة بحد ذاته.

حين قال غرامشي: “الهيمنة تبدأ بالثقافة”، كان يضع أصبعه على الجرح. فالسلطة لا تحكم بالسلاح فقط، بل بمنظومة كاملة من الخطابات التي تجعل الطاعة أمرًا بديهيًا. ومن هنا، فإن تفكيك اللغة ليس تمرينًا لغويًا، بل مواجهة للهيمنة في أعمق مستوياتها.

لكن هذا التفكيك لا ينبغي أن يكون هدمًا فحسب، بل إعادة بناء. فالمفاهيم لا تزول، بل تتحول، وما يُفكَّك اليوم يمكن أن يُعاد تشكيله غدًا. فالمصلحة الوطنية، مثلًا، ليست مفهومًا سلطويًا في جوهرها، بل أداة يمكن أن تُستعاد لصياغة مشروع شعبي، والأمن القومي ليس سلاحًا لقمع المعارضين، بل يمكن أن يكون ضمانًا لحماية الجماهير من الدولة نفسها.

غير أن السلطة تتكيف، وها هي تعيد إنتاج نفسها في الفضاء الرقمي. فمن كان يظن أن وسائل التواصل الاجتماعي ستكون منبرًا للتحرر، وجدها تتحول إلى ساحة جديدة للرقابة، حيث يُعاد تعريف “حرية التعبير” وفق شروط السوق والتوجهات الأيديولوجية السائدة. فمن يحكم اللغة يحكم الوعي، ومن يحكم الوعي يحكم المصير.

في الصين، على سبيل المثال، صيغ مصطلح “التناغم الاجتماعي” ليبرر الرقابة على الإنترنت، وفي الغرب، أُعيد تعريف “الأخبار المزيفة” بحيث أصبحت أداة لإسكات الأصوات غير المرغوبة. أما في العالم العربي، فما زالت المصطلحات تُستخدم بذات الحيلة القديمة: فمن يرفع صوته يُتهم بأنه “عميل”، ومن يطالب بحقوقه يُتهم بأنه “مخرّب”، وهكذا تدور الدائرة.

التاريخ ليس قدرًا، والمصطلحات ليست محايدة، واللغة ليست أداة للتعبير فقط، بل هي أداة للتحكم أو للتحرر. وما دام الاستبداد قادرًا على إعادة إنتاج نفسه عبر الخطاب، فإن المقاومة تبدأ من تفكيك الكلمات التي صيغت لخدمته، وإعادة تعريفها بحيث تصبح في خدمة الإنسان، لا الطاغية.

فالطاعة ليست استقرارًا، والاستبداد ليس قدَرًا، واللغة ليست حكرًا على السلطة. ومن هنا، فإن استعادة الوعي لا تبدأ فقط من تحرير الأجساد، بل من تحرير الكلمات، لأنها أول ما يُسلب، وآخر ما يُستعاد.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم یکن

إقرأ أيضاً:

أداة جديدة من أمازون مدعومة بالذكاء الاصطناعي

في خطوة جديدة تعزز تجربة التسوق الإلكتروني، كشفت شركة أمازون عن أداة تسوق مبتكرة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تهدف إلى تحسين تجربة المستخدمين من خلال توفير توصيات مخصصة ونتائج بحث أكثر دقة وفاعلية.

تجربة تسوق أكثر ذكاءً
تعتمد الأداة الجديدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي لفهم تفضيلات العملاء وتحليل سلوكياتهم، مما يتيح تقديم اقتراحات متطورة تتناسب مع اهتماماتهم. ومن خلال تحليل بيانات المستخدمين، يمكن للنظام توفير نتائج بحث أكثر دقة، ومراجعات موصى بها، وحتى اقتراحات للمنتجات بناءً على عمليات الشراء السابقة.

كيف تعمل الأداة؟
تستخدم أمازون خوارزميات تعلم الآلة لفهم ما يبحث عنه العملاء بشكل أعمق، مما يسمح للأداة بعرض خيارات أكثر دقة تلبي احتياجاتهم. كما يمكن للمستخدمين طرح استفسارات بلغة طبيعية، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بتحليل الطلبات والرد عليها بطرق ذكية توفر تجربة أكثر تفاعلية.

تحسين تجربة البحث والتوصيات
من خلال هذه الأداة، تهدف أمازون إلى تقليل الوقت الذي يستغرقه العملاء للعثور على المنتجات المناسبة، مما يسهل اتخاذ قرارات الشراء بسرعة وكفاءة. كما تساعد الأداة على تقديم نصائح تفصيلية حول المنتجات، بما في ذلك المقارنات والمواصفات، مما يسهل على المستخدمين اختيار الأفضل وفقًا لاحتياجاتهم.

مستقبل التسوق الإلكتروني مع الذكاء الاصطناعي
يأتي هذا الابتكار في وقت تتزايد فيه المنافسة بين منصات التجارة الإلكترونية على تقديم تجارب تسوق أكثر تخصيصًا. ومن المتوقع أن تعزز الأداة الجديدة مكانة أمازون في السوق، حيث تتيح للمستخدمين تجربة أكثر سلاسة وكفاءة بفضل التقنيات الذكية.
مع هذا التطور، يبدو أن التسوق عبر الإنترنت يتجه نحو مرحلة أكثر ذكاءً، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من تجربة الشراء، مما يسهل العثور على المنتجات المناسبة بسرعة ودقة غير مسبوقة.

أخبار ذات صلة مساعد وزير الخارجية للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة يشارك في مؤتمر «الذكاء الاصطناعي والأمن والاستخدام المسؤول» طائرات الدرون والذكاء الاصطناعي لرصد هلال شوال في الإمارات المصدر: الاتحاد - أبوظبي

مقالات مشابهة

  • الصدر يغرد بمناسبة عيد الفطر ويشير إلى مظلومية الشعوب الاسلامية
  • خطيب المسجد النبوي يحذر المسلمين من الانتكاس بعد الطاعة والحور بعد الكور
  • أداة جديدة من أمازون مدعومة بالذكاء الاصطناعي
  • انقضاء شهر رمضان.. لا يعني خلع ثياب الوقار 
  • صحيفة أميركية: الجولة الأولى من ضربات ترامب أضعفت الحوثيين لكنها لم تدمرهم
  • رمضان.. بين فرحة الطاعة وهيبة الفراق
  • القوى التي حررت الخرطوم- داخل معادلة الهندسة السياسية أم خارج المشهد القادم؟
  • “الأردن والعراق: أخوّة فوق العواصف
  • خطبتا الجمعة بالحرمين: من أمارات قبول العمل الصالح المداومة على الطاعة.. وزكاة الفطر طهرة للصائمين