أمريكا.. الديمقراطية المتناقضة
تاريخ النشر: 27th, March 2025 GMT
سالم بن حمد الحجري
لا تُختزل التناقضات الأمريكية في مجرد فجوات بين المثاليات السياسية والممارسات الواقعية؛ بل هي جزءٌ من بنية تاريخية عميقة، تُظهر أن الولايات المتحدة لم تكن يوما واحة للديموقراطية كما تروج لها آلتها الإعلامية والدبلوماسية؛ بل قوة استعمارية جديدة، تلبس عباءة الأخلاق والمبادئ لتبرير هيمنتها، فمنذ القرن التاسع عشر، وهي تمارس الهيمنة الاقتصادية والسياسية باستخدام القوة العسكرية، وفرض إرادتها دون مبالاة لمبادئ السيادة التي تدعيها وتدافع عنها.
لا يمكن فهم الخطاب الأمريكي عن الديمقراطية دون تفكيك تاريخه الامبريالي والاستعماري، فلأجل المصالح الجيوسياسية تبرر الديمقراطية الأمريكية قتل الملايين في فيتنام وافغانستان والعراق وفلسطين وغيرها من الدول والشعوب، لكنها في الوقت ذاته داعمٌ قوي للأنظمة الديكتاتورية المتسلطة على الشعوب من شاه إيران إلى بينوشيه في تشيلي وصولا إلى الدعم المطلق للكيان الصهيوني الحافل بسجله الإجرامي ضد الشعب الفلسطيني، فضلا عن دعمه لأنظمة الاستبداد في عالمنا العربي، في ممارسة فاضحة لازدواجية المعايير التي تُظهر أن "الديمقراطية" في الخطاب الأمريكي ليست قيمة مطلقة؛ بل أداة لتبرير الوجه القبيح للاستعمار الجديد.
من جديد، يفتح ترامب الصندوق الأسود للفضائح السياسية في الولايات المتحدة، وهو نمطٌ متكررٌ يعكس أزمة نظام يقدّس القوة أكثر من المساءلة، ففضيحة ووترغيت للرئيس نيكسون كشفت جرائم مؤسسة الرئاسة، بينما كانت الحرب على العراق وغزوه عام 2003 إبان رئاسة بوش الابن مثالا صارخا على تزييف الحقائق ولي القانون الدولي لتبرير الغزو ونهب ثروات العراق، وحتى الرؤساء "التقدميون" مثل كلينتون وأوباما لم يسلموا من الاستغلال الجنسي وتهم الفساد والقضايا الأخلاقية ودعم الأنظمة الفاسدة، ويأتي ترامب في فترته الرئاسية الثانية ليحول مؤسسة الحكم الأمريكي إلى مسرح من الفوضى والتهريج السياسي، والحديث هنا ليس عن القرارات الاقتصادية التي اتخذها في أول يوم في هذه الفترة المشؤومة، ولا القرارات السياسية التي ستجر وبالاً كثيرا على الدولة، لكن الحديث عن أولى فضائح العهد الترامبي الذي يصفه بالذهبي بعد تسريب خطط عسكرية عبر برنامج محادثات يدعى سيجنال، أدى لأن تقوم قيامة دوائر التشريع والصحافة الامريكية بعد وصول تلك المعلومات وانتشارها والخوف من أن تشكل هذه الفضيحة خطرا على الأمن القومي الأمريكي، رغم أن استخدام هذا التطبيق المشفر شائع بين المسؤولين في الإدارات السابقة تجنبا للرقابة الرسمية، ما يعكس ازدواجية في معايير الأمن القومي.
لكن الأكثر سخرية، هو أن توجه واشنطن انتقادها حول الديمقراطية ومبادئ وحقوق الانسان لدول مثل روسيا والصين وإيران، بينما تُدار اللعبة الديمقراطية فيها بالمال السياسي الفاسد والسيطرة على وسائل الإعلام والخضوع للوبي اليهودي ودفع الرأي العام نحو زاوية الخوف والترهيب نتيجة المعلومات المغلوطة التي تبث عبر وسائل التكنولوجيا المتقدمة، أن تمارس الولايات المتحدة هيمنتها على دول العالم وتطلق أحكامها الاستبداية على الدول والكيانات بحسب مصالحها بينما تدعم علنيا الانقلابات الدموية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، طالما ذلك يحقق مصالحها في ممارسة فجة لنفاق خطاب القوة الأمريكي المتعجرف، وحتى تلك الأنظمة الديمقراطية الأوروبية العتيدة (بريطانيا-فرنسا-ألمانيا) والتي كانت تظن أنها تعيش في برج عاجي لا مجال فيه للتراجع عن مبادئ وقيم العمل السياسي والديمقراطية، أثبتت فشلها وتراجعها أمام تغلغل اللوبي الصهيوني في دوائر اتخاذ القرار، وفشل نخبها السياسية في حل الأزمات التي تنخر في جسد القارة العجوز، فضلا عن الهيمنة الأمريكية ليس فقط في قرارات حلف الناتو ولكن حتى في دهاليز صنع القرار في الاتحاد الأوروبي الذي بدا ضعيفا مشلولا لا يملك من أمره شيء أمام تهديدات ترامب بفرض الضرائب على صادرات الاتحاد التجارية.
هكذا ستجد أمريكا نفسها في مواجهة دول العالم في حال استمرار تعاملها مع الديمقراطية كسلعة قابلة للتصدير وبعقلية تجارية ضيقة الأفق، الأمر الذي ينذر بتقويض مؤسسات الدولة واتساع الانقسامات واختزال السياسة في معارك كلامية تغذيها طغمة حاكمة تعتقد أنها فوق القانون، فلا احترام لقواعد وسلوك، ولا حتى لمواثيق ومعاهدات طالما ذلك يحقق مصالح هذا العهد الأسود، والمواجهة مع الشعوب باتت أقرب من أي وقت مضى، والتي لسان حالها يقول: من يعيش في بيت من زجاج، لا ينبغي أن يرمي الآخرين بالحجارة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قاضٍ فيدرالي يمنع إدارة ترامب من تفكيك إذاعة صوت أمريكا
وافق قاضٍ فيدرالي على منع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من تفكيك إذاعة صوت أمريكا، وهي خدمة إخبارية دولية عمرها 83 عامًا أنشأها الكونغرس.
وحكم قاضي المحكمة الجزئية الأمريكية، رويس لامبرث، بأن الإدارة فرضت بشكل غير قانوني على إذاعة صوت أمريكا وقف عملياتها لأول مرة منذ إنشائها في حقبة الحرب العالمية الثانية.
طلب محامو موظفي ومتعاقدي إذاعة صوت أمريكا من القاضي استعادة قدرتها على البث بنفس المستوى الذي سبق أن تحرك الرئيس دونالد ترامب لخفض تمويلها، بحسب ما نقلت "أسوشيتد برس".
وافق لامبرث وأمر الإدارة بإعادة إذاعة صوت أمريكا واثنتين من شبكات البث المستقلة التي تديرها الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي - إذاعة آسيا الحرة وشبكات بث الشرق الأوسط - إلى حين تسوية الدعاوى القضائية.
رفض القاضي طلب شبكتين مستقلتين أخريين، هما إذاعة أوروبا الحرة/إذاعة الحرية وصندوق التكنولوجيا المفتوحة.
وفي ملف قدم للمحكمة في 26 آذار/ مارس قال محامو المدعين إن ما يقرب من 1300 موظف في إذاعة صوت أميركا تم وضعهم في إجازة إدارية، في حين تم إبلاغ 500 متعاقد بأن عقودهم سيتم إنهاؤها في نهاية الشهر الماضي.
وأدارت الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، التي تدير إذاعة صوت أمريكا، منافذ بث أخرى، بما في ذلك إذاعة أوروبا الحرة/ إذاعة الحرية، وإذاعة آسيا الحرة، وإذاعة أفغانستان الحرة، وقد خصص الكونغرس ما يقرب من 860 مليون دولار لوكالة الإعلام العالمي للسنة المالية الحالية.
وانقطعت إذاعة صوت أمريكا عن البث بعد وقت قصير من إصدار ترامب أمرًا تنفيذيًا في 14 آذار/ مارس قضى بخفض التمويل المخصص لوكالة الإعلام العالمي وست جهات فيدرالية أخرى غير ذات صلة. كما قررت إنهاء عقود إذاعة صوت أمريكا مع وكالات أنباء، بما في ذلك وكالة أسوشيتد برس.
وتعمل إذاعة صوت أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تبث الأخبار إلى "الدول الاستبدادية" التي تفتقر إلى صحافة حرة، وبدأت كأداة مضادة للدعاية النازية، ولعبت دورًا بارزًا في جهود الحكومة الأمريكية خلال الحرب الباردة للحد من انتشار الشيوعية.
واتهم ترامب وحلفاؤه الجمهوريون إذاعة صوت أمريكا بـ"التحيز اليساري" والفشل في إبراز القيم "المؤيدة لأمريكا" لجمهورها.
يقول محامو المدعين إنها تنقل الأخبار وتبثها "بصدق وحيادية وموضوعية"، قائلين: "هذه المهمة البسيطة مهمة قوية لمن يعيشون في جميع أنحاء العالم محرومين من الوصول إلى صحافة حرة، ومن القدرة على فهم ما يحدث حقًا".
وجادل محامو الحكومة بأن المدعين لم يثبتوا الضرر الذي لحق بهم بشكل لا يمكن إصلاحه، مضيفين أنه "بدلاً من ذلك، يستهدف المدعون ما يمكن وصفه بأنه توقف مؤقت لأنشطتها، بينما تُحدد غلوبال ميديا كيفية جعل صوت أمريكا ممتثلًا لتوجيهات الرئيس".
وتضم قيادة وكالة الإعلام العالمي المستشارة الخاصة كاري ليك، وهي مذيعة أخبار تلفزيونية سابقة ومرشحة سياسية.
وفي حكمه المكتوب، أشار لامبرث إلى أن الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي لم تُبرم اتفاقية المنحة مع إذاعة أوروبا الحرة/ راديو ليبرتي للسنة المالية الحالية، وأن صندوق التكنولوجيا المفتوحة سحب طلبه القانوني لإصدار أمر تقييدي مؤقت في وقت سابق من هذا العام.
قال لامبيرث إن تخفيضات التمويل "تعكس نهجًا متسرعًا وعشوائيًا" - لا سيما أنها تزامنت مع توقيع الرئيس ترامب على مخصصات الكونغرس التي موّلت إذاعة صوت أمريكا والشبكتين حتى أيلول/ سبتمبر من هذا العام.
وأضاف لامبيرث أن الأمر لا يقتصر على غياب "التحليل المنطقي" من جانب المتهمين، بل غياب أي تحليل على الإطلاق.
ووصفت نقابة العمال التي تمثل العاملين في الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي الحكم بأنه "تأكيد قوي على دور الصحافة المستقلة في تعزيز الديمقراطية ومكافحة التضليل الإعلامي".
قال توم يزدجردي، رئيس جمعية الخدمة الخارجية الأمريكية، في بيان صحفي: "هذه الشبكات أدوات أساسية للقوة الناعمة الأمريكية، فهي مصادر موثوقة للحقيقة في أماكن غالبًا ما تكون نادرة".
وأضاف: "بدعمها الاستقلالية التحريرية، حمت المحكمة مصداقية صحفيي USAGM والرسالة العالمية التي يخدمونها".