د. هيثم مزاحم **

ترك الفينيقيون (حوالي 1200-300 قبل الميلاد) بصمات مهمة على الحضارات التي تفاعلوا معها، خاصة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وتركز تأثيرهم الحضاري في ابتكار الأبجدية الفينيقية ونشرها: ابتكر الفينيقيون واحدة من أولى الأبجديات الصوتية، والتي انتشرت إلى اليونانيين، ومنهم إلى الرومان، ثم أصبحت أساس الأبجدية اللاتينية والعربية والعبرية وغيرها.

وقد ساهموا في نشر الكتابة في مناطق البحر الأبيض المتوسط، مما سهّل التواصل التجاري والثقافي.

كما صدَّر الفينيقيون، وهم شعب بحري تجاري عظيم من أعظم التجار في العصور القديمة، سلعًا مهمة، أبرزها: الأرجوان الصوري وهو صبغة أرجوانية نادرة مستخرجة من محار الموركس، وكانت رمزًا للملوك والنخبة، والزجاج إذ طوّروا تقنيات نفخ الزجاج وكانوا من أوائل مصدّريه، والأخشاب وخاصة أخشاب الأرز من لبنان، التي استُخدمت في بناء السفن والمعابد، والمعادن والمجوهرات إذ نقلوا الفضة والقصدير من مناطق بعيدة مثل إسبانيا وبريطانيا.

وقد أسس الفينيقيون العديد من المدن والمستعمرات في حوض البحر المتوسط، مثل قرطاج (في تونس حاليًا) التي أصبحت قوة عظمى لاحقًا. كما نشروا أساليبهم في التجارة والملاحة في مناطق مثل شمال إفريقيا، وإسبانيا، وسردينيا الإيطالية.

وكما ذكرنا في الحلقة الثانية من سلسلة هذه المقالات، فإن هناك أدلة تشير إلى أن الفينيقيين وصلوا إلى الجزر البريطانية وآيرلندا، لكن الأمر لا يزال محل جدل بين الباحثين. وقد تاجر الفينيقيون بالقصدير الذي كان مكوّنًا أساسيًا في صناعة البرونز، وكان مصدره الأساسي في أوروبا هو كورنوال في جنوب غرب إنجلترا. ويُعتقد أن الفينيقيين كانوا يشترون القصدير من هذه المنطقة عن طريق تبادل البضائع مثل الزجاج والأرجوان الفينيقي.

المؤرخ اليوناني هيرودوت (عاش في القرن الخامس ق.م.) أشار إلى أن الفينيقيين كانوا يستكشفون المحيط الأطلسي. وتوجد روايات محلية في كورنوال وآيرلندا عن "تجار شرقيين" جاؤوا بمعدات بحرية وسلع غريبة. وقد تم العثور على آثار لوجود تجار من البحر المتوسط في جزر بريطانيا، مما يدعم الفرضية القائلة بأن الفينيقيين كانوا جزءًا من شبكة تجارية متصلة بها.

لقد كان الفينيقيون شعبًا بحريًا متفوقًا أثرى العالم بالكتابة، والتجارة، والتقنيات المتقدمة، واستطاعوا إنشاء شبكة تجارية واسعة امتدت عبر البحر المتوسط إلى شمال إفريقيا وإيطاليا وإسبانيا والجزر البريطانية وآيرلندا.

الأبجدية الفينيقية

الأبجدية الفينيقية هي واحدة من أولى الأنظمة الأبجدية في التاريخ، وقد ابتُكرت حوالي 1200 قبل الميلاد. كانت هذه الأبجدية صوتية، أي أنها تمثل الأصوات بدلًا من الحروف التي تمثل المعاني كما في الكتابات المسمارية أو الهيروغليفية. تتألف الأبجدية الفينيقية من 22 حرفًا، وهي جميعها تمثل الحروف الساكنة فقط، أي أن الفينيقيين لم يستخدموا رموزًا منفصلة للتعريف بالحروف الصوتية.

وتميزت الكتابة الفينيقية بأنها كانت تُكتب من اليمين إلى اليسار، مثل العديد من الكتابات القديمة، وغياب الحروف الصوتية. ففي الأبجدية الفينيقية، لم يتم تمثيل الحروف الصوتية (مثل A,E,I,O,U) بشكل منفصل، بل كان يعتمد على السياق في فهم معاني الكلمات.

وكانت الأبجدية الفينيقية أحد المصادر التي تأثر بها العديد من الأبجديات القديمة، بما في ذلك الأبجدية العربية. ومثل الأبجدية الفينيقية، تعتمد الأبجدية العربية على حروف ساكنة. وتحتوي الأبجدية العربية على 28 حرفًا، مقارنة بـ22 حرفًا في الأبجدية الفينيقية. وعند مقارنة الحروف، نجد أن العديد من الحروف العربية تأثرت بتلك الموجودة في الأبجدية الفينيقية، مثل الحروف "ب"، "ج"، "د"، "ر"، و"ص"، التي تُشابه الحروف الفينيقية في الشكل والصوت.

أما الاختلافات بين الأبجديتين ففي الأبجدية العربية، يتم تمثيل الحروف الصوتية بشكل مستقل، وهو ما يختلف عن الفينيقية التي كانت تركز فقط على الحروف الساكنة. ومع مرور الوقت، تمت إضافة الحركات (تشكيلات) في الكتابة العربية لتوضيح الحروف الصوتية، وهو ما لم يكن موجودًا في الأبجدية الفينيقية.

وهكذا كانت الأبجدية الفينيقية الأساس الذي انطلقت منه العديد من الأبجديات السامية، بما في ذلك الأبجدية العربية.

وقد ساعدت رحلات الفينيقيين البحرية وتجارتهم وتعاملهم مع شعوب متعددة في البحر الأبيض المتوسط، في انتشار أبجديتهم عبر مناطق مختلفة. ومع مرور الوقت، وخصوصًا في منطقة الجزيرة العربية، تطورت الأبجدية الفينيقية إلى أن شكلت الأساس للأبجديات السامية الأخرى، بما في ذلك الأبجدية العربية. وتشير الأدلة إلى أن الكتابة العربية كانت تتطور من الأبجدية الشمالية العربية، التي تأثرت بشكل كبير بالأبجدية الفينيقية.

ومع استقرار الفينيقيين في مناطق مثل قرطاج (تونس) وغيرها من المستعمرات في البحر الأبيض المتوسط، انتشرت الأبجدية الفينيقية إلى مناطق بعيدة، حيث تأثرت بها الثقافات المحلية.

مستعمرات الفينيقيين

أسس الفينيقيون مستعمرات ومراكز تجارية في مناطق عديدة من البحر الأبيض المتوسط بين القرنين الـ12 والـ6 قبل الميلاد. وازدهرت مستعمراتهم نتيجة مهاراتهم في الملاحة والتجارة، وساهمت في نشر الثقافة واللغة والأبجدية الفينيقية. وأهم مستعمراتهم كالتالي:

أولًا: في شمال إفريقيا:

-قرطاج (814 قبل الميلاد) وهي أشهر المستعمرات، أسستها الأميرة إليسا (ديدو) وأصبحت لاحقًا إمبراطورية تجارية وعسكرية قوية.

-أوتيكا (1100 قبل الميلاد) وهي مستعمرة في تونس الحالية سبقت قرطاج وكانت مركزًا تجاريًا مهمًا.

-لبدة الكبرى وصبراتة وأويا وهي مدن في ليبيا تأسست لاحقًا كمراكز تجارية.

ثانيًا - في إسبانيا:

1-قادش (غادير) هيو إحدى أقدم المستعمرات الفينيقية، أسست في القرن الـ12 قبل الميلاد، وكانت مركزًا هامًا لتجارة المعادن.

2-ملقة، تأسست في القرن الـثامن قبل الميلاد وأصبحت ميناءً رئيسيًا في شبه الجزيرة الأيبيرية.

3-إيبيزا (إيبويسا)، تأسست في القرن الـسابع قبل الميلاد، واشتهرت بتجارتها وصناعة الملح.

ثالثًا: في إيطاليا وجزر البحر المتوسط:

-بانورموس (باليرمو حاليًا في صقلية) وكانت محطة تجارية مهمة للفينيقيين.

-موتيا، وهي مستعمرة في غرب صقلية اشتهرت بمينائها المحصن.

-سردينيا وكورسيكا وقد ضمتا العديد من المراكز التجارية التي استخدمها الفينيقيون لتجارة المعادن.

رابعًا: في البحر المتوسط الشرقي (قبرص واليونان وتركيا):

1-كيتيون (لارنكا حاليًا في قبرص) وكانت مركزًا تجاريًا وعسكريًا مهمًا للفينيقيين.

2-رودس وكريت (جزيرتان في اليونان) وكانتا محطتين تجاريتين استخدمهما الفينيقيون في تنقلاتهم البحرية.

3-طرابزون وساموس في تركيا وكانتا نقطتين تجاريتين صغيرتين على الساحل المتوسطي.

وتعود أهمية المستعمرات الفينيقية إلى أنها كانت مراكز تجارية تزود المدن الفينيقية الرئيسية (صور وصيدا وجبيل) بالموارد والسلع. وقد ساهمت في نشر الأبجدية الفينيقية، التي أصبحت أساسًا للأبجدية اليونانية واللاتينية. كما أسست شبكة بحرية متكاملة عبر البحر المتوسط، مهدت لظهور قوى تجارية لاحقة مثل قرطاج.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بطء عبور الشاحنات بميناء طنجة المتوسط يهدد الصادرات المغربية ومصدرو الفواكه يدقون ناقوس الخطر

زنقة 20. طنجة

لازال البطء الشديد الذي تشهده عملية عبور شاحنات التصدير المتجهة من المغرب نحو الدول الأوروبية وبريطانيا، ترخي بضلالها على الواقع اليومي لميناء طنجة المتوسط أكبر ميناء في البحر المتوسط.

فبعد تهديد غير مباشر لمجموعة “Indetex” الإسبانية المنتجة لعلامات “زارا/ستراديفاريوس/بول ان بير/بيرشكا” بالتهلي عن سلاسل الإنتاج المغربية للإنتقال إلى تركيا ومصر، بسبب التأخر في تسليم الطلبيات، يطرح مصدرو الفواكه المغاربة نفس الإشكال مع إستمرار البطء الشديد والازدحام الخانق في ميناء طنجة المتوسط، وهو ما يؤخر عملية تسليم المنتوجات الفلاحية المغربية للمستوردين من الدول الأوربية.

مصدرون مغاربة تحدثوا لجريدة Rue20 الإلكترونية إعتبروا أن الأمر يثير القلق في الوقت الذي لم يستشعر المسؤولون الحكوميون خطورة هذا المعطى، الذي سيكبد بلادنا خسائر كبيرة خاصة مع المنافسة الشرسة التي يشهدها قطاع تصدير الفواكه الطازجة من بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، ما يهدد هامش كبير من العملة الصعبة التي تدرها هذه التجارة سنوياً على بلادنا بالتوقف.

ولازال المهنيون ينتظرون تدخل وزارتي النقل و التجارة الخارجية إلى جانب مديرية الجمارك وإدارة ميناء طنجة المتوسط لإيجاد حلول عاجلة لجميع المصدرين، تتعلق بسرعة خروج الشاحنات وخلق مسالك خاصة بالمصدرين تحترم آجال التسليم والحمولة المهددة بالفساد كما الشأن للخضر والفواكه التي يتم حبسها بالميناء لعدة أيام، بسبب الإزدحام الشديد.

التجارةالمصدرونانديتيكسميناء طنجة المتوسط

مقالات مشابهة

  • وزير المالية: موازنة العام الجديد تتضمن مبادرات أكثر استهدافًا وتأثيرًا في حياة الناس
  • حمدان بن محمد يهنئ قيادة وشعب الإمارات وجميع الشعوب العربية والإسلامية بعيد الفطر
  • هزة أرضية بقوة 4.3 درجات في البحر المتوسط تبعد 49 كيلومترًا عن مصراتة
  • بطء عبور الشاحنات بميناء طنجة المتوسط يهدد الصادرات المغربية ومصدرو الفواكه يدقون ناقوس الخطر
  • الدول العربية التي أعلنت غدًا الأحد أول أيام عيد الفطر 2025
  • ما هي الدول العربية التي أعلنت الأحد أول أيام عيد الفطر المبارك؟
  • الرئيس يهنئ قادة الشعوب العربية والاسلامية بعيد الفطر
  • كاتب إسرائيلي يدعو لأخذ خطوة حاسمة لمنع نشوب حرب مع تركيا
  • لماذا سمي يوم القيامة بـ يوم التغابن؟.. خالد الجندي يكشف
  • الذهب عند مستوى غير مسبوق وسط مخاوف الرسوم الجمركية