لماذا تستعاد رؤية ابن خلدون في الظروف العربية الراهنة؟
تاريخ النشر: 26th, March 2025 GMT
منذ عدة أعوام على وجه التقريب، وفي دول مختلفة، ظهرت العديد من المؤلفات الجديدة، سواء من باحثين عرب أو من باحثين أجانب، تتحدث عن رؤية ونظرة عالم الاجتماع العربي ابن خلدون في التاريخ وفلسفته وفي تغير الأمم وتقلباتها وانهيارها، أو ما تسمى عند بعض الباحثين: (صعود الدول وسقوطها)، ومن هذه الكتب التي تتحدث عن العلاقة أو فلسفة التاريخ، الذي صدر هذا العام كتاب: (ابن خلدون بين التراث والمعاصرة) في جزأين، للباحث سمير عبد الحليم الجمل، وكتاب (ما لم يقله ابن خلدون: قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها) للكاتب كمال القصير، وكتاب (ابن خلدون: سيرة فكرية) للباحث الغربي «روبرت إيرون»، ولا شك أن هذه الاستعادة لفكرة ورؤية ابن خلدون في فترات سابقة، ومحاولة النظر إليها بنظرة حديثة، أو قياسها في هذه الفترات على واقع الدول، أو التنبؤ بانهيارها، يعني أن الرؤية الخلدونية جديرة بالاهتمام وإعادة مراجعتها وفحصها وتقييمها راهنًا لواقع عالم اليوم مع الاضطرابات والتحولات والصراعات، وهذا الاهتمام لم يـأت من فراغ أو مجرد توقع، لكن هناك الكثير من العلماء السابقين من الغرب بالأخص، تحدثوا بإكبار عمّا كتبه ابن خلدون، خاصة (المقدمة) التي كتبها، وسرد في هذه المقدمة أحوال الأمم والجماعات التي عاشت في تلك الفترة، وحدوث الصراعات والتوترات والحروب والانقسامات وانهيار بعضها، فهذا التحليل الخلدوني، لم يسبق أن تحدث عنه عالم اجتماع قبله، أو في عصره، فكل من كتب في التاريخ، كان مجرد سرد لواقع ما جرى، لكن لم يتم تناول أسباب وقوعه ودواعيه؟ وهذه هي قيمة وإبداع ما كتبه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، ويعتبر المؤرخ البريطاني الشهير «أرنولد توينبي» في كتابه: (دراسة التاريخ) أن ابن خلدون «قدم فلسفة للتاريخ تعتبر من دون شك من أعظم ما أنتجت عبقرية لم يكن لها مثيل في أي مكان أو زمان».
ولا شك أن ما كتبه هذا الفيلسوف والعالم الكبير، يحتاج ربما إلى آلاف من الصفحات للكتابة عنه، نظرًا لأهمية ما طرحه من علم منهجي اجتماعي لفلسفة التاريخ وعلم العمران، بصورة موسعة وشاملة وليس سردًا تاريخيًا عابرًا، وأهمية هذه الرؤية الخلدونية، وما يمكن أن يسهم في الكثير من الأزمات الراهنة، وكانت عن قضية (صعود الدول وسقوطها) من النقاشات التي دارت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الاشتراكي بعد عام 1991، وكذلك كان بهدف بمناقشة بعض الكتابات التي تتحدث عن «أفول الغرب»، أو تدهور حضارته، وتتعلق بما كتبه أحد الغربيين، مر عليه الآن ما يقرب من قرن كامل، ولا يزال يتكرر في بعض الكتابات العربية إلى ما قبل سنوات قليلة. وقد أشرت لمقصد الكاتب وهدفه من عبارة أفول الغرب، والحقيقة أنني منذ أكثر من عقدين اهتممت بفكر ابن خلدون، وقد خصصت فصلًا بعنوان (التحليل الخلدوني لأزمة العرب السياسية)، ولم أناقش قضية العصبية أو علم العمران وتعلق هذا المبحث بمفهوم التحليل للحضارة والبداوة، وناقشت الأنصاري في هذا الجانب المهم من تحليل ابن خلدون، ولذلك فإن ابن خلدون يعد أول من وضع التحليل المنهجي في عصره في القرن الرابع عشر الميلادي.
ففي كتابه الشهير(كتاب العبر وديوان المبدأ والخبر في أيام العرب والبربر)، الذي وضع فيه نظرياته في مسائل عديدة في العمران وفلسفة حركة قيام الدول وأفولها، وما يتبعها من مقومات عند قيامها في الاقتصاد والمال وأحوال الشعوب وغيرها من القضايا التي كتبها، فهذا الكتاب الضخم، يقع في خمسة مجلدات أو أكثر بحسب الطباعة القديمة، لكن تركيز الباحثين والمهتمين بفكر ابن خلدون وفلسفته الذين اطلعوا على كتاباته، كانت تتعلق بـ«المقدمة» لكونها طرحت قضايا فلسفة التاريخ، وعلم العمران، وقيام الدولة وتأثير العصبية عليها، وهذه هي التي لاقت الرواج الأكبر من المؤرخين والباحثين في علم الاجتماع، وفي فلسفة التاريخ، سواء الذين تعرفوا على ابن خلدون من الغربيين، وهم الأسبق في ذلك، أو من الباحثين العرب، الذين تعرفوا عليه من خلال الكتابات الغربية، مع أن ما كتبه ابن خلدون بقي فيما يقرب من خمسة قرون مهملًا، ولم يتم الكتابة عنه إلا في القرون المتأخرة، وأول من كتب عنه في العالم العربي في رسالة علمية عن ابن خلدون، هو د/ طه حسين وكانت بعنوان (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) وكانت من جامعة السوربون في باريس عام 1917. وكان اختيار هذه الرسالة من د. طه حسين جاءت بتشجيع من الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي الشهير «إميل دور كهايم»، وأحد المشرفين على رسالته هذه، وإن كان طه حسين قلل من ريادة ابن خلدون في علم الاجتماع، وأسبابها قد نفهم، لكون المركزية الغربية ترى أن العلوم والفلسفة، تأتي من الغرب أولًا، مع أغلب المؤرخين الغربيين للحق، وأبرزهم المؤرخ البريطاني «توينبي» تحدثوا بإكبار عن فلسفة الاجتماعية وفلسفة التاريخ كما أشرنا آنفًا.
ومن جانب آخر، انفرد العلامة والفيلسوف ابن خلدون، بإبراز مفهوم «العصبية» باعتباره يقارب ما عاشه في القرن الرابع عشر الميلاد، مع تلك الظروف والتغيرات والإرهاصات التي عاشها، وتم استخدامها بما يبرر طرح هذا المفهوم لكونه عاش تلك الفترة، مع أن مفهوم العصبية، لم يخترعه ابن خلدون، فهو حاضر في القواميس العربية، وتبرز مقاربته لإسقاطها على الواقع المعاش، وتحقق ذلك في تلك الفترة التي ظهرت فيها الممالك العربية/ الإسلامية في المغرب العربي، وشمال إفريقيا، من اضطرابات وصراعات، نتيجة لضعف الدولة العربية المركزية، والتي أدت إلى قيام ممالك تتصارع على النفوذ والحكم والاستحواذ، على أراض وممالك أخرى، ولذلك فإن ابن خلدون سجل تلك الأحداث على الفترة التي عرفها، وكان قبلها الحكم العربي متفوق في النهضة والحضارة، خاصة بعد قيامه في الأندلس وشمال إفريقيا.
والغريب أن ابن خلدون، لم يستعمل مصطلح «الشوكة» في مقاربته لما عاشه في بعض الممالك العربية في شمال إفريقيا، وهو ابن تلك الديار العربية العريقة، لكنه اختار العصبية، لتناسب الحالة القائمة كما وصفها، وهذه لم تحصل في الشرق العربي الإسلامي في الوقت نفسه، من اضطراب وصراع، وسقوط بعض الممالك، وإحلال ممالك أخرى، وما تبعه من المناصرة والتعاضد والتلاحم، إما عن طريق النسب والقرابة، وإما عن طريق النصرة بسبب العيش المشترك، لجماعة تعيش بجوار بعضها البعض في بيئة مشتركة؛ لمواجهة خطر آخر من خارجها..
لكن مصطلح الشوكة، لم يتقارب مع هذه الظروف التي عاصرها العلامة ابن خلدون، وكتب عنها في المقدمة، وبقية الأجزاء الأخرى من كتابه في مجموعه العام، لكن كلمة « الشوكة» التي تحدث عنها الإمام أبي حامد الغزالي(450هـ - 505هـ / 1058م - 1111م)، في كتابه (المستظهر)، وإن كانت تتقارب من العصبية، في بعض المفاهيم، كما فسرها البعض، لاختلاف الظروف السياسية في المشرق العربي الإسلامي، عنه في المغرب العربي، وللفارق الزمني بما يزيد عن ثلاثة قرون سبقت ابن خلدون، في تلك الظروف كما عاشها، مع أن الأوضاع كانت أيضا صعبة مع اقتراب الغزو الصليبي للبلاد العربية في المشرق، لكن الأمر مختلف كما جرى بعد ذلك في شمال إفريقيا، فالشوكة عند الإمام الغزالي تعني أن الدولة تحتاج للمناصرة من خلال قوة النفوذ، وتأييد الأغلبية لرئيسها، وليس للعصبيات، ولا بد من القوة المؤيدة المادية فـ: «لا قيام للإمامة إلا بالشوكة.. والكثرة في الأتباع، والأشياع». تعني الشوكة أيضًا قوة معنوية سياسية تحقق التأييد للدولة والحاكم عند احتياجها.
لكن العصبية التي اهتم بها العلامة ابن خلدون وأسقطها على تلك المرحلة التي عاشها، تختلف عن الظروف السياسية التي تعايش معها الإمام الجويني والغزالي وغيرهما في عصور سابقة ، ومن هنا جاء الاختلاف في طرح المفاهيم التي تقارب المسائل القائمة فقهيًا ولغويًا، لكن ابن خلدون ميّز بين إسقاط مصطلح العصبية على المدن الحضرية، عنها في البوادي غير القريبة من المدن، ففي الحضر ـ كما يرى ابن خلدون ـ تقل العصبيات سواء المناصرة أو المعارضة، وتتقدم القوة العسكرية والسياج للحماية، مع التعاضد مع الدولة عند الغزوات الخارجية وبجود الاستقرار النسبي لهذه الدول والممالك، لكن الأمر مختلف في البوادي البعيدة عن المدن الحضرية ، ويرى ابن خلدون أن العصبيات تكون أكثر قوة وتماسكا من المدنُ، سواء كانت عن طريق النسب أو صلة القرابة، الذي له أهميته في المدافعة والمناصرة، لكن أيضا العصبية تتم بطريق غير النسب والقرابة، خاصة من خلال التعايش الجماعي في البيئة الواحدة وتماسكها، وقد تتم العصبية بصورة أخرى ، فقد تكون هناك عصبية معارضة للدولة أو متناقضة مع توجهها السياسي أو الاقتصادي إما من أجل السعي لإزاحة النظام القائم ، أو لوجود صراع سابق بين عصبيات متنافسة على النفوذ، في ظل ضعف أو غياب الدولة المركزية، وبروز ممالك صغيرة، وهذا ما عاشه العلامة ابن خلدون، وجعله يضع مصطلح العصبية في إطار تلك الظرفية المعايشة الواقعية عنده.
والحقيقة أن النظرية الخلدونية، سواء في علم العمران البشري، أو قوة العصبية، في قيام الدولة أو سقوطها، أو في فلسفة التاريخ، كُتبت عنها العشرات من المؤلفات، ومئات من البحوث والدراسات عن ابن خلدون، سواء ممن انبهر بنظرياته التاريخية التحليلية، أو من اختلف مع بعض استنتاجاته فيما وضعه من نظريات وتحليلات، لكن الأمر الذي لا يختلف عليه أحد أن ابن خلدون يعتبر ظاهرة أو عقلية متميزة من حيث الإبداع الفلسفي التاريخي أو التحليلي، أو علم الاجتماع الإنساني، وهي مقدرة استباقية عبر في كتابة التاريخ، وسبق فيه كل المؤرخين القدامى ومنهم المؤرخ اليوناني «هيرودوت» الذي يسمى (أبو التاريخ)، لكن ابن خلدون تفّوق عليه من حيث الأسلوب التحليلي للتاريخ وفلسفته، وما تبعه ممن اعتنوا بفلسفة التاريخ ونظريات علم الاجتماع خاصة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع من الغربيين.
والحقيقة أن النظرية الخلدونية، سواء في علم العمران البشري، أو قوة العصبية في قيام الدولة أو سقوطها، أو في فلسفة التاريخ، أو من اختلف مع بعض استنتاجاته فيما وضعه من نظريات وتحليلات، لكن الأمر الذي لا يختلف عليه أحد أن ابن خلدون، لكنه يظل بما كتبه يتميز عن كل الكتابات التي كتبت حتى بعده، أو حتى قبله، ويعتبر من حيث الإبداع الفلسفي التاريخي أو التحليلي المتميز، أو علم الاجتماع الإنساني، وهي مقدرة استباقية عبر في كتابة التاريخ، وسبق فيه كل المؤرخين القدامى ومنهم المؤرخ اليوناني «هيرودوت» الذي يسمى (أبو التاريخ)، لكن ابن خلدون تفّوق عليه من حيث الأسلوب التحليلي للتاريخ وفلسفته، وما تبعه ممن اعتنوا بفلسفة التاريخ ونظريات علم الاجتماع خاصة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع من الغربيين. ولا شك أن ابن خلدون وضع تحليلا واقعيًا، وهذا التحليل، قد لا يكون بعيدًا عن واقعنا المعاصر، وقد حصل في بيئات عربية وأجنبية عبر التاريخ، ولذلك الحكم الرشيد والممسك بالعدل وبعيدًا عن البطش يجعل الالتفاف حوله سياجًا وقوة ومناصرة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فلسفة التاریخ علم الاجتماع ابن خلدون فی فی التاریخ قیام الدول لکن الأمر فی القرن من الغرب ما کتبه فی علم من حیث ا کتبه
إقرأ أيضاً:
اليُتْمُ الذي وقف التاريخُ إجلالًا وتعظيمًا له
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بعد أن انتهيتُ من قراءة كتاب "عبقرية محمد" للمفكرِ العملاقِ عباس محمود العقاد، تذكَّرتُ على الفورِ قول اللهِ جلَّ جلالُهُ للنبيِّ الكريمِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"، فأدركتُ السرَّ في انجذاب كلِّ من اقترب من سيرته العطرة، وتذكرتُ على الفور أنه ليس هناك متشهدٌ ولا صاحبُ صلاةٍ إلا ويلهجُ باسمه... وكلُّ من سيقرأُ ما كتبهُ المفكرون عن شخصية النبيِّ الكريمِ قديمًا وحديثًا، سيعرف أثر كرم الله على نبيَّه برفع ذكره منذ مولده وإلى قيام الساعة.
ولذا، لم يدهشني إهتمام الكُتَّابِ في الشرق والغرب به، وقد قرأتُ بإعجابٍ شديدٍ آخرَ ما صدر من مؤلفاتٍ في الغرب عن خيرِ خلقِ اللهِ أجمعين، للكاتبةِ والمفكرةِ البريطانية "كارن أرمسترونج"،وهي مَنْ ؟ إنها الكاتبة المرموقة والباحثة الماهرة التي تتجنُّب التحيُّز الشخصي، ولا تُصدر الأحكام إِلَّا بعد فحص ما لديها من أدلَّةٍ وبراهين بتجرُّدٍ وشفافية، وقد كرَّست حياتها لدراسة الأديان السماوية، مثل الإسلام والمسيحية واليهودية، وكان كتابها "محمد: سيرة النبي"، والذي صدر عام ١٩٩١ وفيه قدَّمت فكرًا عميقًا، يُعدُّ هذا المؤلف من أبرزِ الأعمالِ التي قدَّمت رؤيةً موضوعيةً ومنصفةً عن النبيِّ الكريمِ في العالم الغربي. كما يُعدُّ جسرًا مهمًّا بين الثقافات، ودعوةً للحوارِ والتفاهمِ بين الأديان، بعيدًا عن الصور النمطيةِ والتشويهِ الإعلامي، فقدأَثْبَتَتْ فِي مُؤَلَّفِهَا هذا بأن النبي العظيم رجلًا ذا رؤيةٍ أخلاقيةٍ عَمِيقَةٍ...
ومن إنصافِها فى كتاباتها قالت: "كان محمدٌ رجلًا حنونًا، متواضعًا، وقائدًا بارعًا، لم يسعَ للسلطةِ بقدر ما كان يسعى لإحداث تغييرٍ أخلاقيٍّ عميقٍ في مجتمعه."
كما تناولت الكاتبةُ والباحثة دورَ النبيِّ الكريم في تحسينِ مكانةِ المرأةِ في المجتمع، حيث أشارت إلى أنه منحَ المرأةَ حقوقًا لم تكن موجودةً في الجاهلية، مثل حقِّ الإرث، وحقِّ التعليم، وحقِّ الاختيارِ في الزواج. وكان يسعى لتحريرِ المرأةِ من القهرِ الاجتماعي، ويدعو إلى معاملتها بكرامةٍ واحترام.
ولها أيضًا رأيٌ حرٌّ جريءٌ، إذ أكَّدت أن النبيَّ الكريمَ كان يسعى دائمًا إلى الحلولِ السلمية، وأن المعاركَ التي خاضها كانت دفاعية، ولم تكن من أجل التوسع أو فرض الدين بالقوة... وبذكاءٍ شديدٍ، اختارت صلح الحديبية وقالت عنه: "كان دليلًا واضحًا على براعةِ النبيِّ الكريم في إدارة النزاعاتِ بالسِّلمِ والحكمة، لأنه كان يؤمن بأن السلام هو الوسيلةُ الأقوى لنشرِ رسالته."
وهذه الشهادةُ من هذه الباحثة والتي تُعَدُّ واحدةً من أبرز الْباحثين في الأديان المُقَارَنَةِ تدحضُ الصورةَ السلبيةَ التي رسمها بعضُ المستشرقين لهذا النبي العظيم...
وقد تصدى لهؤلاء المستشرقين والشانئين المفكر الكبير عباس محمود العقاد في مواجهة هذه الافتراءات، حيث قال في كتابه الهام "عبقرية محمد": “إن التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمدٍ وشانئيه، فحكمُه أنفذُ من حكمِ الشانئين والأصدقاء، وأنفذُ من حكمِ المشركين والموحدين، وأنفذُ من حكمِ المتدينين والملحدين... إنه حكم الله، وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذَّبين، وكان في عمله أعظمَ الرجال أثرًا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنًا يبعث الإيمان، وصاحبَ دينٍ يبقى ما بقيت في الأرض أديان، وسيطلع في الأفق هلالٌ، ويغيبُ هلالٌ، وسيذهب في الليل قمرٌ، ويعودُ قمرٌ، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جُعلت التاريخَ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسمَ الزرع، ولا مواعيد الأشغال، ولا أدوار الدواوين والحكومات، ولا ينتظرونها إلا هدايةً مع الظلام، وسكينةً مع الليل: أشبه شيءٍ بهداية العقيدة في غياهب الضمير”.
وقبل أن يَخْتِمَ الكاتب الكبير عباس محمود العقاد صفحات كتابه "عبقرية محمد"، اختار يوم هجرة النبي إلى المدينة فكتب: "ستطلع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلمٍ من معالم السماء يوميء إلى بقعةٍ من الأرض: هي غار الهجرة، أو يوميء إلى يومٍ لمحمدٍ هو أجملُ أيامِ محمد، لأنه أدلُّ الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بإلهامٍ لا يعلوه تفكيرٌ ولا تعليم..."
ختامًا.. لقد عشتُ أوقاتًا ممتعةً مع كتاب "عبقرية محمد" للمفكر الكبير عباس محمود العقاد، ومن خلال صفحات هذا الكتاب شاهدت التاريخ يقف إجلالًا وتعظيمًا لهذا اليتيمِ الذي بُعث رحمةً للعالمين.. صلى الله عليك وسلم يا خير خلق الله أجمعين...
اللهم إنا نُشهدك أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فاللهمَّ اجزه عنا خير ما جزيتَ نبيًّا عن قومه، ورسولًا عن رسالته...
ولنا لقاء الأسبوع القادم، بإذن الله، مع قراءة فى كتاب ممتع جديد...