العيد.. وعلاقتنا بالزمن والحياة
تاريخ النشر: 26th, March 2025 GMT
يأتي العيد كحدث استثنائي يبتهج له الجميع، حدث يجعلنا ننسى لبرهة معنى الحياة السريعة بكدحها وكدها وآلامها، فهو فرصة لالتقاط الأنفاس وفرصة لأن ننظر إلى أنفسنا فـي مرآة الذات والمصير؛ لا لأجل المنظر وحده. يمثل العيد بالنسبة إلي مشهدا سورياليا بديعا، فلا تجتمع البلاد فـي بهجة غامرة عامة وبترقب وإشراق كما تفعل فـي العيد، فهو برهة من الزمن نعم، لكنه ليس كأي زمن، لطالما رددنا «مرت السنين!» فـي دهشة وذهول ونحن نتحدث عن حدث مر وانقضى قبل سنوات فنبعثه ونستحضره من الذاكرة، ولكن؛ لماذا نظن بأننا بمنأى عن تلك اللحظة التي نقول فـيها «مرت السنين.
يذكرني هذا ببعض الكتب التي قرأتها فـي الطفولة، وهي كتب الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، التي كانت فـيما يشبه السيرة الذاتية له. «أنا»، «خلاصة اليومية والشذور» و«حياة قلم»، وهي ككتب العقاد الأخرى؛ طافحة بالفكر القوي المحض الذي يُلبسه لبوس الأدب اللذيذ. فهو يخبرك عن حياته وحالته بصدقٍ يرى فـيه البعض جفاء وغلظة، بينما اختار صاحب العبقريات أن يكون على سجيته فـي كتابته كما فـي حياته. ولا أذكر نص كلامه فـي إحدى هذه السير التي كتبها، ولكنه يقول فـيما معناه بأن المرء يتغير بتغير عمره والزمان الذي مضى منه. فمن كان فـي الخمسين يخجل من أن يرد من يجيئه بغير موعد وفـي غير مناسبة، وقد لا يفعل ذلك فـي الستين من عمره؛ حتى إذا بلغ السبعين، واستوت عنده التجارب وذاق من الدهر حالتيه، لم يجد حرجا فـي القبول والرفض، والرضا والسخط وإبداء ذلك كله فـي أدب وفـي غير شطط. ومرد ذلك إلى حالته المزاجية وقدرته الجسمانية التي لم تكن كما كانت بالأمس، وعلمه بأن لحظة الغروب آتية عن قريب، فهو يختار ما يريحه ويبهجه ويسعده فـي عمره الباقي وأيامه المعدودة.
العقاد شأنه شأن المتنبي وطه حسين والتوحيدي وغيرهم؛ ولا يجمع هؤلاء سلك ناظم امتازوا به دون سائر الناس، بل إن ما يجمعهم هو ما شغلوا به الناس فـي أمرهم، والحقَّ أن الناس هم من اشتغلوا بأمر هؤلاء وتنازعوا فـي شأنهم وحالهم ومآلهم وقالوا فـيهم فأكثروا القول فـي غير تثبت وبغير ميزان. ولكننا جميعا دون استثناء، المحب والشانئ على السواء؛ لا نستطيع إطلاقا أن ننكر أثرهم فـي تاريخنا وحياتنا، بوعي منا أو بغيره.
ومن سخرية القدر أنني كنت أود الحديث عن قصيدة المتنبي التي أسر بها مصر فغدت رهينة لحزن قصيدته «عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ»، فلا يأتي العيد إلا ويتذكر من يستحضرها آلامه وهمومه، حتى لكأن القصيدة نوع من بكائه الداخلي ورثائه لنفسه، فلا يرى فـيها قصيدة لشاعر مات قبل ألف سنة؛ بل يبكي روحَه وحياتَه هُوَ. رغم أنه ينسى أمرا فـي غاية الأهمية؛ وهو أنه لم يكن ليقرأ القصيدة لو كان ميتا!، فكيف ينسى المرء أنه حي؟ ولماذا يتعامل مع حياته وكأنه فاقد للحيلة مسلوب الإرادة؟. ما يجعلنا لا نشعر بقيمة الزمن، أننا نتعامل معه تعاملا ماديا؛ فنحن نقيس الزمان وجودته بالإنجازات التي حققناها، وهي فـي حقيقة كثير منها ليست سوى إرضاء لحاجتنا الداخلية للإحساس بالقيمة. بينما نستشعر القيمة الحقيقية للزمن، فقط حين نخسر ما خسرناه ولا يعود للندم عائد أو فائدة.
يأتي العيد مذكرا لنا بأن عاما كاملا انقضى فـي السعي الدؤوب، وأن الوقت حان لنتنفس قليلا هواء العائلة والبلاد، دون ضجيج السيارات وتنازع لقمة العيش والمنغصات اليومية. يأتي ليذكرنا الكرسي الفارغ بمكان عزيز علينا رحل تاركا أثره الذي يشبه نسائم البحر الصباحية، وحفـيف سعف النخيل السامقة فـي عصرية ربيعية منعشة. يذكرنا بأن نتريث قليلا، وننظر فـي اليوم، اليوم الذي قتلناه وتجاهلناه لكثرة ما تحدثنا وترقبنا وانتظرنا الغد، المستقبل، الآتي!. إنه يذكرنا بأن الماضي كان مستقبلا فـي لحظة ما، وبأن ما نفقده كان بحوزتنا وبين أعيننا، وبأن التاج الذي نتحسس رأسنا كلما تذكرناه، انتقل إلى رأس آخر علّه كان أكثر حكمة منا فـي استغلال وجوده. فالصحة والعائلة والطمأنينة والأمان كنوز وتيجان لا يشبهها شيء البتة؛ فهل ننتظر الصيف لنبكي على اللبن المسكوب؟، أم سيكون هذا العيد بداية لتدارك ما أسقطته الأيام، وغبّره الزمان.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: