قال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: إننا أصبحنا أمام تحدٍّ كبير خاصة بعد الثورة التكنولوجية الحديثة وما واكبها من تطورات في مجال الاتصالات والمعلومات وانتشار أدوات التواصل الاجتماعية المختلفة، وأخيرًا ثورة الذكاء الاصطناعي التي قلبت الموازين في مجالات كثيرة.

وأضاف خلال كلمة رئيسية ألقاها ضمن فعاليات مؤتمر "تأطير الحريات وَفق القيم الإسلامية والقانون الدولي"، المنعقد بمقر منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) في مدينة الرباط بالمملكة المغربية، أننا أصبحنا في عالم مفتوح معرفيًّا وفكريًّا، عالم يموج بالأفكار والرؤى والفلسفات والمفاهيم والتغيرات والتطورات المتلاحقة، ولا شك أن هذا التطور الهائل قد صاحبه خير كبير في مجالات كثيرة، لكنه حمل معه أيضًا كثيرًا من الأفكار الملتبسة والمفاهيم المغلوطة والرؤى المتضاربة التي أحدثت تشويشًا ولغطًا عند البعض.

وأوضح المفتي أنه على رأس هذه المفاهيم مفهوم ممارسة الحريات وما يتعلق بها من قضايا شائكة خاصة إذا وجدنا أن بعض الشذاذ يرى أن من حقه ومن ضمن إطار ممارسة حريته إهانة الأديان الإلهية والكتب السماوية والرسل والأنبياء والمقدسات الدينية بدعوى ممارسة الحرية، ولا يرى أية غضاضة أو حرج في جرح شعور ملايين المسلمين بل وغير المسلمين حينما يعتدي على دينهم ومقدساتهم بدعوى ممارسة الحرية.

وأشار مفتي الجمهورية إلى أننا لا نرفض الحرية مطلقًا ولا نصادر على الحريات أبدًا، لأن الله تعالى قد كفل الحرية للإنسان كفالة لا مرية فيها ولا شك حينما قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، لكننا بحاجة إلى أن نوضح للعالمين معنى حق الحرية ونزيل كثيرًا من اللغط واللبس حول هذا المفهوم.

فإذا قررنا أن الحرية حق مكفول مضمون بموجب الشرع والقانون فلا بد أن نقرر أيضًا أنه ما من حق إلا ويقابله واجب، فجميع الحقوق مقيدة كلها بالواجبات، وهذا المعنى الذي يريد بعض الناس طمسه وتجاهله هو المعنى الذي قررته القوانين الدولية والأديان السماوية بل والقيم الإنسانية، ذلك لأن الحياة الإنسانية تقوم في أساسها على التعايش السلمي وتبادل المنافع والمصالح حتى يتحقق العمران ويعم الخير على بني الإنسان، وهذا يستدعي بالضرورة الحفاظ على النظام العام وتقييد تصرفات الإنسان بما يدرأ المفاسد والأضرار والشرور عن غيره من أبناء المجتمع.

وإذا تصورنا أن لكل إنسان حقًّا في أن يمارس ما يشاء من الأقوال والأفعال دون أن نقيد ذلك بقيود تمنع وقوع الفساد والضرر فلا بد أن نتصور معه إبطال كل معاني الاجتماع الإنساني والعمراني، إذ لا معنى للحرية بهذا المفهوم المغلوط إلا النزاع والفساد.

في السياق ذاته قال المفتي، إن القرآن الكريم ناقش قضية حرية الاعتقاد وإبداء الرأي والتحاور حول كل الثوابت الدينية بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمرنا أن نستمع إلى غيرنا مهما كان الاختلاف كبيرًا حتى لو كان في أمور العقائد والآراء، فقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وإن من مقتضيات (التي هي أحسن) أن يكون الحوار عقلانيًّا يمضي على أساس من الحكمة والموعظة الحسنة.

وأمرنا الله تعالى كذلك أن نعظم المشتركات بغيةَ الوصول إلى صيغ مشتركة للتعاون والاجتماع، قال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وقيد الله تعالى ذلك كله بالنهي عن السب والطعن والتشهير والنيل من مقدسات الغير على سبيل الاستثارة والاستفزاز، قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، لأن السب والغمز واللمز فضلًا عن أنه قبيح في ذاته ويجافي مكارم الأخلاق، إلا أنه أيضًا ليس طريقًا من طرق البحث ولا الحوار المنهجي الذي يوصل صيغة كريمة للتعايش.

وأكد أن القرآن الكريم قد تناول قضية الحرية في أرفع مجالات الحياة وأغلاها على الإنسان وهو مجال الإيمان والعقيدة، وتناول أيضًا تقرير الواجب المقابل لحرية الاعتقاد والرأي وهو احترام الآخر وعدم الاعتداء عليه بالقول أو بالفعل وعدم استفزازه حتى لا يخرج من إطار الحوار العقلاني المنهجي إلى عكس ذلك. وعلينا أيضًا ألا نرضى من الآخرين إلا بذلك، أي باحترام عقائدنا ومقدساتنا.

كما لفت مفتي الجمهورية النظر إلى إن ممارسة الحريات وَفق الضوابط الشرعية والقانونية يضمن للمجتمعات أمنها وسلامتها، ويحافظ كذلك على الأمن والسلام النفسي للأفراد، ويضع حدودًا وقيودًا لهؤلاء العابثين الذي تصوروا الحرية على غير وجهها فنشروا بسبب ذلك القلاقل والفتن.

ولا شك أن هناك إشكالات أخرى غير قضايا العقائد نحتاج إلى بحثها ووضع الضوابط لها، خاصة مع تطور وسائل الذكاء الاصطناعي التي سهلت كثيرًا من الأمور الإيجابية النافعة في مجالات عديدة لكنها أيضًا سهلت الانتحال والتزييف والتلفيق، ولا شك أن تطور هذه الوسائل مع ضعف منظومة الأخلاق والقيم يشعرنا جميعا بأننا أمام خطر كبير وتحدٍّ عظيم، لأننا إذا جرَّدنا مفهوم التطور والتقدم عن منظومة القيم والأخلاق الحامية للمجتمع نكون قد جردنا التطور ذاته عن معناه الإنساني والحضاري وهو أن يستعمل ويسخر لخدمة الإنسان والعمران ونشر الخير بين الناس.

وأشار المفتي إلى إن الحديث عن هذه المعاني التي تتعلق بالحرية وضوابطها هو في حقيقته حديث عن النموذج المعرفي الذي ينبغي علينا أن نهتم بغرسه في نفوس شبابنا وأبنائنا قبل أن يصلوا إلى مرحلة التأثر بتلك المفاهيم المغلوطة، ومن ثم فإن قضية التربية وصناعة الوعي الصحيح لدى الأجيال الناشئة والاهتمام بتعميق الثوابت الدينية والأخلاقية لهو من أهم الوسائل المعينة على تنشئة تلك الأجيال على مفاهيم صحيحة واضحة غير ملتبسة بالمفاهيم المغلوطة وبخاصة فيما يتعلق بإشكالية الحريات في حياتنا المعاصرة وعالمنا المفتوح.

وفى ختام كلمته توجه المفتي بالشكر للأستاذ الدكتور سامي الشريف الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية وللعلماء والباحثين المشاركين في هذا المؤتمر، مثنيًا على موضوع المؤتمر الذي يعالج قضية من أهم وأخطر القضايا الفكرية التي تشغل بال المشتغلين بحقول العلم والفكر والفلسفة والاجتماع والسياسة وهي قضية الحريات وما يتعلق بها من إشكالات وقضايا معقدة ومتشابكة.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الأفكار المغلوطة التطور التكنولوجي الحريات الحكمة الضوابط الشرعية الكتب السماوية المفتي المقدسات الدينية المملكة المغربية ثورة الذكاء الاصطناعي مفتي الجمهورية مفتي الديار المصرية ممارسة الحرية مفتی الجمهوریة الله تعالى

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية يزور رئيس قضايا الدولة لتهنئته بالمنصب الجديد.. صور

زار الدكتور نظير عياد، مفتي جمهورية مصر العربية، اليوم المستشار الدكتور حسين إبراهيم مدكور، رئيس هيئة قضايا الدولة، لتهنئته بتولي مهام منصبه الجديد كرئيسا لقضايا الدولة.

«الوطنية للانتخابات» تواصل تلقي أوراق المتقدمين للترشح لـ انتخابات الشيوخ لليوم الثالثالوطنية للانتخابات: 236 مواطنا عدد المتقدمين للترشح لانتخابات الشيوخالوطنية للانتخابات: تقدم 201 شخص بأوراق الترشح لانتخابات الشيوخ فرديالهيئة الوطنية: انتخابات مجلس الشيوخ أول أغسطسالوطنية للانتخابات: لأول مرة بطاقات اقتراع لذوى الإعاقة البصرية والسمعيةالوطنية للانتخابات: 109 لجان و27 معملا لإجراء الكشف الطبي لمرشحى الشيوخ


وخلال الزيارة، أعرب الدكتور نظير عياد، عن خالص التهاني القلبية والتقدير لرئيس الهيئة، متمنيًا له دوام التوفيق والسداد في مهامه الجليلة، مؤكدًا على ثقته الكاملة في قدرته على قيادة الهيئة لتحقيق المزيد من الإنجازات في خدمة مسيرة القضاء والعدالة بمصر، والحفاظ على حقوق الدولة ومصالحها العليا.

وأشاد عياد، بالخبرة القانونية الواسعة والكفاءة العالية التي يتمتع بها المستشار الدكتور حسين مدكور، والتي تؤهله لتولي هذه المسؤولية الوطنية الكبيرة.


من جانبه، رحب المستشار الدكتور حسين مدكور بزيارة مفتي الجمهورية، معبرًا عن شكره العميق لهذه المشاعر الطيبة والتهنئة القلبية، مؤكدًا على تقديره الكبير لدور دار الإفتاء الريادي في خدمة المجتمع وترسيخ القيم الدينية السمحة.

وأكد رئيس هيئة قضايا الدولة، على حرصه على تعزيز أواصر التعاون والتنسيق بين هيئة قضايا الدولة ومختلف مؤسسات الدولة، ومنها دار الإفتاء المصرية، بما يخدم المصلحة العامة ويحقق أهداف التنمية الشاملة التي تنتهجها البلاد.

وتم خلال اللقاء تبادل الرؤى حول سبل تعزيز التعاون المشترك بين المؤسستين في المجالات ذات الاهتمام المشترك، في إطار احترام تخصصات ودور كل منهما.

ومن جانب قضايا الدولة، حضر اللقاء: المستشار أحمد فكرى صالح، نائب رئيس الهيئة، رئيس إدارة التفتيش الفنى، المستشار سمير شراده، نائب رئيس الهيئة، رئيس المكتب الفنى، المستشار أحمد سعد، نائب رئيس الهيئة، رئيس إدارة التنسيق والتواصل مع الجهات والهيئات الحكومية، المستشار وليد صالح، نائب رئيس الهيئة، المكتب الفني لرئيس هيئة قضايا الدولة.

طباعة شارك مفتي جمهورية مصر العربية الدكتور نظير عياد مفتي الجمهورية هيئة قضايا الدولة المستشار الدكتور حسين إبراهيم مدكور قضايا الدولة

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية يستقبل المدير التنفيذي لمركز باكو الدولي للتعددية الثقافية
  • مفتي الجمهورية يعرب عن خالص التعازي لأسر الضحايا في حريق سنترال رمسيس
  • مفتي الجمهورية ينعى شهداء حريق سنترال رمسيس
  • مفتي الجمهورية يدين اقتحام عشرات المستوطنين لساحات المسجد الأقصى
  • مفتي الجمهورية يهنئ رئيس هيئة قضايا الدولة بالمنصب رسميًّا
  • رئيس مجلس الدولة يستقبل مفتي الجمهورية لتهنئته بالمنصب الجديد
  • مفتي الجمهورية يزور رئيس قضايا الدولة لتهنئته بالمنصب الجديد.. صور
  • مفتي الجمهورية يهنئ رئيس مجلس الدولة بمنصبه الجديد
  • مفتي الجمهورية: القضية الفلسطينية محورية وحاضرة في قلب الأمة .. صور
  • مفتي الجمهورية يهنئ القاضي عاصم الغايش برئاسة محكمة النقض