لجريدة عمان:
2025-03-26@05:15:54 GMT

لا تعهِدوا بقصص حياتكم للذكاء الاصطناعي

تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT

بينما كنت أقوم بتصحيح واجبات الطلبة الجامعيين في مادة الكتابة الإبداعية، مررت بأزمة إيمان عنيفة فيما يتعلق بالمستقبل، أعني مستقبل الدراسة الأكاديمية، ومستقبل الكتابة، ومستقبل التفكير. كنت قد كلفت الطلبة بأن يكتبوا عن هاجس مسيطر عليهم، أو أن يكتبوا قصة حياتهم من منظور أحد الهواجس المسيطرة على الثقافة الجماهيرية.

والعادة مع هذا التكليف أنه يثمر كتابات مدهشة وعميقة ومفعمة بالحيوية من طلبة لم يجربوا من قبل تناول اهتماماتهم الشخصية بجدية، فإذا بي في هذه المرة أتلقى نصًا من ألفيّ كلمة يعرّف «الهاجس» مستندًا إلى الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية (DSM-5) وإلى مصادر إلكترونية عديدة، وكله مكتوب بأسلوب (تشات جي بي تي) النثري الضحل الخالي من الحياة.

كشفت شركة (أوبن آيه آي) [OpenAI] في وقت سابق من الشهر الحالي عن نسخة جديدة من إصدار تدريبي يعد -على حد قول رئيس الشركة التنفيذي سام آلتمان على الأقل- «بارعا في الكتابة الإبداعية». ومن غير الواضح بعد متى سوف يتم إطلاق هذه النسخة، لكن بوصفي مدرسًا قديمًا للتأليف لطلبة السنة الأولى فإنني أعرف تمام المعرفة خطورة الغش من خلال الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في فصول تدريس الكتابة بشتى أنواعها. ويمكنني أن أتعاطف معهم ـ بقدر ما. فالطلبة يجدون أنفسهم غارقين، ويدفعهم الذعر إلى اللجوء إلى آلات الانتحال الأدبي. هؤلاء الطلبة أنفسهم أغرقتهم دعايات الذكاء الاصطناعي، وصادفوا بلا شك تغطيات إخبارية شديدة السذاجة مليئة بالمزاعم المضللة عن مدى إعجازية أدوات الذكاء الاصطناعي.ولكن، هل لطالب يدرس الكتابة الإبداعية أن يستعمل الذكاء الاصطناعي؟ وفي فصل مخصص لدراسة كتابة السيرة الذاتية؟ ترى ما الذي يمكن أن تقوله عن حياتك وأنت لا تريد أن تكبد نفسك مجرد عناء التفكير فيها؟

أعرف شخصيا، وقد كتبت عملين سيريّين، التحديات والمسرات الكامنة في هذا العمل، وأود أن يمر طلبتي بتجربتهم مع هذه التحديات هم الآخرون، ففعل كتابة السيرة الذاتية لا يتعلق بمحض قولك «انظروا إليَّ»، إنما هو يتعلق بالأحرى بتقويتك لنفسك وتعريفك لماهيتك، فذلك يجري جزئيا بمعاودة الرجوع إلى التجارب المنهكة بصفة خاصة، وتحليلها من جميع الزوايا، ورؤيتها في صورتها المعقدة، وإعادة سردها. وهذه العملية -ولا أقول هذا بأي قدر من الاستخفاف- تجعل الكاتب يشعر أنه أكثر امتلاء بحياته.

وإيكال أمر هذه المهمة، دون كل مهام الدنيا، إلى آلة عمل محبط إلى أبعد الحدود. والأدهى من ذلك أن يعهد بها إلى آلة تجوب الإنترنت جمعًا لنسخ مزيفة من نفسك، فذلك ليس خيانة للأمانة الأكاديمية وحسب، وإنما هو امتهان لذكرياتنا وإنسانيتنا. ومما يحبط المرء أن يفكر في أولئك الشباب الموهوبين إذ يعهدون لا بعملهم المهني وحده وإنما بقصص حياتهم ذاتها إلى حاسوب.

وليس الطلبة أكثر ما يعنيني. فإغواء استعمال طريق الذكاء الاصطناعي المختصر يمثل عرضا من أعراض ثقافة امتهنت كثيرا قيمة الكتابة وقيمة القراءة على السواء، إلى حد أن يبدو للبعض من طلابي أن الخيار العقلاني حقا هو النأي بأنفسهم عن كليهما.

في أيامنا هذه يزداد كثيرا امتهان الخبرة وتقدير ما يسمَّى بالكفاءة على جميع ما عداها. لكن ماذا لو أن كمال تكوين المرء -وهذا ما أنا مقتنع به تمام الاقتناع- لا يتعلق بتعظيم إنتاجيته وإنما بفهم جوانب عدم الكفاءة والفوضى في الحياة، بل وباحتضانها؟ فكل التعلم في برامج الكتابة إنما يحدث في هذه اللحظات الكفاحية. وهذه المهارات التي يتعلمها الطالب في هذا البرنامج هي المهارات الحيوية، لأن معرفة الظرف الإنساني وفهمه سوف يظلان أمرا جوهريا بعد أن يذوي الذكاء الاصطناعي بزمن طويل.

قد تبدو هذه معركة عبثية، فالسؤال الذي يواجهني أكثر مما سواه في عملي ممن لا علاقة لهم به هو ما إذا كان الطلبة يكتبون أي شيء حقا، والحق أن أغلبهم في حدود ما أرى يكتبون: يكتبون مسوَّدات، وينقحونها، ويتعثرون، ويسهرون الليل ويصابون بالإحباط ويقدمون لي أفضل ما في وسعهم عمله، وهم يفهمون أن سحر السيرة الذاتية إنما يتحقق حينما يتفاعل قارئ مع الوعي الفريد الواقع في الجانب الآخر من الصفحة.

وقد تتعلم أداة الذكاء الاصطناعي كيف تحاكي بالاصطناع المنتج الكتابي النهائي، ولكنها لن تحاكي أبدا روح كاتب أو طريقة إنتاجه لكتابة ذات معنى، فالعملية التي يحل بها عقل فردي متفرد مشكلة ما هي التي تمنح القراء قدرة على التواصل مع ذات شخص آخر، شخص فعلي، وهذه العملية هي التي تشكل جوهر حياة الكتابة والحكي وهي شريان الحياة لكليهما.

أعرف أن مشكلة الذكاء الاصطناعي سوف تتفاقم على مدى السنوات القادمة، في ظل تبني مؤسساتنا للتكنولوجيا لم تثبت جدواها تمام الثبوت، فها هي إدارات الجامعات تعلن دوريا عن شراكات جديدة مع شركات مبتدئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وها هم أساتذة يعمدون بنية حسنة -فلعلهم يتخيلون طالبا مثاليا في عالم مثالي، أو أن الأمر لا يعدو أنهم يشعرون أن عليهم أن يجاروا الحداثة- إلى دمج هذه الأدوات في فصولهم، حتى لو أن الطلاب يرون هذه الأدوات محض طرق مختصرة يسيرة.

وليس من شيء تحت سيطرتي حقا بوصفي معلمًا إلا ما أعمله في فصلي. فسوف أظل أدرّس للطلبة، سواء أكتبوا سيرة ذاتية تصبح من أكثر الكتب رواجًا ومبيعًا أم اقتصر أمرهم على الخربشة في دفاتر يومياتهم بين الحين والحين، سأظل أعلمهم أننا قادرون على أن ننجز العمل بأمانة وبجدية قدر استطاعتنا، واضعين أنفسنا وهواجسنا على الصفحة.

ففعل الكتابة نفسه قد يكون فعل حفاظ على الذات، بل وفعل عصيان، وما شرارة الثورة هذه إلا أعظم نقاط قوتنا، وما لهذه الشرارة من وجود إلا في أنفسنا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

الفرحان: دوّنا 95 إفادة وفق المعايير القانونية فيما يتعلق بالأحداث وتلقينا أكثر من 30 بلاغاً بشأن الأحداث ونخطط للانتقال إلى طرطوس وبانياس وحماة وإدلب لتقصي الحقائق

2025-03-25hadeilسابق المتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل ياسر الفرحان خلال مؤتمر صحفي: عاينا 9 مواقع واستمعنا لشهادات الجهات الأمنية والعسكرية والمدنية في اللاذقية انظر ايضاًالمتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل ياسر الفرحان خلال مؤتمر صحفي: عاينا 9 مواقع واستمعنا لشهادات الجهات الأمنية والعسكرية والمدنية في اللاذقية

آخر الأخبار 2025-03-25المتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل ياسر الفرحان خلال مؤتمر صحفي: عاينا 9 مواقع واستمعنا لشهادات الجهات الأمنية والعسكرية والمدنية في اللاذقية 2025-03-25استشهاد 4 مواطنين وإصابة آخرين جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي بلدة كويا غرب درعا 2025-03-25إصابة خمسة أشخاص جراء حريق اندلع في منطقة الجسر الأبيض بدمشق 2025-03-25وزارة الأوقاف تقيم مهرجان رمضان النصر في حماة 2025-03-25وزير الزراعة يبحث مع القائم بأعمال السفارة السودانية بدمشق التعاون ‏المشترك في المجال الزراعي‏ ‏ 2025-03-24المنصور: إطلاق مشروع لأتمتة العمل في الجهاز المركزي للرقابة المالية وفتح التحقيق في 50 قضية فساد وهدر للمال العام 2025-03-24وزير المالية يبحث مع وفد من البنك الدولي سبل تحديث عمل الوزارة ‏لمواكبة أحدث الأنظمة المالية العالمية 2025-03-24بمناسبة عيد المعلم… تكريم 175 معلماً في مدارس المهاجرين وركن الدين ‏بدمشق ‏ 2025-03-24وزارة الإعلام: حملة تبليغات إلكترونية ممنهجة تستهدف الصفحات الرسمية الحكومية والشخصية للمواطنين 2025-03-24محافظ حماة ‏يعلن البدء بتجهيز مركز متكامل لمرضى الكلى بما يلبي ‏احتياجاتهم

صور من سورية منوعات جامعة ناغازاكي تطور “مرضى افتراضيين” لتدريب طلاب كلية الطب 2025-03-24 المائدة الرمضانية في درعا… تنوع يجمع بين الأصالة والنكهة 2025-03-15فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • إطلاق أول مختبر للذكاء الاصطناعي لأصحاب الهمم
  • بنسعيد يتعهد بالعمل على ضمان "استخدام أخلاقي وآمن" للذكاء الاصطناعي لـ"صالح جميع المواطنين"
  • "الإمارات للتنمية" يطلق أول مختبر للذكاء الاصطناعي لأصحاب الهمم
  • الفرحان: دوّنا 95 إفادة وفق المعايير القانونية فيما يتعلق بالأحداث وتلقينا أكثر من 30 بلاغاً بشأن الأحداث ونخطط للانتقال إلى طرطوس وبانياس وحماة وإدلب لتقصي الحقائق
  • ديب سيك تعزز منافستها مع OpenAI بتحديث نموذجها للذكاء الاصطناعي
  • من يُلام في خطأ طبي يرتكبه الذكاء الاصطناعي؟
  • بحضور خبراء دوليين.. مركز "ICAIRE" يستعرض تقرير جاهزية المملكة للذكاء الاصطناعي
  • Gmail يطور ميزة البحث .. الذكاء الاصطناعي يحدد ما تحتاجه أولا
  • الذكاء الاصطناعي… أهو باب لمستقبل واعد أم مدخل إلى المجهول؟