لجريدة عمان:
2025-03-26@02:57:03 GMT

«حكايات الجنون العادي»

تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT

«حكايات الجنون العادي»

ما من جنون من دون معنى، إذ إن الأفعال التي يعتبرها الناس العاديون، المتزنون، أفعال مجنون، نجدها تنطوي على سرّ معاناة لم يُصغِ إليها البشر ولم يستوعبوها. هذه المعاناة، هي التي تسعى إلى كتابتها واستيعابها والإنصات إليها الشاعرة الإيطالية آلدا ميرني فـي كتابيها «الحقيقة الأخرى» و«جارتي المجنونة» (الصادرين فـي ترجمة فرنسية عن الإيطالية)، والتي تستعيد فـيهما حكايتها مع «الجنون» وأجواء المصح الذي شهدت فـيه أقسى أنواع المعاملة (حيث وضعت فـيه عدة مرات ولسنوات عديدة).

ما تحاوله ميريني (1930 ــ 2009) هو كتابة «قصة واضحة»، لا هوادة فـيها، عن تجربة «الاحتجاز النفسي» فـي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إذ إنها عاشت ذلك فـي أعمق لحظات الهجران والتخلي، فـي مصح باولو بيني فـي ميلانو، بعد أن أُدخلت إليه بناء على طلب زوجها الذي وجد أن حالتها الذهنية قد تدهورت ولم تعد تحتمل. من هذه التجربة، وبعد سنوات عديد كتبت ميريني فـي «الحقيقة الأخرى»، أولا، عن ظروف هذا اللجوء المعيشية، عن هذا الجحيم الذي يفقد فـيه المرضى إنسانيتهم تدريجيا بين الحرمان من الحقوق والمعاملة الوحشية التي يتعرضون لها.

من هنا يأتي «شعر» هذه الصفحات أشبه بسلاح فـي خدمة «روح الطفولة (...) التي لا يمكن لأحد أن يفسدها»، إنه سلاح لتجنب الغرق، ولإعادة إحياء الأمل فـي أن يكون المرء محبوبا، وإنسانا قبل أي شيء آخر. والنتيجة التي تكتبها الشاعرة الإيطالية تقدم إلينا واحدا من النصوص الأدبية، العظيمة، التي تصور الجنون. بهذا المعنى، يبدو الكتاب، بمثابة مذكرات «امرأة غريبة» (كما تصف نفسها، ووفق عنوان الكتاب الثانوي) تُدعى آلدا ميريني، تتحدث بدقة عن مجموعتين من الناس: الأولى، أولئك الذين يقبعون فـي مستشفى الأمراض النفسية، وكأنهم يسكنون فـي بلد آخر، والثانية، عن أناس الواقع الذي يسكنه أشخاص لم نعد نعرفهم/لا نعرفهم. إزاء ذلك، لسنا أمام كتاب «متخيل»، بل أمام كتاب يخبرنا، من الداخل، عن الأشياء التي يجب التنديد بها عندما نطلق على أنفسنا لقب بشر. هو كتاب عن الجنون العادي (فـيما لو استعرنا عنوان كتاب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي)، جنون العلاجات النفسية المؤكد، ربما لذلك، يجب على كل طبيب نفسي قراءته (قبل أي قارئ عادي)، ليذكر نفسه بأن «كل فعل يعتبره الناس العاديون الرصينون جنونًا ينطوي على لغز معاناة غير مسبوقة لم يدركها البشر».

كتبت ميرني هذين الكتابين فـي فترة متأخرة من حياتها، بعد أن تم الاعتراف بها بأنها شاعرة ذات موهبة عظيمة واستثنائية؛ تأتي كتابتها وكأنها تصف الحياة اليومية عبر استخدامها مشرطًا. جمل قاطعة، قوية، عن الصدمات الكهربائية؛ عن سادية بعض الأطباء، باستثناء الدكتور جي، الذي يبدو أكثر إنسانية؛ عن الأطراف التي يتم تثبيتها بأشرطة كنوع من العقاب؛ عن الأدوية الكثيرة التي تُعطى لها، عن الحب الذي يُنتزع منها فـي المستشفى؛ عن المخاوف والهموم التي تأتي من المرضى الآخرين، من عنفهم، وهوسهم. إنها صورة مرعبة عن الــ«مانيكوميو» (مستشفى الأمراض النفسية) الذي يدمر الفرد الهش، المصاب بسوء الحظ حين يُرسل إلى هناك، إلى النسيان الأبدي.

فـي الكتاب الثاني، «جارتي المجنونة» نقع أيضا على نوع من السيرة الذاتية، حيث تمزج فـيه الكاتبة ما بين المذكرات الشخصية والتأملات والشهادة المؤثرة عن الجنون الذي أصاب المؤلفة طوال حياتها، (وإن كانت عرفت بعض فترات التحسن). فـي أي حال، لا يمكن للمرء فعلا أن يخرج سالمًا بعد هذه القراءة. قد يكون مرد ذلك، فـي المقام الأول، إلى القوة الاستحضارية للكتابة التي تجذبنا إلى منعطفات وتقلبات حياة باهظة وهامشية، على الرغم من ارتباطها بكتّاب إيطاليين عظماء مثل سلفاتوري كوازيمودو وجورجيو مانيانيلي. لا تخفـي آلدا ميريني عنّا أي شيء حول علاقاتها الغرامية، «الأجمل منها والأكثر قذارة». لقد كانت تحمل فـي طياتها تصوفًا محبطًا -فقد أرادت دخول دير -وحاجة إلى المعاناة: «المعاناة فن». يجب علينا أن نتعلم كيف نعاني. وفوق كل ذلك، يجب علينا أن نعاني من دون أن نتمكن من إنقاذ أنفسنا. إنها تتوقع من الشعر ليس الخلاص، بل التسامي: «يجب على الشاعر أن يتكلم، ويجب أن يأخذ هذه المادة المتوهجة التي هي الحياة اليومية ويحولها إلى تدفق من الذهب».

أين الحقيقة وأين الخيال؟ عند قراءة آلدا ميريني، لا يهم فعلا أن نعرف الحقيقة. فالانطباع السائد الذي يتكون عندنا هو أنها وقعت ضحية لمؤامرة واسعة النطاق. ولكن بالنسبة لها هذا ليس اعتقادًا، بل هو واقع معايش. هكذا هي الحال: الجنون يخترع واقعه الخاص. قد يكون الأمر مؤلمًا، لكنه تجربة تجعلك خارج حدود العقل. لا يمكن أن نؤكد بما فـيه الكفاية على أنها قبل كل شيء شكل من أشكال المعاناة ــ «تطهير»، كما تقول الشاعرة، «معاناة باعتبارها جوهر المنطق» ــ وغالبًا ما تقيد أكثر مما تحرر. من هنا تبدو القوة العظيمة التي تتمتع بها آلدا ميريني بأنها تكمن فـي محاولتها «إدارة جنونها»، وتحويله إلى دعم للإبداع الأدبي، «مهنة الجنون التي يمكن أن ترفعك إلى مستويات عالية من الشعر». بطريقة ما، لقد استطاعت أن تنقذ نفسها من الجنون من خلال كتابتها، وهذا ما أسهم بدوره فـي جعلها شاعرة إيطالية عظيمة.

هناك عفوية فـي كلّ ما تكتبه ميريني، والتي تجذب القارئ بنوع من الوضوح والغرابة. من هي هذه المرأة المجنونة المجاورة؟ تقول آلدا ميريني، «إنها جارتي». بالنسبة لها، المجنون هو أنا، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع سكان نافـيجليو ــ حيها فـي ميلانوــ. لذا عندما نقرأها، يتسلل إلينا شك: ماذا لو لم تكن المرأة المجنونة المجاورة، «جارتي المجنونة» هي ميريني نفسها، ماذا لو كانت امرأة أخرى فعلا، ماذا لو كانت نحن، وحتى المجتمع ككل، كما كتب انطونان أرتو بشكل رائع عن فان جوخ فـي نصه المدهش «فان جوخ منتحر المجتمع»؟

لقد عاشت آلدا ميريني حياتها كلها مع الجنون، «حياة هادئة تقاسمتها مع الجنون»، كما تقول. «الجنون هو أحد أكثر الأشياء قدسية على الأرض. إنه طريق تطهير الألم، والمعاناة باعتبارها جوهر المنطق». عاشت آلدا ميريني طيلة حياتها فـي التهميش والفقر. كانت امرأة ذات ميول جنسية جامحة، وأم لأربع بنات لم تعتنِ بهن، عاشت أيضا فـي الشارع والمقاهي بقدر ما عاشت فـي المنزل والمصحات، وقد استمدت من هذه الحياة عملًا فريدًا وغير مسبوق، أكسبها فـي أواخر حياتها إعجاب جميع الإيطاليين ومودتهم. متشردة رائعة، ومستفزة بريئة، خيالية وواضحة، رومانسية للغاية، وعلى الرغم من كل شيء، كانت امرأة مبهجة للغاية، على الرغم من كلّ شيء.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

نيويورك تايمز: لو كانت لدى هيغسيث ذرة شرف لاستقال من منصبه

كتب ديفيد فرينش أن وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث أهدر مصداقيته كقائد عسكري، ولم يعد بإمكانه أن يُواجه أفراد الجيش بسبب ارتكابه خرقا أمنيا فادحا، يدعو إلى عواقب فورية مثل الإعفاء من القيادة، يتبعه تحقيق شامل، وربما توجيه اتهامات جنائية.

وقال الكاتب -في عموده بصحيفة نيويورك تايمز- إن الصحفي جيفري غولدبرغ من مجلة "ذي أتلانتيك" نشر واحدة من أكثر القصص غرابة، وذلك أن مايكل والتز، مستشار الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب، دعاه عن غير قصد، للانضمام لدردشة جماعية على تطبيق "سيغنال" المشفر، بدا أنها تضم ​​العديد من كبار مسؤولي ترامب، بمن فيهم مستشار الأمن الداخلي ستيفن ميلر، ونائب الرئيس، جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيغسيث.

ولم يلاحظ أحد منهم على ما يبدو -حسب الصحيفة- وجود الصحفي غولدبرغ الذي كان في الصف الأمامي أثناء مناقشة قرار ترامب مهاجمة جماعة الحوثيين اليمنية، وفي الساعة 11 و44 دقيقة صباحا يوم 15 مارس/آذار أرسل الحساب المسمى "بيت هيغسيث" رسالةً تتضمن "تفاصيل عملياتية للضربات القادمة على اليمن، بما في ذلك معلومات عن الأهداف والأسلحة التي ستنشرها الولايات المتحدة وتسلسل الهجمات".

إعلان

وقال ديفيد فرينش إن ذلك كان خرقا أمنيا فادحا، وأضاف "أنا ضابط سابق في مكتب المدعي العام العسكري، ساعدتُ في التحقيق في العديد من مزاعم تسريب معلومات سرية، ولم أسمع قط عن أمرٍ بهذه الفظاعة، وزير دفاع يستخدم تطبيق مراسلة مدنيا عمدا لمشاركة خطط حرب حساسة دون أن يلاحظ حتى وجود صحفي في الدردشة".

وأكد الكاتب شناعة هذا الخرق وقال إنه عادة يؤدي إلى الإعفاء من القيادة وبعد ذلك إلى تحقيق شامل، وربما توجيه اتهامات جنائية، لأن القانون الفدرالي يجرم قيام شخص بسحب معلومات "متعلقة بالدفاع الوطني" من "مكانها أو تسليمها لأي شخص، أو إضاعتها، أو سرقتها، أو أخذها، أو إتلافها".

وذكر كاتب التقرير بأنه لا شيء يُدمّر مصداقية القائد لدى الجنود أكثر من النفاق أو ازدواجية المعايير، لأن القادة عندما يخالفون القواعد التي يفرضونها على الجنود، يُحطمون رابطة الثقة بينهم، وأفضل القادة الذين عرفتهم لم يطلبوا من جندي الامتثال لقاعدة لا تنطبق عليهم، لأنهم يمثلون القدوة.

مقالات مشابهة

  • مبعوث ترامب للمهام الخاصة: الأسلحة النووية التي تخلت عنها كييف كانت ملكا لروسيا
  • رمضان زمان.. حكايات على ضوء الفانوس| "أميرة في عابدين" رحلة بحث عن الذات وسط زحام الحياة
  • رمضان زمان.. حكايات على ضوء الفانوس| المال والبنون.. صراع القيم بين الثروة والمبادئ
  • نواب التنسيقية يؤكدون ضرورة تخفيف الغرامة في عقوبة الخطأ الطبي العادي بـ"المسئولية الطبية"
  • بعد تخفيض الغرامة.. عقوبة الخطأ الطبي العادي والجسيم
  • نيويورك تايمز: لو كانت لدى هيغسيث ذرة شرف لاستقال من منصبه
  • بعد إقرارها.. الفارق بين الخطأ الطبي العادي والجسيم.. ومصيرهما
  • حصار وأشلاء: حكايات الفارين من الجحيم الإسرائيلي في حي”تل السلطان” / شاهد
  • نافذ الرفاعي لـ "البوابة نيوز": حكايات الحب والحرب والنجاة والموت في غزة تستحق الكتابة عنها