«الفن.. ذلك الجرح الذي يصبح ضوءا»
تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT
كيف لنا أن نعيش من دون الفن، من دون الدراما؟
لا أتذكّر كم كان عمري حين أخذنا والدي إلى السينما فـي صلالة. فـي كل مرة أذهب فـيها وهي مرات قليلة لا تتجاوز أصابع الكف الواحدة، كنتُ أوقن أن ما يشدّني إلى الفـيلم، ليس فقط الصور والأبطال والحوارات، بل شيء أعمق، يتجاوز الشاشة. الخيال الهائل والحكايات المصوّرة لم تكن مجرّد تجربة سينمائية، بل انفتاحا على ما يمكن تسميته بالحياة التي هناك.
(*) المسرح فنّ الفعل، وفنّ الزوال
المسرح فنّ مركب وجهازه التكويني مرهق ومُرهف فـي آن معًا. هو فنّ يَحتفـي بالزوال، إذ يختفـي العرض فور انتهائه، ويظل أثره فـي الذاكرة والتجربة. السؤال الذي يتردّد داخلي هو: بمَ يختلف الواقع المجتمعي فـي السينما عن نظيره على خشبة المسرح، ربما يظل هذا السؤال حيًا ومُلحًا، لأن الإنسان بطبيعته مشتبك مع الحياة، ومتغيّر باستمرار. ومهما قُدمت الإجابات فـي الكتب والمراجع، فإن الخبرة الحيّة لها وزنها، والاحتكام إلى المعايير الثقافـية والتوجهات الفكرية تؤدي دورًا حاسمًا، كما أن إكراهات الواقع المجتمعي تفرض حيويتها.
حينما عرّفت الناقدة الفرنسية آن أوبرسفـيلد المسرح بأنه «فن مفارق»، كانت تؤكد أن جوهره يكمن فـي تناقضاته: فالممثل حاضر وغائب فـي الوقت نفسه، نحن نشاهده يؤدي شخصية خيالية، لكنه موجود أمامنا بجسده وصوته. هذا التوتر هو روح المسرح، وهو ما يجعل العرض أكثر من مجرّد تمثيل.
(*) الممثل، النص، الجمهور: تكسير الجدار الرابع
المسرح لا يقوم على النص وحده، بل على جدلية معقّدة بين المؤلف والمخرج، والممثل والجمهور. يقول الكاتب المسرحي داريو فو ساخرًا: «هذه المسرحية لديها عيب، إنها جميلة فـي القراءة». وهو بذلك يلخصُ الاشتباك الحاصل بين المؤلف والمخرج، بين النص والعرض، بين جمال اللغة وجمال التمثيل.
فـي المسرح، لا يتلفظ الممثل بكلمات فائضة، بل يصنع بالكلام فعلا. القول يتحول إلى حدث، والصوت إلى طقس، وهنا تكمن فرادة المسرح باعتباره «فن الفعل». الممثل فرد، لكنه حين يتفاعل مع الجمهور، يصبح جزءا من فعل جماعي، ويُهدم الجدار الرابع بين الخشبة والصالة. فـي هذا التداخل، تحدث الطقسية المسرحية، ويتحول العرض إلى فضاء مشترك بين الحقيقة والخيال.
المسرح فن مفارق أيضا فـي تمظهر فعل حوار الشخصيات فالممثل لا ينطق بكلمات لا معنى لها، أو كلمات فائضة، بل يخلق بالكلام فعلا يقدمه الممثلون فـي أجزاء عناصر العرض المسرحي ككّل، فالقول يغدو فعلا، ومن هنا جاء تعريف المسرح بأنّه فن الفعل. يقول تيمون الأثيني مخاطبا الذهب، فـيغدو الذهب شخصية فاعلة فـي العرض المسرحي وبناء الحدث الدرامي: «أيها الذهب اللامع! أيها المعدنُ الإلهي! يا مَن تُحوِّلُ الأسود إلى أبيض، والعدل إلى ظلم، يا من تُفسد الحكيم، وتُفسق العذراء، وتُقيم الحقير، وتُسقط النبيل، أيها الذهب، أيها الجحيم المضيء، كم تفعل!».
(*) الدراما والتراجيديا: صراع الأخلاق والمال
تأسرني شخصية أنتيغون وأعدّها نقطة مشرقة فـي سماء ما أنتجه الأدب الإغريقي من تراجيديات، إذا ما قورنت بأفعال ميديا الشنيعة. المسرح عند سوفوكليس ليس سردا للأحداث، بل كشفا للصراع الداخلي، وتحويلا لكل عنصر على الخشبة إلى فعل جماعي وطقسي غامض.
فـي مشهد من مسرحية أنتيغون، يكشف سوفوكليس قدرة المال على شراء الذمم. إذ تنبعث شكوك الملك كريون فـي أن حراسه قبضوا رشوة من المال للسماح بدفن أخيها بولينيس على نحو سري دون تقيدهم بقرار حظر دفنه حسب الطقوس الملكية. يقول كريون مخاطبا قائد الكورس: «... ما ازدهر بين الناس نظام أسوأ من نظام المال. إن المال هو الذي يُدمر الدول؛ وهو الذي يطرد المواطنين من بيوتهم، وهو الذي تُغري دروسه القلوب الشريفة، ويحملها على ارتكاب الأوزار. إنه يُعلمهم الجرائم كلها، ويُعلمهم الفسق الذي يتجاسر على كل شيء. لكن من يبيع نفسه، ويبلغ هذه الدرجة، سينتهي ذات يوم إلى أن يَنال العقاب...إلخ».
عن طريق هذا الفعل تتجلّى الدراما كمرآة للصراع الإنساني الدائر: بين الخير والشر منذ هابيل وقابيل، وبين الطمع والجشع وبين القناعة والقبول والاعتراض والرفض، وبين التسليم المناسب بالقدر للضمير الإنساني والتمرد. هذه الجدلية لا تقتصر على كريون، بل تمتد إلى تيمون الأثيني، إن أبشع ما فعله نحو الدراما الأخلاقية تمظهر فـي تحوله من محتقر للمال، إلى عابد له يوظفه فـي إفساد ضعاف النفوس، ويزرع الفوضى والكراهية التي قادت فـي نهاية المطاف إلى نهش جسد أثينا. إن وظيفة الفن بحسب (جورج براك) لا تقتصر على خلق التوازن بين الواقع والخيال، بل إن الفن، ذلك الجرح الذي يصبح ضوءا.
(*) الدراما: صيغة الحاضر الأبدية
الدراما ليست وصفة طبية علاجية، ولا خلطة أعشاب سحرية تباع عند العطّار، إنها أبعدُ من ذلك. الدراما فن الفعل وصيغة الحاضر الأبدية. إنها مساحة اعتراف وتحرر وتطهير. حين يصرخ الملك أوديب فـي وجه العالم الإغريقي معترفا: أنا القاتل! فإنّه يؤكد تلك الصيغة الحاضرة للدراما فـي تفاصيل حياتنا، وفـي مصيره قبل مصيرنا. أوديب لا يكشف عن مأساته فقط، بل يضعنا أمام مرآة الضمير الإنساني نفسه.
لا يكف الدرس الأكاديمي عن العودة إلى التراجيديا الإغريقية للبحث فـيها عن تجسيد التجارب الإنسانية فـي حاضرنا. تمظهر هذا الطرح مع (هيغل) فالتراجيديا فعل يُجسد تناقضات الصراع الأخلاقي والجدلي فـي اللحظة الحاضرة. تنبع قوة الدراما الكلاسيكية من تفاعلها مع المبدأ الأخلاقي دون أي تزعزع. ينطلق تيمون إثر خيانة أصدقائه له من الخير المطلق إلى الشر، وهو بتحوّله يدين المنظومة الأخلاقية لمجتمع أثينا (ق.م)؛ تلك المنظومة التي جعلت المال أساس العلاقات (نلمح جذور الميكيافـيلية). والملك كريون انطلق من منظومة الدولة فوق كلّ شيء، فالقوة الدرامية تتجلى فـي أن سقوط الشخصيتين نتجا عن تورطهما فـي مطلق أخلاقي عالٍ لا يلين. فـي مسرحية الاغتصاب لسعدالله ونوس التي تناولت الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على اعتباره صراعا وجوديا أخلاقيا وإنسانيا، حيث نشاهد البطل ممزقا بين الحق الشخصي والحق الجماعي، كما أنتيغون.
يبدو كحقيقة واقعة، من موقف تيمون إلى كريون، ومن أنتيغون إلى أوديب، ومن داليا إلى خالد، ينجح المسرح فـي عرض سلسلة من الصراعات العميقة بين الحقوق، وليس فقط بين الخير والشر، ليقول لنا على نحو من الأنحاء: الفنّ ليس حلا لمشكلات المجتمعات، بل تفكير وسؤال دائم، وجرح يتوهّج.
هل نكون على خطأ حين يُحب البشر المال، ويتقاتلون من أجل حيازته؟ ألم يُزّين الله تعالى المال فـي الحياة الدنيا؟ التراجيديا الكلاسيكية تضع سؤال الأخلاق كمبدأ للصراع الجدلي، فالأخلاق تُنتج مأساة حين تؤخذ على إطلاقها دون وعي بالواقع وتحولات النفس البشرية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
فرقة كفر الشيخ تقدم "ولي" بالمهرجان الختامي لنوادي المسرح
شهد مسرح قصر ثقافة القناطر الخيرية، أمس الخميس، عرض مسرحية "ولي"، ضمن فعاليات الدورة الثانية والثلاثين من المهرجان الختامي لنوادي المسرح، الذي يقام تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، وتنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، وتنفذ فعالياته بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة.
عرض مسرحية ولي
العرض لنادي مسرح كفر الشيخ، تأليف محمد علي إبراهيم، دراماتورج وإخراج أحمد سلامة. ويتناول فكرة عميقة ومؤثرة تنطلق من المقولة الشهيرة لوليم شكسبير: "حشد العقلاء أمر معقد للغاية، أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى راع وكلب".
شارك في بطولة العرض كل من: إبراهيم أبو الفتوح، أحمد عمار، أحمد الصباغ، عمر عاطف، يوسف الجبلاوي، سارة عبد القادر، محمد وائل، إبراهيم أبو العنين، فاطمة محمد، أحمد جاويش، لمياء فريد، آية طاحون، أميرة عماد، ياسر الجنايني، مهند جاويش، عبد الحي حمدي، عبد الله صلاح، ريم منير، باهر حسنين، يوسف الزواوي.
عرض "ولي": ديكور وأزياء جون فؤاد، مكياج مديحة يونس، إضاءة أحمد الرفاعي، موسيقى وألحان وغناء عمر صقر، أشعار واستعراضات أحمد عمارة، مساعدا إخراج أشرف أيمن وعصام المزين، مخرج منفذ أحمد السماحي.
أحداث العرض المسرحيوأشار أحمد سلامة مخرج العرض إلى أن أحداث العرض تدور داخل نجع صعيدي تحل به لعنة غامضة تصيب الرجال والنساء بالعقم، وتفسد القيم، وتؤدي إلى تراجع عدد السكان تدريجيا.
وتستمر هذه العلة، التي تعرف باسم "الهشيم"، ثلاثين عاما، تغرق خلالها القرية في انحدار أخلاقي وروحي. وفي ذروة هذا الانحدار، يظهر "برقان"، رجل يبدو عليه الصلاح والتقوى، يرتدي توب الأولياء ويبشر بالخلاص، فيراه أهل النجع مخلصا، لكنه في الحقيقة يخفي وجها آخر... وجه دجال متقن التنكر في زي ولي.
من جهتها، أوضحت الفنانة لمياء فريد إحدى بطلات العرض أن مشاركتها في عرض "ولي" جاءت من خلال دور "شمس"، مؤكدة أن المهرجان يمثل لها مساحة حرة لاختيار النصوص، ويعد تجربة ممتعة للمخرج الذي يتمكن من خلالها من التعبير الكامل عن رؤيته ورسائله الإخراجية.
وقال الفنان أحمد عمار، أحد أبطال العرض، والذي يجسد شخصية "مجذوب"، إن الشخصية تقع عليها إشارات من لعنة غامضة بدأت قبل ثلاثين عاما، حينما انقطع النسل، وجفت أرحام الأمهات، ولم تولد روح جديدة، مشيرا إلى أن السبب الحقيقي وراء ذلك كان الظلام والجهل والخوف.
أما مصمم الإضاءة أحمد الرفاعي، فأشار إلى أنه استخدام ألوان ذات دلالات رمزية ترتبط بالطقوس، مثل البنفسجي للدلالة على الروح والارتقاء، والأصفر والأحمر للتعبير عن الصراع والمعارك والدماء.
وأوضح مصمم الديكور جون فؤاد أنه سعى لتقديم ديكور واقعي يجسد البيئة الشعبية بصريا وحسيا، من خلال تصميم مزدوج لوجهين مختلفين للمكان، يوحد بينهما اللون والحالة النفسية دون أن يفقد كل وجه خصوصيته، لافتا إلى استخدام خامات بسيطة مثل القش لتجسيد العشش الصعيدية، إلى جانب صور مستوحاة من حياة البدو، في محاولة لصناعة مشهد بصري حيّ تدعمه الإضاءة في تحقيق أثره المسرحي.
المهرجان ينفذ من خلال الإدارة المركزية للشئون الفنية برئاسة الفنان أحمد الشافعي، والإدارة العامة للمسرح، وإدارة نوادي المسرح بإشراف المخرج محمد طايع.
وشهد عرض أمس حضور كل من: سمر الوزير مدير عام المسرح، والكاتب والناقد يسري حسان، والدكتور عبد الناصر الجميل عميد المعهد العالي للفنون المسرحية سابقا، وأعضاء لجنة التحكيم: الدكتور محمد زعيمة، والكاتب سعيد حجاج، والمخرج سامح مجاهد، والموسيقار الدكتور وليد الشهاوي، والدكتور مصطفى حامد، إلى جانب ربيع عوض مدير قصر ثقافة القناطر الخيرية.
وتتواصل فعاليات المهرجان اليوم الجمعة، حيث يعرض في السادسة مساء عرض "علماء الطبيعة" لفرقة كفر الشيخ، تأليف فريدريش دورنمات، وإعداد وإخراج أحمد سمير.
مهرجان نوادي المسرحويعد مهرجان نوادي المسرح من أبرز المنصات الثقافية التي تهدف إلى اكتشاف ودعم المواهب المسرحية الشابة في مختلف محافظات مصر، حيث توفر الهيئة العامة لقصور الثقافة من خلاله مساحة حرة للتجريب الفني والإبداع المسرحي، تعزيزا لدورها في تحقيق العدالة الثقافية وتنشيط الحراك الفني بالمجتمع.