لستُ من الذين يصفقون لقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بل كثيرًا ما أجد نفسي على الضفة الأخرى منها متوجسًا من رؤاه السياسية والاقتصادية التي تهز استقرار وهدوء العالم بأجمعه، لكنني هذه المرة وجدتُ نفسي مشتتا بعض الشيء إزاء القرار الذي اتخذه بإلغاء وزارة التعليم وإعادة سلطة تنظيم التعليم إلى الولايات، واصفا الوزارة الفـيدرالية بأنها كيان بيروقراطي متخشب، يعيق التقدم وملقيا عليها باللائمة فـي تأخر التعليم فـي الولايات المتحدة.
أقول بأنني وجدت نفسي فـي منطقة رمادية، مشدودًا بين رؤيتين متناقضتين، فمن جهة لم يسبق أن أقدم رئيس دولة على قرار بحل وزارة التعليم باعتبارها إحدى الركائز التي تستند إليها الدول فـي نهضتها واستقرارها وتطورها وازدهارها، إذ لا يمكن تصور تنمية حقيقية دون منظومة تعليمية متينة ترعاها الدولة وتوجهها نحو التطور المستدام لشعوبها. ومن جهة أخرى، لا يمكنني إنكار أن خطوة ترامب، رغم صدمتها، تحمل فـي طيّاتها بحثًا عن بديل أكثر كفاءة، خاصة عندما أشار إلى التجربة الفنلندية، تلك التي تصدرت قوائم التعليم العالمي لسنوات، متجاوزة دولًا ذات إمكانات اقتصادية وسكانية ضخمة.
توقعت أن تكون فنلندا بدون وزارة للتعليم، لكن عقب بحث بسيط تبين أن لديها وزارة للتعليم والثقافة، لكنها ليست بتلك الصورة النمطية للوزارات التي تُثقل كاهل التعليم بالبيروقراطية واللوائح الصارمة. فهي لا تتدخل فـي كل تفصيل العملية التعليمية، ولا تفرض مناهج موحدة على جميع المدارس، بل تضع الإطار العام، تاركةً مساحة واسعة من الحرية للإدارات المحلية والمعلمين ليبتكروا أساليبهم الخاصة بما يتناسب مع احتياجات طلابهم.
لو حاولنا تطبيق التجربة الفنلندية فـي التعليم فـي دولنا العربية، فهل سيكتب لنا النجاح وسنشهد تطورًا ملموسًا فـي بناء أجيال متعلمة تعليما غير تقليدي لا يعتمد على الكتاب والحفظ والاختبار، بل يركز على الابتكار والإبداع والخيال الخصب والتحصيل الدراسي المثمر؟ من الناحية النظرية، قد يبدو الأمر مغريًا، لكن الواقع مختلف، فلكل دولة تجربتها الخاصة، تنبع من سياقاتها التاريخية والثقافـية والإدارية ونظرتها لهُويتها الوطنية التي تترسخ من خلال التعليم، مما يجعل فكرة منح الجهات المحلية أو المناطق الإدارية صلاحيات مستقلة فـي رسم سياساتها التعليمية الخاصة أمرًا صعب التحقق وقد لا يكون فـي ذلك أي عيب أو خطأ، فلكل دولة سياستها التعليمية القائمة على مبادئها وأفكارها التي قد تختلف عن سياسات وأفكار دول أخرى، وفـي النموذج يقوم التعليم على تفكيك مركزية التعليم، بحيث تُمنح المدارس والمعلمون حرية واسعة فـي وضع المناهج واختيار أساليب التدريس بصور أسهل فـي التطبيق من دون الرجوع إلى نظام المركزية فـي الموافقة على إقرار نموذج تعليمي وتفضيله أكثر من غيره.
فـي سياقنا المحلي، وبالنظر إلى بعض التجارب العالمية الناجحة، يمكن اقتراح منح المحافظات والمكاتب التعليمية فـي الولايات مزيدًا من المرونة فـي العملية التعليمية، دون الحاجة للرجوع إلى مركزية الوزارة فـي اتخاذ العديد من القرارات. فتحديد بعض المواد الدراسية الحديثة التي تتماشى مع احتياجات كل محافظة وسوق العمل المحلي سيسهم فـي تطوير المناهج التعليمية بشكل أكثر تخصصًا ومرونة. هذا التوجه سوف يعزز من قدرة النظام التعليمي على التكيف مع الخصوصيات المحلية، ويشجع على الابتكار والإبداع فـي العملية التعليمية. وستظل الوزارة هي الجهة المشرفة والمنظمة لشؤون التربية والتعليم، مع ضمان وجود آلية واضحة للمراجعة والتقييم لضمان الجودة والاتساق فـي التعليم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
استشهاد ثلاثة من كوادر مديرية التعليم في غزة بسبب القصف الإسرائيلي
أعلنت وزارة التربية والتعليم في قطاع غزة استشهاد ثلاثة من كوادرها بقصف إسرائيلي منذ عودة الاحتلال لتصعيد الإبادة الجماعية في 18 آذار/ مارس الجاري.
ونعت مديرية التربية والتعليم في المحافظة الوسطى في بيان، ثلاثة من كوادر الوزارة التي قالت إنهم ارتقوا "في ظل العدوان الغاشم"، قائلة إنها تنعى "رشيد أبو جحجوح وهو مدير عام بالوزارة، ومنار أبو خاطر مديرة تعليم شرق خانيونس (جنوبا)، و جهاد الآغا رئيس قسم الإشراف شرق خانيونس".
ومنذ استئنافها الإبادة الجماعية بغزة فجر الثلاثاء، قتلت "إسرائيل" 674 فلسطينيا وأصابت 1233 آخرين معظمهم من النساء والأطفال حتى مساء الأحد، وفق وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.
ويمثل هذا التصعيد، الذي قالت "تل أبيب" إنه يتم بتنسيق كامل مع واشنطن، أكبر خرق لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي امتنعت "إسرائيل" عن تنفيذ مرحلته الثانية بعد انتهاء الأولى مطلع مارس/ آذار الجاري.
ورغم التزام حركة حماس ببنود الاتفاق، فقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المضي قدما في المرحلة الثانية، استجابة لضغوط المتطرفين في حكومته.
وبدعم أمريكي مطلق ترتكب "إسرائيل" منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت أكثر من 162 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على الـ14 ألف مفقود.
وخلال عام ونصف العام من حرب الإبادة الإسرائيلية نشأت العديد من المبادرات التعليمية التي حمل خلالها مدرسون بشكل تطوعي مهمة إعادة الطلاب للدراسة بالرغم من كل الظروف الصعبة وانتشرت تلك المبادرات بين مخيمات النازحين ومراكز الإيواء وساهمت في إعادة آلاف الطلبة للتعليم وتعويض جزء من الفاقد التعليمي الكبير.
وبعد سريان وقف إطلاق النار بين المقاومة والاحتلال سارعت وكالة الغوث ووزارة التربية والتعليم في غزة لتفريغ عدد كبير من المدارس من النازحين ولو بشكل جزئي والعودة للتعليم الوجاهي غير الرسمي الذي أقبل عليه أيضا آلاف الطلاب رغم صعوبة الأوضاع في المدارس التي تخلو من الأثاث المدرسي.
وبسبب التصعيد الحالي، أوقفت وزارة التعليم بغزة كل أشكال التعليم الوجاهي غير الرسمي لحين تحسن الظروف الأمنية.