جبلت الحياة الدنيا على كبد، قال الله تعالى في الآية الكريمة “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ”، وهذه الآية تشير إلى خلق الإنسان ومعاناته في الحياة. فالدنيا لا يمكن أن تصفو لأحد على هذه الأرض، فكل إنسان تعتريه الأسقام والتحديات والشقاق. عندما تتأمل الأنبياء والصالحين، تجد أن الحياة لم تصفُ لهم، لكنهم حولوا كدرها إلى طريقٍ للنجاح.
الإنسان بطبعه يعيش مع الآخرين، وهذه سنة الله في أرضه، فلا يمكن أن يعيش البشر فرادى. فالتعاون والمشاركة تجعل الحياة تشاركية بين البشر، سواء عبر الزواج أو الأسرة أو البيع والشراء وغيرها من نماذج التفاعل الاجتماعي. ومع تلك المشاركة، تتطلع النفس البشرية دوماً للرفعة والنجاح، ولكن يعتريها أحياناً شيء من الغيرة والرغبة في الانتقام وحب السلطة، حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين. ومن لم يستطع كبح جماح تلك الأخلاق الضعيفة، فإنها تتحول إلى أذية للغير.
البشر بطبعهم يميلون للتشارك والتعاون وتقديم المعروف والفضل بينهم. فالأب متفضلاً على أبنائه، والزوجان بينهما فضائل جمة، والموظف كذلك يكون بينه وبين مدراءه من الفضل، والأصدقاء بينهم من المعاريف والفضائل الشيء الكثير، فالبشر عموماً في تعاملاتهم يتبادلون المعروف والفضائل وهذه سنة الحياة، فلا يمكن أن يعيش إنسان على هذه الأرض ولم يتفضل عليه أحد بشيء، حتى وإن كانت شربة من ماء ومع تلك الأفضال والمعاريف، عندما يتعلق الحق بالنفس من مال أو أمور دنيا، قد تُنسى تلك الفضائل ويرتفع صوت الانتقام، حتى وإن كان الانتقام زائفًا. فالنفس عندما تتشوه وتظهر أنيابها، قد تصاب بالعمى عن الحق، حتى وإن كان من أمامها يتضرر بها، فهي ترى ما يرضي شيطانها وتحرق الأخضر واليابس، فلا يردعها دينٌ ولا وعظٌ ولا عقل، فتتشوق للانتقام وتعد له العدة، حتى وإن طال أثره فرداً أو أمةً بأكملها وهذا ما نجده ظاهراً عندما تدخل أروقة المحاكم العدلية وتطالع المتخاصمين، تجد العدائية بينهم وقد وصلت إلى الهجران والكذب انتقاماً للنفس وقد يكون بينهم من الفضائل والمعارف سنوات طويلة، وإنك لتعجب من وقوف الإخوة في المحاكم أو الزوجين أو الأصدقاء، حيث يبدأ كل منهما يكشر عن أنيابه عن خصمه وكأن لم يكن بينهما فضل، وفي غير المحاكم قد يكون من صحبك لسنوات ثم تفرقوا لأجل دنيا لم يرعوا الفضل بينهم.
انظر إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة عندما أراد أن يُخبر قريش بخطط النبي محمد صلى الله عليه وسلم لفتح مكة. بعد أن عزم النبي على فتح مكة، أرسل حاطب بن أبي بلتعة رسالة إلى قريش ليُخبرهم عن خطط النبي. كان حاطب قد أسلم وعاش في المدينة ولكنه كان لديه عائلة في مكة، فخشي على مصيرهم. علم النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأمر حاطب من الله، فاستدعى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وأرسلهما إلى مكة للبحث عن الرسالة. وعندما وصلا إلى هناك، التقيا امرأة كانت لديها الكتاب الذي أرسله حاطب إلى قريش وسلمت الرسالة. بعد ذلك، عاد علي والزبير إلى النبي وأخبراه بما حدث. استدعى النبي حاطب وسأله عن سبب فعلته. اعتذر حاطب وأوضح أنه لم يكن يريد الخيانة بل كان يريد حماية عائلته، عندما سمع عمر بن الخطاب بما فعله حاطب، استشاط غضباً وقال للنبي: “يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المتهم!” ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه قائلاً: “إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.” لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم فضل حاطب بن أبي بلتعة في غزوة بدر، وهذا الدرس النبوي يقودنا إلى ألا ننسى كل صاحب ذي فضل.
يجب أن نتعمق في اللحظة الحاضرة ونتحلى بالحكمة عند اتخاذ الأحكام، وألا نغفل عن الشكر والامتنان لمن كان له فضل علينا. كما ينبغي علينا أن نفكر جيداً قبل إصدار الأحكام، إذ من الضروري أن ننظر إلى ما قدمه الآخرون من فضلٍ يمحو به أخطاءهم وزلاتهم. يجب علينا أيضاً أن نكبح جماح النفس البشرية عن الانتقام ونحكم عقولنا، ونسعى لبناء علاقات قائمة على الاحترام والتقدير.
علاوة على ذلك، من المهم أن نكون واعين لمشاعر الآخرين ونتجنب الإساءة لهم في أحلك الأوقات. نستطيع استلهام الدروس من قصص الأنبياء والصالحين، والعمل على تعزيز قيم التعاون والتسامح في مجتمعاتنا. نسأل الله أن يرزقنا الحلم والصبر، وأن نكون من الذين يتذكرون الفضل، فيصبحوا مثالاً للعدل والرحمة في كل تعاملاتهم.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم حتى وإن بن أبی
إقرأ أيضاً:
ملتقى الأزهر: شهادات غير المسلمين في النبي إرث إنساني يجسد العدل والرحمة
عقد الجامع الأزهر، مساء الثلاثاء، ملتقى "الأزهر للقضايا الإسلامية المعاصرة" تحت عنوان «النبي في عيون الآخرين»، وذلك بعد صلاة التراويح، بحضور الدكتور سلامة داوود، رئيس جامعة الأزهر، والدكتور ربيع الغفير، أستاذ اللغويات بجامعة الأزهر، وأدار الحوار الشيخ هاني عودة، المدير العام للجامع الأزهر.
افتتح الشيخ هاني عودة اللقاء بالتأكيد على أن التاريخ شهد إشادات واسعة من مفكرين وعظماء غير مسلمين، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم، بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مما يعكس عظمة شخصيته ورسالته الخالدة، مستشهدا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، مؤكدا أن شهادات غير المسلمين في حق النبي تُعد إرثًا إنسانيًّا يُبرز دوره في ترسيخ العدل والرحمة، وأن سيرته تظل منارةً لكل باحث عن الحق عبر العصور.
من جانبه، أوضح الدكتور سلامة داوود، رئيس جامعة الأزهر، أن القرآن الكريم زكّى النبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وصفاته، مستدلًا بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، مضيفا أن كمال شخصيته النبوية يتجاوز قدرة الأقلام على الإحاطة، قائلًا: «مهما امتلأت المكتبات بكتابات عنه، يبقى فيه مزيد لمستزيد، ويبقى فيه ما لا يقال وما لا يكتب، لأن كماله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم أكبر من أن يحاط بها»، ووصف هند بن أبي هالة لوجهه الذي «يتلألأ كالقمر ليلة البدر»، وخلقه السمح الذي جمع بين الهيبة واللين.
وتطرق الدكتور ربيع الغفير إلى البُعد العالمي لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، مشيرًا إلى إعجاب شخصيات تاريخية وفكرية من خارج الإسلام به، بدءًا من العصور القديمة وصولًا إلى المفكرين المعاصرين، مستعرضا حوار هرقل ملك الروم مع أبي سفيان، الذي وصف فيه النبي بأمره بالتوحيد والفضائل الأخلاقية، كما استشهد بشهادة النجاشي ملك الحبشة الذي قال: «إن هذا الكلام والذي جاء به عيسى ليَخرُجان من مشكاة واحدة».
ولفت الغفير إلى إشادات مفكرين غربيين مثل الفرنسي لامارتين الذي تساءل: «من يجرؤ على مقارنة عظماء التاريخ بالنبي محمد في عبقرية قيادته؟»، والأديب الروسي تولستوي في كتابه «حكمة محمد»، والمؤرخ جوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب»، الذين أبرزوا عظمة أخلاقه وتأثيره الحضاري.