ثمّة مفارقة تاريخية في مطالع حرب الإبادة الجماعية هذه الجارية على الشعب الفلسطيني، التي تتكثف وتأخذ شكلها الأقصى في قطاع غزّة، وتتمدّد بالتدريج في الضفّة الغربية، وتتلّون بين الإبادة المادية للوجود البشري الفلسطيني، والإبادة السياسية للفلسطينيين، وهي على الألوان كلّها إبادة قومية، تهدف إلى منع التحقق الكياني للقومية الفلسطينية على أرض فلسطين.
كانت الإبادة السياسية قد قطعت شوطا واسعا قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بالارتكاز إلى مشروع التسوية الذي خلق التحوّل الأكثر خطورة وغرابة وتشوّها في الحركة الوطنية الفلسطينية وفعلها السياسي، فبعدما انتهت اتفاقية أوسلو وتأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال إلى لا شيء فلسطينيّا، صار هذا اللاشيء الذي يُعدِم فيه الاحتلال الإمكانات الفلسطينية الإنسانية والعمرانية والسياسية والاجتماعية والنضالية، ويكرّس فيه وقائعه الاستعمارية، هدفا في حدّ ذاته لأصحابه الفلسطينيين، كاد الموات أن يكون مطبقا، والشلل عاما، والمجال مفتوحا لـ"إسرائيل" أن تفعل ما تشاء. حاولت "طوفان الأقصى" أن تقول لا لهذه الحالة كلّهاويُدفَع في سبيل ذلك أيّ ثمن يتناقض جوهريّا مع أيّ تطلع سياسيّ حقيقيّ للفلسطينيين (كم يمكننا أن نلوم العرب وهذا حالنا نحن الفلسطينيين)، وقد امتدت هذه الإبادة السياسية إلى استدعاء الختم العربي للحكم على القضية الفلسطينية بالموت الأبدي، وقد كانت اتفاقات "أبراهام" التجلي الأوضح لذلك. هنا كانت المفارقة بالضبط.
أرادت عملية "طوفان الأقصى" التصدي لهذه الإبادة؛ لأنّ تلك الإبادة كانت ترتكز فيما ترتكز إليه، إلى أنه لا شيء يحصل بالفعل. الفلسطينيون لا يأخذون شيئا بالتسوية، والأقصى يُقتحم وتفعّل فيه إجراءات التقسيم الزماني والمكاني يوميّا، بلا أيّ ردّ فعل عربي أو إسلامي. تصريحات ترامب بعد نقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إلى القدس تلخص ذلك: "قالوا لي لا تفعلها. فعلتها ولم يحصل شيء، لم تنظم حتى مظاهرات ضدّ هذه الخطوة". الذي حصل بالفعل هو "طوفان الأقصى". كاد الموات أن يكون مطبقا، والشلل عاما، والمجال مفتوحا لـ"إسرائيل" أن تفعل ما تشاء. حاولت "طوفان الأقصى" أن تقول لا لهذه الحالة كلّها.
المفارقة في أنّ "إسرائيل" وبالرغم من صدمة السابع من أكتوبر، لم تنس أنّ ثمّة إبادة كانت قائمة قبل هذا اليوم، وأنّ السبيل الأفضل للخروج من صدمة السابع من أكتوبر بإنجاز إسرائيلي هو الاستثمار في تلك الإبادة السابقة، التي حاولت "طوفان الأقصى" مواجهتها. ما يعنيه ذلك، هو أنّ الإبادة المادية الساعية إلى إفناء الوجود الفلسطيني في غزّة مؤسسة على الإبادة السابقة عليها، ولولا تلك الإبادة لما تمكنت "إسرائيل" من الاندفاع المحموم بالإبادة البشرية حتى اللحظة.
من أوجه اختلال موازين القوى هو الإبادة السياسية التي فُرِضت على القضية الفلسطينية في العقود الأخيرة، وهذه الإبادة كانت تتطلب مواجهة ما، ولكن هذه المواجهة ستكون بالضرورة محكومة إلى هذا الاختلال الذي لا يخدمها. وهذه عقدة اللحظة الراهنة، الممتدة في التاريخ النضالي الفلسطيني كله منذ فجر التاريخ، أي إنّ موازين القوى دائما كانت لصالح العدوّ، لكن اليوم تأخذ موازين القوى شكل الإبادة السياسية، مما يجعل خيارات الفلسطينية أقرب إلى الاستحالة
الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية أوجدت متعاونين عربا معلنين مع الكيان الإسرائيلي، والمتعاونون هنا ليسوا أفرادا كما هو معلوم، بل أنظمة سياسية، وتبرع المال العربي منذ زمن بتشييد المؤسسات الدعائية التي تتكفل بتحطيم القضية الفلسطينية وصرف الجماهير العربية عنها، علاوة على ممارسة ما يتوفّر من النفوذ السياسي العربي لتركيع الفلسطينيين وتجريدهم من أيّ قوّة، حتى لو كانت ناعمة، وإذا زيد على ذلك عداء هذه الأنظمة المتعاونة لـ"إسرائيل" للمقاومة الفلسطينية، لا سيما في طبعتها الإسلامية، لأسباب كثيرة معلومة، فإنّ الإبادة البشرية ستجري بلا أيّ عائق. (هل يستطيع أحد أن يذكّرنا بأيّ خطوة سياسية عربية ضدّ الإبادة الإسرائيلية؟). وأمّا الحال الفلسطيني فقد سبق وصفه، وهو جزء من عملية الإبادة!
والحاصل، أنّ من أوجه اختلال موازين القوى هو الإبادة السياسية التي فُرِضت على القضية الفلسطينية في العقود الأخيرة، وهذه الإبادة كانت تتطلب مواجهة ما، ولكن هذه المواجهة ستكون بالضرورة محكومة إلى هذا الاختلال الذي لا يخدمها. وهذه عقدة اللحظة الراهنة، الممتدة في التاريخ النضالي الفلسطيني كله منذ فجر التاريخ، أي إنّ موازين القوى دائما كانت لصالح العدوّ، لكن اليوم تأخذ موازين القوى شكل الإبادة السياسية، مما يجعل خيارات الفلسطينية أقرب إلى الاستحالة.
من تجليات الإبادة السابقة على الإبادة الراهنة، الإبادة الأخلاقية، ففي ذروة عدوان الاحتلال، وتنصله من اتفاق وقعه مع حركة حماس، يجري تحميل الأخيرة المسؤولية، من عرب وفلسطينيين، بالرغم من الوضوح الشديد في الموقف، ولعلّ هذه الحالة غير مسبوقة بالكم والكيف، من حيث كثافة الهجوم على الطرف المعتدى عليه، وتحميله المسؤولية عن جريمة العدوّ، حتى بعد الانكشاف التام لنوايا الاحتلال وحقيقة الموقف، كما حصل بالفعل بعدما خرق الاحتلال الاتفاق.
x.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الفلسطيني إسرائيل إسرائيل فلسطين غزة ابادة مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة الإبادة السیاسیة طوفان الأقصى موازین القوى هذه الإبادة
إقرأ أيضاً:
مصطفى بكري: التحديات التي تواجه مصر تتطلب الوقوف خلف القيادة السياسية.. ومتمسكون برفض تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه
أكد مصطفى بكري، عضو مجلس النواب، أن التحديات التي تواجه مصر في الوقت الراهن توجب الاصطفاف الوطني خلف القيادة السياسية ومؤسسات الدولة الوطنية.
وقال بكري، في حفل الإفطار الذي أقامه نادي أبناء قنا في الإسكندرية بحضور اللواء عادل لبيب، محافظ قنا الأسبق، والعديد من الشخصيات العامة ورموز الصعيد بالإسكندرية، أن القيادة المصرية أكدت تمسكها برفض التهجير ورفض تصفية القضية الفلسطينية، رغم كافة الضغوط التي تمارس ضد مصر.
وهاجم مصطفى بكري الحملة الإعلامية المعادية لمصر، مؤكدًا أن مثل هذه الحملات لن تنال أبدًا من معنويات الشعب المصري وثوابته الأساسية.
من جانبه، تحدث اللواء عادل لبيب، وزير التنمية المحلية ومحافظ قنا الأسبق، عن علاقته بقنا، وقال إنها من أهم وأعظم الفترات في تاريخ عمله الوظيفي.
وكان الأستاذ سليمان يوسف، ابن قنا ورئيس اتحاد الجمعيات في الإسكندرية، قد تحدث عن أهمية هذا اللقاء السنوي في تحقيق التواصل بين أبناء قنا، ورحب بكافة الرموز التي شاركت في اللقاء، وعلى رأسهم اللواء شريف عبد الحميد، مساعد وزير الداخلية ومدير أمن قنا السابق.