وأنا أقرأ رواية "الفزاعة" لبدرية البدري، شعرتُ أنني عالقة بين الفزاعة وزياد، بين المقاومة واللاجدوى، بين الهلع والسكينة، وسؤال عالق: هل الفزاعة كيان حقيقي أم خيال زياد؟ هل هي شيء مستقل عنه، أم أنها جزء من وجدانه؟ هذا التداخل الذي خلق توترا سرديا دفعني للتساؤل، لكنه في نفس الوقت عكس حالة زياد النفسية، الذي لم يعد قادرا على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، لأن صدمته غيرت طريقته في إدراك العالم.
رغم كل الألم الذي تحمله الرواية، إلا أنها لا تغرق في السوداوية، بل تقدم في النهاية رسالة: "الحياة تستمر، حتى بعد أقسى الخسارات"، العثور على حبة البطاطا لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان بمثابة إشارة إلى أن الأمل قد يكون مدفونا، لكنه موجود، وأن من يبقى على قيد الحياة، لا يجب أن ينظر إلى ذلك على أنه عقوبة، بل كفرصة جديدة للبحث عن معنى وسط الفوضى.
عند الغوص في رواية الفزاعة، يجد القارئ نفسه أمام نص يمزج بين الواقعية المؤلمة والرمزية العميقة، حيث تتحول الحرب من مجرد خلفية للأحداث إلى قوة قاهرة تفرض وجودها على كل تفصيلة في السرد.
قدمت الكاتبة رواية تدمج بين البعد النفسي، الاجتماعي، والفلسفي، حيث لم تكتفِ برصد مأساة شخصية، بل فتحت المجال لطرح أسئلة أوسع حول الحرب، الهُوية، والذاكرة، بلغة مكثفة، وأسلوب سردي يحمل في طيّاته تلميحات رمزية تجعل النص متعدد الأبعاد، مما يمنحه قيمة فكرية تتجاوز مجرد الحكاية.
منذ البداية، لا تُقدم الرواية على أنها حكاية بطل تقليدي يسعى للنجاة، بل تتخذ منحى فلسفيا يطرح تساؤلات وجودية عن الفقد، والنجاة، والمقاومة، والذاكرة التي تصبح عبئا حين تتحول إلى أشباح تُطارد من بقي على قيد الحياة. زياد، بطل الرواية، ليس مجرد طفل فقد عائلته، بل هو ما يخلفه كل صراع وحرب، يجد نفسه أمام أسئلة لا إجابات لها، يقف على خط رفيع بين الحياة والموت، بين الرغبة في الاستسلام والقدرة على المقاومة، بين أن يكون مجرد ضحية أو أن يتحول إلى شاهد على مأساة جيله.
تمر شخصية زياد بتحولات نفسية حادة، تبدأ بالذهول والصمت، ثم تتحول إلى حالة من الغضب المكبوت، فالرغبة في اللحاق بعائلته، قبل أن يدخل في مرحلة التيه الذهني، حيث يصبح الحقل والفزاعة جزءا من وجدانه، هذه التحولات تعكس التجربة النفسية لمن يتعرض لصدمات حادة، فيتحول الشعور بالذنب إلى وحش ينهش الروح، ويتحول البحث عن إجابة لسؤال "لماذا بقيت؟" إلى رحلة طويلة من المعاناة.
تلعب "الفزاعة" في الرواية دورا مركبا، فهي ليست مجرد مجسم خشبي مهمل في الحقل، بل شريك صامت في معاناة زياد، وكأنها المرآة التي تعكس حالته النفسية. في البداية، تبدو مجرد شيء جامد، لكنها سرعان ما تتخذ شكلا أكثر تعقيدا، فتصبح كيانا يحمل دلالات متعددة، وكما بقيت الفزاعة واقفة رغم الدمار، بقي زياد وحده، وكأن كليهما يتشاركان المصير ذاته، وهي الشاهد على الخراب، كما شهدها زياد، وكأنها تحفظ ذاكرة الأرض.
وبقاء "الفزاعة" وسط الخراب يطرح تساؤلا: هل تقف لأنها قوية، أم لأنها بلا روح؟ هل بقاؤها نوع من الصمود، أم أنه مجرد عبث؟ وكذلك زياد، هل استمراره هو فعل مقاومة، أم مجرد عجز عن اتخاذ قرار الرحيل؟
كما تفتح الرواية باب الأسئلة حول تأثير الفقد على الهُوية، فزياد الذي فقد عائلته، يجد نفسه فاقدا أيضا لذاته، لا يعود يعرف من هو خارج إطار العائلة التي كانت تحدد وجوده، وحين يفقدهم، يبدأ في البحث عن ذاته بين الأنقاض، وفي ظل "الفزاعة"، وفي طين الأرض الذي يخفي داخله حبة البطاطا، التي تصبح نقطة التحول في الرواية.
حبة البطاطا تلك ليست مجرد اكتشاف بسيط، بل هي لحظة رمزية مكثفة، إذ تعني أن الحياة لم تنتهِ بعد، وأن الأرض، رغم الدمار، لا تزال قادرة على العطاء، في هذه اللحظة، يدرك زياد أن الذاكرة، رغم كونها مؤلمة، يمكن أن تكون أيضا مصدرا للأمل، وأن من يحمل الذكريات لا يعني بالضرورة أنه محكوم بالمعاناة، بل ربما تكون تلك الذكريات هي القوة التي تجعله يستمر.
لا تكتفي الرواية بمناقشة تجربة زياد الشخصية، بل تسلط الضوء على قضية أعمق تتعلق بذاكرة المجتمعات التي تعيش الحروب، كيف يتعامل المجتمع مع جيل الحرب؟ هل يحاول تضميد جراحه، أم يسعى لنسيانها؟ وتقدم غير مباشر للمجتمعات التي تحاول إخفاء معاناة الناجين، بدلا من منحهم فرصة للحديث والبوح واستيعاب الألم.
"فزاعة" بدرية البدري هنا لا تمثل فقط مأساة فردية، بل هي تجسيد لواقع أوسع، حيث تتحول الحرب إلى شيء يُراد طمسه بعد انتهائها، رغم أن آثارها لا تمحى بسهولة، وتشير الرواية إلى أن محاولات تجاهل المعاناة لا تعني زوالها، بل قد تؤدي إلى تراكمها في الذاكرة الجمعية، مما يجعلها تعود بطرق أكثر تعقيدا في الأجيال القادمة.
في النهاية، الفزاعة ليست مجرد رواية عن طفل في زمن الحرب، بل هي قصة عن الإنسان في مواجهة مصيره، وعن كيف يمكن للحياة، حتى في أكثر اللحظات ظلاما، أن تجد طريقًا للاستمرار.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الغزالي حرب يعيش في أوهام الباشوية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الدكتور أسامة الغزالي حرب اسم كبير ومفكر يستحق الانتباه، لذلك عندما يكتب علينا أن نقرأ إذا أصاب نتفق معه وندافع عن فكرته، وإذا أخطأ علينا أن نعلن اختلافنا معه، ولأنه اسم كبير فكان لا بد للمختلف معه أن يذهب إليه مستنداً إلى أفكار وقناعات وبديهيات، حتى لا يلتهمنا الاسم الكبير لمجرد فارق السن والخبرة.
وعلى ذلك، أقول إن صدمة المجتمع المصري من الفكرة التي ألقاها الغزالي وانصرف، هي صدمة كبيرة فكيف لرجل عاقل راشد مثله أن يطرح علينا إمكانية عودة ألقاب الباشوية والبهوية من جديد، وأن يتم منح تلك الألقاب لمن قدم خدمات "جليلة" للمجتمع، متجاهلاً وعن عمد أن الشعب المصري بعماله وفلاحيه وموظفيه والمهنيين في هذا المجتمع كلهم يقدمون أعمالاً جليلة ولا فرق في العطاء بين عامل نظافة يكنس الشارع يومياً ورجل أعمال يرتاد البنوك يومياً، بل ثقتي في عامل النظافة أكبر.. وهنا نسأل عن معيار الخدمة الجليلة الذي يقترحه الغزالي، جليلة من أي زاوية يا دكتور؟
نحن الآن في زمنٍ يتطلع فيه العالم إلى الأمام، وبينما الحال هكذا جاء مقالك لتسعى إلى اجترار ماض ألغته ثورة حملت آمال المصريين في العدالة والمساواة، وكأن أشباح الماضي تحاول أن تعود ومع اقتراح الغزالي حرب بإحياء ألقاب "الباشا" و"البيه" التي طواها دستور الثورة عام ١٩٥٢ نجد أن هذا الاقتراح ليس مجرد دعوة لاستعادة مسميات، بل هو استدعاء لنظام طبقي كرَّس التفرقة والاستغلال، فكيف يمكن لمجتمعٍ يناضل من أجل تماسكه أن يعيد إنتاج أدوات التقسيم؟ ناهيك من أن تاريخ هذه الألقاب صارت رمزًا للاستعمار والفساد.
الألقاب ليست مجرد كلمات، بل هي وعي جمعي يُشكّل الهوية، فـ"الباشا" و"البيه" لم يكونا لقبين شرفيين، بل أداتين لفصل المجتمع إلى سادة وعبيد طبقة ارتبطت بالنخبة الحاكمة الموالية للاستعمار العثماني والبريطاني، تمتعت بامتيازاتٍ اقتصادية وسياسية، بينما عاش الغالبية في فقرٍ مدقع، إحياء هذه الألقاب اليوم يعني إعادة تعريف المواطنة عبر انتماءاتٍ طبقية، تُحوِّل الإنسان إلى "مرتبة" اجتماعية تُورَّث، لا إلى كائنٍ حرٍّ يصنع مكانته بجهده، هنا ينتفي مبدأ تكافؤ الفرص، وتتحول الديمقراطية إلى مسرحيةٍ يملك نجومها ألقابًا من ذهب.
وتاريخ الباشوية الذي يتراوح ما بين الاستعمار والاستبداد يجعلنا نقول بصدق إن "الباشا" لم يكن لقبًا بريئًا. في القرن التاسع عشر، منحته السلطات العثمانية لملاك الأراضي الذين استغلوا الفلاحين، ثم تحالفوا مع الاحتلال البريطاني لاحقًا ليصبحوا طبقة وسطى بين المستعمر والشعب. هؤلاء هم مَنْ قاومتهم ثورة ١٩١٩، ثم ثورة ١٩٥٢ التي رأت في إلغاء الألقاب ضربةً لصالح استقلال مصر الثقافي قبل السياسي، فالباشوات لم يكونوا حُماة الوطن، بل حراسًا لمصالحهم، حتى أن البعض وصفهم بأنهم "السرطان الذي أنهك جسد الأمة".
إن إعادة هذه الألقاب ستكون بمثابة إعلانٍ بانتصار الانقسام الطبقي، خاصةً في مجتمعٍ يعاني من فجواتٍ اقتصادية حادة، فكيف لشابٍ من الصعيد أن يشعر بالانتماء إلى وطنٍ يُنادى فيه غيره بـ"البيه" بينما يُنظر إليه كـ"مواطن من الدرجة الثانية"؟. الألقاب تخلق وعيًا زائفًا بالتفوق، وتُغذي النزعات الفردية على حساب المصلحة العامة، والأخطر أنها قد تعيد إنتاج تحالفات بين المال والسلطة، كما حدث أيام الملكية، حين كانت الصفقات تُبرم في قصور الباشوات، لا في مؤسسات الدولة.
التجربة التاريخية ودروس ثورة ١٩٥٢ تقول إن ثورة يوليو لم تكن مجرد تحرك عسكري، بل هي حركة ثورية هدفت إلى هدم التراتبية الاجتماعية بإلغاء الألقاب، وأرسلت الثورة رسالةً واضحة تقول إن المواطنين سواسية. وقد نجحت الثورة بدرجة ما في خلق جيلٍ آمن بالعلم والعمل سبيلًا للترقي، لا بالنسب أو الثروة، فالمدرس والطبيب والمهندس -بلا ألقاب- أصبحوا رموزًا للطبقة الوسطى التي كانت عماد النهضة، واليوم قد نختلف على إيجابيات الثورة وسلبياتها، لكن لا يمكن إنكار أن مساواتها الرمزية ساهمت في تعزيز الاندماج الوطني.
كنت أن انتظر من الغزالي حرب أن يحافظ معنا على الأمن الاجتماعي مطالبا بعدالةٍ تُذيب الفوارق، بدلًا من استعادة شعارات الماضي، وفي ظني ان الأجندة التي تحافظ على العدالة وتتجه نحو تعزيز سياساتٍ تُحقق تلك العدالة تتجلى في ضمان تعليمٌ للجميع وجودة التعليم الحكومي لتضمن مساواة الفرص، وكذلك الضرائب التصاعدية لتقليص الفجوة بين الطبقات عبر نظام ضريبي عادل، وتعظيم ثقافة التنمية من خلال إبراز نماذج النجاح الفردي الكفؤة، لا تلك المرتبطة بالانتماءات العائلية، كل هذا لن يكون إلا من خلال قوانين صارمة قائمة على تجريم التمييز بأشكاله، ومحاسبة من يتاجرون بالنفوذ، إلى جانب ضرورة تعزيز مفهوم "المواطنة الفاعلة" حيث يساهم الجميع في البناء سيكون درعًا ضد الانقسامات.
المؤكد هو أن الوطن لا يُبنى بألقابٍ من ورق.. إن دعوة الغزالي حرب - رغم نواياه - تُعيدنا إلى مربع السؤال الأكبر أي مصر نريد؟ هل نختزل الوطن في نخبةٍ تتحكم بمصائر البسطاء، أم نصنع مجتمعًا يتسع للجميع؟ التاريخ يُعلّمنا أن الأمم التي تقدّمت هي تلك التي جعلت الكفاءة معيارًا، لا الألقاب.
ولهذا لا ينبغي أن نسمح لأشباح الماضي أن تقود مستقبلنا، فمصر التي حطمت أغلال الاستعمار بقادرة على تجاوز كل محاولات تفكيك نسيجها الاجتماعي، شرط أن نتعلم من دروس الماضي، لا أن نعيد إنتاجه.
المنزعجون من مقال الغزالي حرب في رأيهم أن هذا الاقتراح ليس مجرد استدعاء بريء لمفردات لغوية، بل هو إحياء لشبح طبقي كافحت الثورة لطمسه، فكيف يمكن لمجتمع عانى قروناً من الاستعمار والاستغلال أن يعيد إنتاج أدوات التفرقة ذاتها؟ الذي تخفيه هذه الألقاب هو تاريخٍ مظلم وهل يُعقل أن ننسى دماء الفلاحين الذين سُحِقوا تحت نعل "الباشوات".
ألقاب مثل "الباشا" و"البيه" ليست مجرد كلمات تُزين الأسماء، بل هي شاراتٍ ترمز إلى نظامٍ هرمي قائم على القهر، أعرف ذلك جيدا والدكتور الغزالي يعرفه أيضا لذلك استغرب جداً من دعوته وننتظر منه تفسيرًا أو تفاسير أو اعتذارًا.