لجريدة عمان:
2025-03-25@20:48:19 GMT

الفزاعة

تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT

الفزاعة

وأنا أقرأ رواية "الفزاعة" لبدرية البدري، شعرتُ أنني عالقة بين الفزاعة وزياد، بين المقاومة واللاجدوى، بين الهلع والسكينة، وسؤال عالق: هل الفزاعة كيان حقيقي أم خيال زياد؟ هل هي شيء مستقل عنه، أم أنها جزء من وجدانه؟ هذا التداخل الذي خلق توترا سرديا دفعني للتساؤل، لكنه في نفس الوقت عكس حالة زياد النفسية، الذي لم يعد قادرا على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، لأن صدمته غيرت طريقته في إدراك العالم.

رغم كل الألم الذي تحمله الرواية، إلا أنها لا تغرق في السوداوية، بل تقدم في النهاية رسالة: "الحياة تستمر، حتى بعد أقسى الخسارات"، العثور على حبة البطاطا لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان بمثابة إشارة إلى أن الأمل قد يكون مدفونا، لكنه موجود، وأن من يبقى على قيد الحياة، لا يجب أن ينظر إلى ذلك على أنه عقوبة، بل كفرصة جديدة للبحث عن معنى وسط الفوضى.

عند الغوص في رواية الفزاعة، يجد القارئ نفسه أمام نص يمزج بين الواقعية المؤلمة والرمزية العميقة، حيث تتحول الحرب من مجرد خلفية للأحداث إلى قوة قاهرة تفرض وجودها على كل تفصيلة في السرد.

قدمت الكاتبة رواية تدمج بين البعد النفسي، الاجتماعي، والفلسفي، حيث لم تكتفِ برصد مأساة شخصية، بل فتحت المجال لطرح أسئلة أوسع حول الحرب، الهُوية، والذاكرة، بلغة مكثفة، وأسلوب سردي يحمل في طيّاته تلميحات رمزية تجعل النص متعدد الأبعاد، مما يمنحه قيمة فكرية تتجاوز مجرد الحكاية.

منذ البداية، لا تُقدم الرواية على أنها حكاية بطل تقليدي يسعى للنجاة، بل تتخذ منحى فلسفيا يطرح تساؤلات وجودية عن الفقد، والنجاة، والمقاومة، والذاكرة التي تصبح عبئا حين تتحول إلى أشباح تُطارد من بقي على قيد الحياة. زياد، بطل الرواية، ليس مجرد طفل فقد عائلته، بل هو ما يخلفه كل صراع وحرب، يجد نفسه أمام أسئلة لا إجابات لها، يقف على خط رفيع بين الحياة والموت، بين الرغبة في الاستسلام والقدرة على المقاومة، بين أن يكون مجرد ضحية أو أن يتحول إلى شاهد على مأساة جيله.

تمر شخصية زياد بتحولات نفسية حادة، تبدأ بالذهول والصمت، ثم تتحول إلى حالة من الغضب المكبوت، فالرغبة في اللحاق بعائلته، قبل أن يدخل في مرحلة التيه الذهني، حيث يصبح الحقل والفزاعة جزءا من وجدانه، هذه التحولات تعكس التجربة النفسية لمن يتعرض لصدمات حادة، فيتحول الشعور بالذنب إلى وحش ينهش الروح، ويتحول البحث عن إجابة لسؤال "لماذا بقيت؟" إلى رحلة طويلة من المعاناة.

تلعب "الفزاعة" في الرواية دورا مركبا، فهي ليست مجرد مجسم خشبي مهمل في الحقل، بل شريك صامت في معاناة زياد، وكأنها المرآة التي تعكس حالته النفسية. في البداية، تبدو مجرد شيء جامد، لكنها سرعان ما تتخذ شكلا أكثر تعقيدا، فتصبح كيانا يحمل دلالات متعددة، وكما بقيت الفزاعة واقفة رغم الدمار، بقي زياد وحده، وكأن كليهما يتشاركان المصير ذاته، وهي الشاهد على الخراب، كما شهدها زياد، وكأنها تحفظ ذاكرة الأرض.

وبقاء "الفزاعة" وسط الخراب يطرح تساؤلا: هل تقف لأنها قوية، أم لأنها بلا روح؟ هل بقاؤها نوع من الصمود، أم أنه مجرد عبث؟ وكذلك زياد، هل استمراره هو فعل مقاومة، أم مجرد عجز عن اتخاذ قرار الرحيل؟

كما تفتح الرواية باب الأسئلة حول تأثير الفقد على الهُوية، فزياد الذي فقد عائلته، يجد نفسه فاقدا أيضا لذاته، لا يعود يعرف من هو خارج إطار العائلة التي كانت تحدد وجوده، وحين يفقدهم، يبدأ في البحث عن ذاته بين الأنقاض، وفي ظل "الفزاعة"، وفي طين الأرض الذي يخفي داخله حبة البطاطا، التي تصبح نقطة التحول في الرواية.

حبة البطاطا تلك ليست مجرد اكتشاف بسيط، بل هي لحظة رمزية مكثفة، إذ تعني أن الحياة لم تنتهِ بعد، وأن الأرض، رغم الدمار، لا تزال قادرة على العطاء، في هذه اللحظة، يدرك زياد أن الذاكرة، رغم كونها مؤلمة، يمكن أن تكون أيضا مصدرا للأمل، وأن من يحمل الذكريات لا يعني بالضرورة أنه محكوم بالمعاناة، بل ربما تكون تلك الذكريات هي القوة التي تجعله يستمر.

لا تكتفي الرواية بمناقشة تجربة زياد الشخصية، بل تسلط الضوء على قضية أعمق تتعلق بذاكرة المجتمعات التي تعيش الحروب، كيف يتعامل المجتمع مع جيل الحرب؟ هل يحاول تضميد جراحه، أم يسعى لنسيانها؟ وتقدم غير مباشر للمجتمعات التي تحاول إخفاء معاناة الناجين، بدلا من منحهم فرصة للحديث والبوح واستيعاب الألم.

"فزاعة" بدرية البدري هنا لا تمثل فقط مأساة فردية، بل هي تجسيد لواقع أوسع، حيث تتحول الحرب إلى شيء يُراد طمسه بعد انتهائها، رغم أن آثارها لا تمحى بسهولة، وتشير الرواية إلى أن محاولات تجاهل المعاناة لا تعني زوالها، بل قد تؤدي إلى تراكمها في الذاكرة الجمعية، مما يجعلها تعود بطرق أكثر تعقيدا في الأجيال القادمة.

في النهاية، الفزاعة ليست مجرد رواية عن طفل في زمن الحرب، بل هي قصة عن الإنسان في مواجهة مصيره، وعن كيف يمكن للحياة، حتى في أكثر اللحظات ظلاما، أن تجد طريقًا للاستمرار.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

من الذكورة السامة إلى التحرش: تأملات في فلسفة السلطة والجسد

في عالم ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الثابتة وتنسف الرؤى التقليدية للمعرفة، يصبح التحرش ليس مجرد فعل مادي يحدث في الشارع أو مكان عام، بل هو أيضًا بنية معرفية تخلق التفرقة بين “الذات” و”الآخر”. هو ثمرة لحقب تاريخية حملت في طياتها اختلالات فكرية جعلت من الجسد الأنثوي ساحة للصراع الرمزي، بين ما هو مقدس وما هو مدنس، وبين ما يُقبل وما يُرفض. فالتوترات بين الجنسين ليست مجرد صراع بيولوجي، بل هي صراع ثقافي مرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها على مدار الزمن.

من خلال هذه الفكرة، يظهر الجسد الأنثوي ليس ككيان ذاتي يُعبّر عن حرية الفرد، بل كفضاء يُخضع لسلطة ثقافية، حيث يُنظر إليه كجسم للاستهلاك، التسلية، أو حتى كأداة للسيطرة. وعليه، يصبح التحرش بكل أشكاله ليس فقط سلوكًا فرديًا أو تصريحًا كلاميًا، بل هو أسلوب لتأكيد الوجود في نظام اجتماعي يدافع عن امتيازات طبقية وذكورية قديمة، حتى وإن تغيرت أشكالها. هذا السلوك يعكس ضرورة وجود الآخر ليظل المُهيمن في مكانه، وبالتالي فإن التحرش يصبح أداة لصيانة الهياكل الاجتماعية التي تقوم على الهيمنة الذكورية، وهو ما يعزز من استمرار هذه الأنماط القمعية.

العقل الذي يعرض هذه الظاهرة يتأثر بعوامل عديدة، منها البناء الاجتماعي والتاريخي، حيث يتم تجسيد الهويات من خلال الرموز والممارسات اليومية. أما في نظر علماء النفس، مثل سيغموند فرويد، فإن التحرش يعبر عن نزاع داخلي في النفس البشرية بين رغبات مكبوتة وأعراف اجتماعية تضغط على الفرد لكي لا يعبّر عن هذه الرغبات بشكل علني. هنا، يصبح التحرش ليس فقط فعلًا ضارًا للجسد الأنثوي، بل هو أيضًا علامة على خلل أعمق في البنية النفسية للمعتدي، وهو ما قد يعكس اضطرابًا في العلاقة مع الهوية الشخصية والسلطة. هذا الجانب النفسي يرتبط بتصورات الفرد حول الجسد والسلطة، حيث إن الشخص الذي يمارس التحرش قد يكون في الواقع يعبر عن هشاشة داخله وتوتره النفسي الذي يترجم إلى محاولة الهيمنة على الآخرين، بما في ذلك الجسد الأنثوي الذي يُعتبر رمزيًا جسد السلطة وموضوع السيطرة.

عندما ننظر إلى هذه الظاهرة من منظور كل من لويس ألتوسير وميشيل فوكو، يمكننا أن نرى أن التحرش هو جزء من عملية “التشكيل الأيديولوجي” للمجتمع. في هذا السياق، يرى فوكو أن السلطة لا تقتصر على المؤسسات القمعية فقط، بل هي موجودة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، بما في ذلك الطريقة التي ننظر بها إلى الآخر وكيف نحدد مساحات الجسد والمكان. فالجسد الأنثوي في هذا السياق هو ساحة للصراع بين الأيديولوجيات التي تستمر في تهميش وتقييد النساء، مما يخلق ديناميكيات قمعية تظل محورية في الثقافة المعاصرة.

التفسير الفوكوي لهذه العلاقة بين الجسد والسلطة يُظهِر كيف أن التحرش ليس مجرد حالة فردية للعدوان، بل هو نتاج لبنية اجتماعية أوسع، حيث يتداخل الذكاء الاجتماعي مع الذكورية السامة التي تُعيد إنتاج نفسها من خلال الإعلام، التربية، والعلاقات الاجتماعية اليومية. التحرش، في هذه الحالة، لا يُفهم فقط باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل جزءًا من دائرة السيطرة التي تُمثلها هذه البنى الثقافية المستمرة.
هذا التفسير يكشف عن كيفية تجذر التحرش في بنية مجتمعية تشجع على تبني النماذج التقليدية للجنس والسلطة، والتي تُصر على تعزيز الذكورية السامة عبر أطر تربوية وتعليمية تجعل من الجسد الأنثوي هدفًا للتسلط والهيمنة الرمزية.

وبينما نجد أنفسنا في عالم مليء بالتغيرات السريعة والتحولات الفكرية التي تعيد تشكيل هوياتنا، يجب أن نتساءل: كيف يمكن فهم التحرش في ظل هذه الفوضى المعرفية؟ هل يمكننا حقًا وضع إطار ثابت لفهمه؟
في عالم ما بعد الحداثة، تصبح الإجابة على هذه الأسئلة متشابكة، حيث لا توجد إجابة واحدة، بل تعدد للحقائق. إن التحرش، بما هو كائن ثقافي واجتماعي، يمكن أن يظهر في صورة أشكال متعددة: من الاعتداء اللفظي في الشوارع إلى تصرفات سلوكية في الأماكن العامة، وكل ذلك يشكل شبكة من الأفعال التي تُعيد تأكيد الأدوار التقليدية. هذه الأشكال المتعددة لا تنفي أنها مرتبطة ببنية فكرية وثقافية معقدة، تستمر في إنتاج آليات القوة التي تحدد “المكان” و”الحق” في التعبير عن الذات، وتؤكد على الهيمنة الذكورية في المجتمع.

ومن هذا المنظور، لا يُمكن أن يكون التحرش مجرد فعل فردي، بل هو تجسيد لثقافة من التسلط تتجذر في الفكر الاجتماعي والنفسي للأفراد. هذا التسلسل من الأفعال يحمل في طياته تناقضات معمارية في المجتمع الذي لا يزال يراهن على الهويات الثابتة للذكورة والأنوثة، ويستمر في تكرار أنماط القمع الرمزية والجسدية. يُصبح التحرش إذاً ليس مجرد حالة من الفوضى الجنسية، بل هو عملية منتجة لقوى اجتماعية وثقافية تعمل على استمرارية الهيمنة وتثبيت الفوارق بين الجنسين. كما أن هذا التكرار للممارسات القمعية لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى المؤسسات والأنظمة التي تعزز هذه الفوارق وتعزز من منطق “الآخرية” لدى النساء، مما يعيد إنتاج السياسات الاجتماعية التي تساهم في تفشي التحرش على المستوى المجتمعي.

وعليه، فإن التقليل من أهمية هذه الظاهرة أو محاولة تقليصها إلى مجرد “أفعال فردية” هو تهرب من المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها المؤسسات الثقافية والنفسية في إعادة تشكيل هذه الهويات. لا يمكن أن تكون الحلول للقضاء على التحرش محدودة بالقوانين التي تُعاقب الفعل فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء ثقافة كاملة تُعيد التفكير في مسألة الجسد، السلطة، والهوية. لذلك، يجب أن تكون المعالجة أكثر شمولًا بحيث تتضمن تغييرًا بنيويًا في طريقة فهمنا للجسد والعلاقات بين الجنسين. وهذا يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، التي تستطيع إعادة تشكيل الفكر الجماعي تجاه الجنس والسلطة.

هذه الثورة الثقافية والمعرفية، إن تمت، ستكون مدخلًا للتحرر الحقيقي من التسلط، وسيبدأ المجتمع في فهم التحرش ليس فقط كحالة تضر بالنساء، بل كجزء من جرح أعمق في بنية السلطة الاجتماعية التي تستمر في تكريس هيمنة الذكور على الفضاءات العامة والخاصة.

إن التحليل العميق للتحرش باعتباره بنية ثقافية واجتماعية يُبرز ضرورة مواجهة هذه الظاهرة من جذورها، وليس فقط معالجة أفعالها الظاهرة. فالتصدي للتحرش يتطلب أكثر من مجرد تطبيق قوانين ردعية، بل يستدعي تغييرًا ثقافيًا حقيقيًا يعيد تشكيل فهمنا للجسد والسلطة. علينا أن نعيد التفكير في طريقة تربية الأجيال القادمة، في كيفية بناء هوياتهم الجنسانية والاجتماعية بعيدًا عن الأنماط التقليدية التي تساهم في تعزيز الهيمنة الذكورية.

فإذا كانت السلطة المجتمعية قد عملت على تكريس هذه الهياكل القمعية على مدار عقود، فإن الطريق إلى التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل التغيير في بنية الفكر الاجتماعي والنفسي. الثورة الثقافية والمعرفية التي نتحدث عنها ليست مجرد رفاهية فكرية، بل هي شرط أساسي لإرساء مجتمع أكثر عدلاً، حيث يُحترم الجسد البشري، ويُعاد تحديد العلاقات بين الأفراد وفقًا لقيم الحرية والمساواة.

عندها فقط، ستتمكن الأجيال القادمة من العيش في بيئة لا تحكمها قوة هيمنة أو ثقافة قمعية، بل بيئة تشجع على احترام الآخر وتقديره بعيدًا عن التصنيفات الجندرية الجامدة.

إبراهيم برسي

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • الوالي:مشهد المرأة التي تصفع “القايد” في الشارع لم يكن مجرد حادث عابر، بل أصبح ظاهرة يتكرر
  • إلى متى يستمر نزيف الدم فى غزة؟
  • لا يملكون الفهم العميق
  • من الذكورة السامة إلى التحرش: تأملات في فلسفة السلطة والجسد
  • ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟
  • الجزيرة 360 تطلق وثائقيا بعنوان ثمن الحرب.. الرواية الإسرائيلية لأزمة الاحتلال (شاهد)
  • حوارات ثقافية| الروائى الفلسطينى نافذ الرفاعى يجيب عن السؤال فى حوار لـ«البوابة نيوز» هل يتغير مستقبل الرواية العربية بعد حرب غزة؟
  • الروائي الفلسطيني نافذ الرفاعي يكشف لـ "البوابة نيوز" مستقبل الرواية بعد حرب غزة
  • محمد سليمان عبد المالك: الشخصيات في "شباب امرأة" مأخوذة من الرواية