عبد السلام فاروق يكتب: مصر.. العبقرية التاريخية واستحقاقات الجغرافيا
تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT
ليست كل الدول سواسية في تأثيرها أو حضورها؛ فبعضها يكتب التاريخ بحروف من نور، وينحت الجغرافيا بإزميل من ذهب. مصر، بتفردها، ليست مجرد شعب وأرض وسيادة، بل هي حكاية إنسانية ممتدة، وحضارة تتنفس عبر آلاف السنين، هنا، حيث يتشابك النيل مع الصحراء، وتتعانق أفريقيا مع آسيا، تقف مصر كحارس أمين للتوازنات الإقليمية، وكحاضنة للتحولات الكبرى.
لم تكن عبقرية مصر وليدة الصدفة، بل نتاج تفاعل خلاق بين تاريخ عريق وجغرافيا فريدة، فمنذ فجر الحضارة، أدركت مصر أن موقعها ليس نقطة على الخريطة، بل جسر بين الشرق والغرب، وشاهد على حوار الحضارات.
حين قدمت فكرة التوحيد قبل آلاف السنين، لم تكن تبني دولة فحسب، بل كانت ترسم ملامح فلسفة في الحكم تقوم على الوحدة في التنوع. هذه الروح نفسها تجلت في نموذج السلام المصري مع إسرائيل، الذي حول مسار الصراع من حروب دموية إلى مسار دبلوماسي، رغم ثقل التحديات وضغوط اللحظة التاريخية.
لم يكن السلام مجرد اتفاقية، بل رؤية استباقية أعادت تشكيل معادلات الأمن الإقليمي، وأثبتت أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على تحويل العداء إلى فرص للاستقرار.
سر التفرد المصري لا يكمن في الماضي وحده، بل في التوازن النادر بين عمق الجذور وحيوية الحاضر. فمصر، برغم التحديات الاقتصادية أو السياسية العابرة، ظلت تحتفظ بقدرتها على الحركة الواعية بين دوائرها العربية والإفريقية والإسلامية والمتوسطية، دون انفصام أو تناقض. هذه القدرة على الجمع بين الهويات المتنوعة، وتحويلها إلى مصادر قوة، هي ما يجعل مصر حارسًا للأمن الإقليمي، وشريكًا لا غنى عنه في صناعة مستقبل المنطقة.
في العقد الأخير، واجهت مصر اختبارًا وجوديًا مع رياح التغيير العاتية التي اجتاحت المنطقة. بينما انهارت دول تحت وطأة الفوضى أو الاختراق الأيديولوجي، قدم النموذج المصري درسًا في "المرونة المؤسسية": الجيش كضامنٍ للدولة العميقة، والشعب كشريك في رفض تحويل الوطن إلى ساحة لصراعات بالوكالة. كان التصدي لصعود الإسلام السياسي تعبيرًا عن عقد اجتماعيٍ جديد، يعيد تأكيد أولوية الهوية الوطنية على المشاريع الأيديولوجية العابرة للحدود.
اليوم، وفي خضم التحولات الجيوسياسية العنيفة، تعيد مصر تعريف أدوات تأثيرها. فقناة السويس، التي كانت رمزًا للسيادة الوطنية، تتحول إلى محورٍ لـ"دبلوماسية الممرات المائية"، تربط بين أمن الطاقة العالمي واستقرار الشرق الأوسط. وفي ملفاتٍ شائكةٍ مثل ليبيا والسودان، تتبنى القاهرة منهجيةً تقوم على "احتواء الأزمات" بدلًا من استيراد الحلول الجاهزة، مستفيدةً من عمقها الأفريقي كجسرٍ للتواصل مع الفواعل الإقليمية والدولية.
على الصعيد الداخلي، يشهد النموذج المصري تحولًا جذريًا في التعامل مع إرث الماضي ورهانات المستقبل. مشروعات المدن الذكية في الصحراء ليست مجرد طفرة عمرانية، بل جزء من رؤية لتحقيق "التوازن الاستراتيجي" بين التمدد الحضري والأمن القومي. وفي مواجهة تحديات المياه، تتحول أزمة سد النهضة إلى فرصة لصياغة نظامٍ أفريقيٍ لإدارة الموارد، يعيد مصر إلى دورها التقليدي كحاضنةٍ للتكامل الإقليمي.
الدرس المصري الأعمق يكمن في فهمها أن القوة لا تقاس بحجم الجيوش أو الموارد وحده، بل بقدرة الدولة على تحويل التحديات الجغرافية إلى أصول استراتيجية. فالصحراء التي كانت يومًا حاجزًا طبيعيًا، أصبحت ساحةً لاقتصاد المستقبل في الطاقة المتجددة.
والموقع الجغرافي الذي جعلها هدفًا للغزاة، صار ممرًا إجباريًا للتجارة العالمية، تُترجم فيه القوة الناعمة إلى نفوذ سياسي.
في المستقبل القريب، ستواجه مصر معضلة وجودية: كيف تحافظ على دورها كـ"دولة مركز" في نظام إقليميٍ يتجه نحو التعددية القطبية؟ الإجابة تكمن في قدرتها على تطوير "دبلوماسية المعرفة"، حيث يصبح العمق الحضاري والدراسات الاستشرافية أدوات لقيادة الحوارات الدولية. كما أن تحولها إلى مركزٍ إقليميٍ للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي قد يعيد رسم خريطة النفوذ في أفريقيا والشرق الأوسط.
وفي مواجهة التحديات الاقتصادية، تقدم مصر درسًا في «المرونة الاستراتيجية». فبدلًا من الانكفاء على الذات، أو الاستسلام لشروط المساعدات الخارجية، اختارت أن تعيد تعريف أولوياتها. التحول إلى مركز إقليمي للطاقة، والسعي لتحقيق الأمن المائي عبر مشروعات إدارة الموارد، وتعزيز التعاون الأفريقي في إطار سد النهضة، كلها خطوات تعكس رؤية ترى في الأزمة فرصة لإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية.
العبقرية المصرية لا تكمن في قدرتها على الصمود فقط، بل في مهارتها في تحويل الصمود إلى مسيرة. فحين انهارت دول أمام إغراءات «الربيع العربي»، أو انزوت في زوايا الصراعات الطائفية، ظلت مصر تقاوم انزياح الهوية، وتصر على أن تكون «دولة مركز» بكل ما تحمله الكلمة من معنى: مركز للإشعاع الثقافي، وللتوازنات السياسية، وللابتكار الاجتماعي.
اليوم، وفي عصر تتسارع فيه التحولات الرقمية، وتتصاعد فيه النزعات الانعزالية، تطرح مصر سؤالًا مصيريًا: كيف يمكن للتاريخ أن يكون رافعة للمستقبل، لا سجنًا للماضي؟ الإجابة تبدو واضحة في مشهدها الحضاري: ببناء جيل جديد يعي أن عمقه التاريخي ليس عبئًا، بل وقودًا للإبداع. التعليم، الإعلام، الفنون، كلها أدوات تعيد مصر من خلالها صياغة وعي يجمع بين الفخر بالانتماء والانفتاح على العالم.
في الختام، مصر هي فضاء ثقافي وسياسي يثبت أن الجغرافيا قدر، لكن التعامل معها فن. وفنون مصر، من السلام إلى التنمية، ومن الدبلوماسية إلى المقاومة، تروي قصة شعب اختار أن يكون سيدًا على تقلبات الزمن، لا عبدًا لها. هنا، حيث يلتقي التاريخ بالجغرافيا، تكتب إحدى أعظم حكايات الإنسانية: حكاية وطن يعرف كيف يموج بالحياة، رغم كل العواصف.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: مصر حكاية إنسانية النيل أفريقيا
إقرأ أيضاً:
مساجد تونس التاريخية.. روحانية العبادة وعبق التاريخ
تُعرف العديد من المدن التونسية بتراثها الروحاني، ويوجد بها مساجد تثير إعجاب الزوار. وتمثل هذه الأماكن إلى جانب وظيفتها الدينية، منبعًا للإبداع المعماري تسحر الزوار من جميع أنحاء العالم بروحانيتها العالية وتصاميمها الدقيقة، وشكلت هذه المعالم السياحية الساحرة نسيج المنطقة الديني والاجتماعي متمثلة في عناصر الإيمان والاتحاد.
وتشهد تلك المساجد خصوصًا التاريخية منها، توافد أعداد غفيرة من المصلين طيلة شهر رمضان، حتى أن بعضها لا يستوعب العدد الكبير من المصلين، مما يضطرهم للصلاة في الساحات الخارجية والشوارع المحاذية للجامع.
يتجاوز عدد المساجد في تونس، وفقًا لإحصائيات وزارة الشؤون الدينية التونسية خمسة آلاف مسجد، لكن يبرز بعضها بعبقه التاريخي، لاسيما جامع الزيتونة المعمور الواقع في قلب المدينة العتيقة في تونس العاصمة والذي تأسس في عام 79هـ.
ويقع الجامع على مساحة خمسة آلاف متر مربع، ولديه 9 أبواب، وقاعته الداخلية تتكون من 184 عمودًا، آتية أساسًا من الموقع الأثري بقرطاج.
ولم يقتصر دور جامع الزيتونة على العبادة، وإنما اعتبر مقصدًا لطالبي العلم واشتُهر بتعليم أصول الدين، وتميز ارتياده عبر التاريخ من قبل كبار العلماء والمفكرين والمشاهير من أهل التقوى والورع ومن شهد لهم محيطهم بالصلاح.
وتتأتى قداسته من كونه كان معقلًا للمناضلين من أهل الحاضرة ضد الغزاة والمستعمرين على مر التاريخ، على غرار البيزنطيين والنورمانديين والإسبان والفرنسيين، وعرف ملاحم عديدة للدفاع عنه بوجه هذا الغازي وذاك حتى بات في الوجدان عنوانًا للدفاع عن الهوية التونسية.
ومن المساجد التاريخية المشهورة في تونس”جامع عقبة بن نافع” الذي يقع بمدينة القيروان وسط البلاد، والذي يُعد أكبر جامع في تونس، وبناه عقبة بن نافع أواخر القرن الثامن الميلادي، ويتميز بطراز معماري فريد، ويُمثل أضخم المساجد في الغرب الإسلامي وتبلغ مساحته الإجمالية ما يناهز 9700 متر مربع.
وتتميز القبة الأكبر في المسجد والمعروفة بباب البهو بـ 32 سارية من بديع الرخام ذي النقوش الغريبة والزخارف المختلفة، إضافة إلى مجموعة من القباب ذات الطراز المعماري البديع.
وبحسب المراجع التاريخية، فإن الجامع كان حين إنشائه بسيطًا صغير المساحة تستند أسقفه على الأعمدة مباشرة، دون عقود تصل بين الأعمدة والسقف. وحرص الذين جددوا بناءه فيما بعد على هيئته العامة، وقبلته ومحرابه، وتمت توسعته وزيد في مساحته عدة مرات ولقي اهتمام الأمراء والخلفاء والعلماء في شتى مراحل التاريخ الإسلامي، حتى أصبح معلمًا تاريخيًا بارزًا ومهمًا.
ويحتوي جامع القيروان على كنوز قيمة، فالمنبر يعتبر تحفة فنية رائعة وهو مصنوع من خشب الساج المنقوش ويعتبر أقدم منبر في العالم الإسلامي ما زال محتفظًا به في مكانه الأصلي ويعود إلى القرن الثالث للهجرة، كذلك مقصورة المسجد النفيسة التي تعود إلى القرن الخامس هجري وهي أيضًا أقدم مقصورة. فيما يوحي الشكل الخارجي للجامع أنه حصن ضخم، إذ إن جدران المسجد سميكة ومرتفعة وشدت بدعامات واضحة.
يقبل التونسيون على زيارة جامع عقبة ابن نافع او جامع القيروان في المناسبات الدينية وخاصة ليلة السابع والعشرين من رمضان لحضور ختم القرآن.
ومن المساجد التاريخية الشهيرة في تونس “الجامع الكبير” في مدينة سوسة الساحلية، الذي أمر ببنائه الأمير الأغلبي أبو العباس محمد عام 237 هـ وتم ترميمه وتغييره عدة مرات، والجامع مستطيل الشكل، ويتكون من صحن تفتح عليه قاعة الصلاة. وهو محاط بأروقة تستند إلى أعمدة. ولا يحتوي الجامع على مئذنة. ويمكن تفسير ذلك بوجود برج المراقبة بالرباط القريب والذي يؤدي دور المئذنة، إلى جانب دوره الديني، اضطلع الجامع بدور أمني من خلال مراقبة الشواطئ من أي هجوم محتمل.
ووسط جزيرة جربة ينتصب “جامع بن فضلون” الذي يعتبر من المعالم التاريخية في الجزيرة. يعود تاريخ تأسيسه إلى القرن 14 اشتهر هذا الجامع بتدريس الدين ومراقبة المدينة من أجل حمايتها من أي تدخل خارجي أو هجوم، وقد اكتسب شهرته بفضل ما يسمى بالهندسة اللامتوازية التي اعتمدها من بناه، وهو متفرد في هذا المجال بالمقارنة مع التراث المعماري التونسي، فإذا شاهده الزائر من بعيد يبدو له متناسقا تناسق سائر المباني الدينية في الجزيرة أما إذا اقترب منه فانه سيعجب لتفكك مجموعة المباني وغياب النمطية والتوازي مما يوحي بالعظمة والعمق في بناء الأشكال المعمارية.
وفي مدينة تستور التابعة لولاية باجة وسط تونس، يقع “الجامع الكبير” أو جامع الساعة المعكوسة الذي قام المهندس الأندلسي محمد تغرينو بتشييده بين عامي 1610 و1630 ميلادية.
وعاش تغرينو، الذي فر من جنوب إسبانيا، وسط المجتمع المحلي في المدينة. ويفسر العلماء مسألة الساعة المعكوسة إلى أنها تحاكي الطواف حول الكعبة من اليمين إلى اليسار، والكتابة العربية من اليمين إلى اليسار.
ويُعد الجامع رمزًا لتجسيد فن العمارة الأندلسية، وخاصة الصومعة التي يظهر في أعلاها نقوش وهندسة معمارية أندلسية، كما تنفتح واجهاته بنوافذ صغيرة مزدوجة وغنية بالزخارف المصنوعة من الزليج، إضافة إلى ساعة ميكانيكيّة توجد في أعلى الصومعة كانت قديمًا تعدّل عن طريق ساعة شمسية موجودة في صحن الجامع، ويقترب مظهر الصومعة من أبراج الأجراس الأراغونية الموجودة في جنوب إسبانيا.