حوّل الغرب عبارة «القيم الديمقراطية» ملاذا خطابيا بعد أن أفقدها دلالتها الحقيقية التي تأسست بعد ثورات اجتماعية وثقافية عبر سنوات طويلة. وتُستَحضر هذه العبارة بإلحاح كبير باعتبارها بوصلة أخلاقية، واختبار ولاء سياسي، ودرعًا ضد الانتقاد، وباعتبارها أيضا سلاحًا أيديولوجيًا للاستخدام الانتقائي. تقدم الحكومات الغربية، وخصوصا في أوروبا وأمريكا، هذه القيم كمعايير كونية، تدّعي من خلالها حق محاسبة الآخرين، غالبا في العالم الثالث، على ما يُعدّ تقصيرا ديمقراطيا.

لكن هذا الترفع الأخلاقي يستدعي سؤالا ملحا ومحرجا في آن: ما الذي تبقّى من القيم الديمقراطية التي يزعم الغرب التمسك بها بكثير من الحماس؟

فلنأخذ إسرائيل التي تُقدَّم، في واشنطن وفي أوروبا، باعتبارها النموذج الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط.. ولكن المشاهد الجارية في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان تفرض علينا أن نواجه الحقيقة؛ فحين تُباد الشعوب وتهجر من موطنها وتُدمَّر بيوتها، وتُفرض عليها الحصارات وتجوّع، وتُسنّ قوانين تُقنِّن التمييز، هل يبقى من الممكن الادعاء بالانتماء إلى المثال الديمقراطي؟ هل الديمقراطية مجرد انتخابات دورية تُجرى داخل حدود مصطنعة، أم أنها تتطلب مبادئ أعمق وأصعب: كالعدالة، والمحاسبة، وكرامة الإنسان؟

لكن الأمر لا يقتصر على إسرائيل التي يعرفها العالم أجمع بأنها دولة احتلال، فحتى أمريكا التي نصّبت نفسها حامية الديمقراطية الليبرالية على المسرح العالمي ما زالت تمول وتسلح إسرائيل خلال أكثر حروبها دموية ضد الفلسطينيين واللبنانيين. هذا التناقض لم يَغِب عن أنظار العالم: هل يمكن لدولة أن تموّل الدمار في الخارج وتزعم في الوقت ذاته التمسك بضبط النفس الديمقراطي في الداخل؟ أما خطة ترامب لإعادة توطين الفلسطينيين في غزة وتحويل القطاع إلى ما يشبه «ريفييرا»، فهي لا تنم عن رؤية إنسانية بقدر ما تكشف عن منطق استعماري مغلف بعبارات دبلوماسية.

في الوقت نفسه، بدأ الدعم لأوكرانيا، الذي كان الغرب يعتبره رمزا للتضامن الديمقراطي، يتلاشى ويتآكل بل يتحول إلى ما يمكن تسميته بكثير من الاطمئنان ابتزاز سياسي واقتصادي. هذا التراجع يُقوّض السردية التي سعت أمريكا وحلفاؤها في الغرب إلى ترسيخها والتي تتمثل في أن الديمقراطيات تتكاتف ضد العدوان.. لكن عندما يصبح التضامن قابلا للمساومة، تصبح القيم التي يفترض أن يمثلها في مهب الريح.

وأوروبا، التي كانت مهد الفكر الديمقراطي الحديث، تتعثر بدورها؛ فالقارة تشهد صعودا مستمرا لتيارات اليمين المتطرف، ورُهاب الأجانب، والقوميات الإقصائية والشعبوية. يُجرَّم اللاجئون والمهاجرون، وتُقوَّض الحريات المدنية باسم الأمن. ونرى ونسمع عن قادة سياسيين كانوا يمجدون الشمولية فإذا هم اليوم يغازلون أفكارا كانت، إلى وقت قريب، محصورة في الهامش. التجربة الديمقراطية، التي وُلدت من رماد الفاشية، تبدو اليوم وكأنها تنكسر تحت وطأة تناقضاتها الداخلية. تبدو الحقيقة جلية ولكنها مُقلقة جدا حيث استدعاء الغرب للقيم الديمقراطية بات بشكل واضح جدا انتقائيا، وباتت القيم نفسها جوفاء ومتضاربة أخلاقيا. فعندما تصبح الديمقراطية لغة للمصلحة، لا إطارا للعدالة، وعندما تُستخدم لتبرير الاحتلال والإبادة الجماعية وتجويع الشعوب، أو لتحقيق مكاسب جيوسياسية، فإنها لا تعود قيمة، بل ذريعة.

وإذا أراد الغرب استعادة سلطته الأخلاقية، فعليه أن يفعل أكثر من ترديد تراتيله الديمقراطية. عليه أن يطبّق ما يعظ به، لا في الداخل فحسب، بل وبشكل خاص في الخارج. وهذا يعني مساءلة الحلفاء، واحترام القانون الدولي، والإصغاء للأصوات التي طال تهميشها. الديمقراطية ليست حقا مكتسبا للغرب، ولا علامة تجارية حصرية، إنها وعد متجدد، وعد يخصّ البشرية جمعاء، ويجب الدفاع عنه بالفعل كما بالقول، لا بالشعارات ولا بالدعاية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مسؤول أممي ينتقد استهانة العالم بتعديات “إسرائيل” على القانون الدولي بغزة

الثورة نت/..

انتقد المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي استهانة العالم بالقانون الدولي الإنساني وفشل مجلس الأمن في الحفاظ على السلام، معتبرا أن العنف أصبح هو “العملة السائدة” في العصر. ووجه غراندي في إحاطة قدمها لمجلس الأمن أمس الاثنين ونشر مضامينها الموقع الرسمي للأمم المتحدة، نقدا حاد لفشل مجلس الأمن في حفظ السلام والأمن، مطالبا إياه بعدم التخلي عن الدبلوماسية. كما انتقد المسؤول الأممي استهانة العالم بالقانون الدولي الإنساني .
وقال غراندي “أخاطبكم مرة أخرى باسم مليوني شخص نزحوا قسرا.. لقد سعوا إلى الأمان أو على الأقل حاولوا ذلك، بعد أن علقوا في أوضاع مدمرة”، واستدرك “لكنهم سيظلون يأملون في عودة آمنة ولن يستسلموا ولن يريدوا منا أن نستسلم”. وأشار المسؤول الأممي إلى أن وضع المدنيين في غزة “يصل إلى مستويات جديدة من اليأس يوما بعد يوم”، لافتا إلى أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لا تشارك مباشرة في استجابة الأمم المتحدة في غزة. كما سجل وجود 120 صراعا مستمرا في العالم وفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر.

مقالات مشابهة

  • فولودين: الدول الأوروبية تتحول إلى أنظمة شمولية
  • رؤساء المشيخات الإسلامية في البلقان يشيدون بجهود الإمارات لترسيخ القيم الإنسانية
  • حملة "دوووس"..لعبة الحياة التي تُعيد القيم المفقودة للشباب المصري من طلاب إعلام عين شمس
  • عندما يلتقي الواقع بالذات.. أنرى الحقيقة أم أنفسنا فقط؟
  • الوزير الشيباني: إن أي دعوة للتدخل الخارجي، تحت أي ذريعة أو شعار، لا تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور والانقسام، وتجارب المنطقة والعالم شاهدة على الكلفة الباهظة التي دفعتها الشعوب جراء التدخلات الخارجية، والتي غالباً ما تُبنى على حساب المصالح الوطنية، وتخدم أ
  • إسرائيل التي تحترف إشعال الحرائق عاجزة عن إطفاء حرائقها
  • المفتي قبلان: لا بدّ من فهم الضرورات اللبنانية جيداً حتى لا تتحول الضغوط الدولية إلى برميل بارود
  • التحالف الديمقراطي الاجتماعي العربي يدعم الوحدة الترابية المغربية
  • ترامب : فزت بالانتخابات الرئاسية الأمريكية رغم «التزوير الديمقراطي»
  • مسؤول أممي ينتقد استهانة العالم بتعديات “إسرائيل” على القانون الدولي بغزة