إذا تأملنا الواقع الذي نعيش فيه، سنجد العديد من الممارسات الاستبدادية في حياتنا، تنضاف إلى الاستبداد السياسي الذي جثم على صدورنا لعقود طويلة، ولا يزال، وله تأثير كبير في تخلفنا وتراجعنا لسنوات طويلة، ناهيكم أنه يستنفذ طاقات الأمة وخيراتها في غير فائدة، أو بمعنى آخر فيما يضرها، ويؤخرها لعقود طويلة!

وقد تحدث ابن خلدون والكواكبي في آثار الاستبداد السياسي على الأمة بشكل واضح وجلي، وما يعنيني هنا هو الحديث عن الاستبداد الذي يمارسه كل فرد في معاملاته، ولا أستثني نفسي من ذلك، وما تمارسه كذلك المؤسسات بكل أنواعها، والتجمّعات البشرية داخلها، وفيما بينها.



فالحياة الأسرية، على سبيل المثال، يغلب عليها حال الاستبداد الذي يمارسه الكثير من الآباء على الأبناء، فتقمع فيهم ملكات المبادرة، ويُحملون على ما لا يريدون، ويُوجّهون في أحيان كثيرة إلى غير ما يُسّروا له، فتجد مثلًا الابن بعد انتهائه من المرحلة الثانوية، يوجه إلى ما لا يرغبه أحيانًا، ولا يهتم الأهل في كثير من الأحيان بمسألة القدرات الخاصة للأبناء، فالجميع مشغولون بما يسمى كليات القمة (الطب والهندسة)، ومن ثمّ يتم توجيه الأبناء إلى ما يرغبه الآباء، لا إلى ما يريده الأبناء.

كما يمارس، أيضًا، الاستبداد بصورة أو بأخرى من الأزواج على الزوجات، فتهدر حقوقهن ويعاملن معاملة المتاع أو العبيد، ويعيش الأطفال ذلك الوضع ويتشرّبون منه، فيبقى في نفوسهم، ويؤثر على سلوكهم فيما بعد، وتنتقل إليهم العدوى بشكل طبيعي وتلقائي. إن هذا الوضع الاستبدادي في الأسرة لئن لم يكن الوضع الشامل في الأمة إلا أنه وضع يكاد يكون غالبًا فيها، ومنشؤه الجهل الموروث عن الانحطاط، فأكثر هذه الأمة من الأميين الجهلة الى يوم الناس هذا، فكيف يمكن أن تساس الأسرة فيها بميزان العدل الذي وضعته الشريعة الإسلامية في هذا الوضع من الأمية والجهل.

وإذا نظرنا إلى الممارسات التي تتم في مجال التعليم على جميع المستويات المختلفة نجد أن أسلوب التلقين هو السائد، والمتعلم ليس له دور إلا الصمت دون أن تكون له فرصة تُذكر في الحوار والمناقشة وإبداء الرأي، ودون أن تكون له فرصة تذكر، أيضًا، في أن يوجه إلى التعلم الذاتي الذي يقوم على شيء من الحرية في الاختيار والتمييز. وبهذا الأسلوب التلقيني الضارب تُقمع في المتعلمين ملكات النقد والتمييز والمقارنة التي يكون بها الاختيار الحر، إذ يساقون بالتلقين إلى الرأي الواحد والموقف الواحد، ويُحملون عليه حملاً على وجه الاستبداد، وهذا يكون له الأثر السلبي على تربية النشء، وبالتالي على سلوكهم في الحياة.

وإذا نظرنا إلى المنظمات، والهيئات، والحركات ذات الصلة بالتربية في مفهومها العام نجد أنها تسير على نفس الطريقة الاستبدادية؛ إذ هي غالبًا ما يكون فيها صوت القائد أو الزعيم أو الرائد هو الصوت المسيطر إن لم يكن الصوت الأوحد دون أن يكون للأتباع شأن يذكر في تدبير شؤونها، وتوجيه سياستها، ودون أن يكون في برامجها الثقافية التربوية فسحة تذكر للتنوع والمقارنة والنقد، وإنما هو في الغالب توجيه خطي مذهبي ضيق، يُحمل فيه الأتباع على الرأي الواحد كما يحملون على النمط الواحد في التدبير والتسيير.

إذا كان المسلم لا يعيش حرًا مختارًا في تفكيره، فإنه لا تكون له مبادرة يمكن أن يطوّر بها الواقع المتردي من حيث الأفكار والنظريات، وإذا كان لا يشارك مشاركة فعلية في تدبير الشؤون العامة واتخاذ القرارات فيها، فإنه لا يكون له عزم على الإنجاز العملي، وينتهي به الأمر في ذلك إلى شخصية مسحوقة انطفأت فيها إرادة النظر كما انطفأت إرادة الإنجاز والعمل، وتلك هي حال الشق الكبير من المسلمين اليوم..وهذا الطابع الاستبدادي نجده أيضًا في واقع الأحزاب السياسية، والطرق الصوفية، والهيئات والحركات المختلفة المنازع، بما فيها الحركات الإسلامية نفسها، فإنها في أكثرها تقوم على طابع استبدادي قد يشتد ويخف بين تنظيم وآخر، ولكنه يكاد لا يخلو منه تنظيم إلا في الأقل.

ونجد الكثير من المثقفين بمختلف أصنافهم ومشاربهم، يمارسون الاستبداد والطغيان، ويحاولون فرض هيمنتهم على الآخرين، بحجة أنهم فوق الجميع، ويبررون استبدادهم بأنهم صفوة المجتمع، وهم من يمتلكون زمام الثقافة والمعرفة، ولهذا يجوز لهم التسلط على عموم الجمهور، الذي ينظرون على أنه أقل ثقافة منهم.

وأحيانًا يمارس بعض رجال الدين طغيانهم واستبدادهم على قطاعات واسعة من البشر، بحجة أن الله هو من كلفهم بالنيابة عنه في استعباد الآخرين وسلب عقولهم، وتوجيههم بالطريقة التي يريدونها، وربما يكون ذلك خدمة لمستبد سياسي، أو لشهوة الشهرة، والظهور بين الناس.

وفي نفس السياق قد يمارس القاضي طغيانه على بني البشر، بحجة أنه يمتلك سلطة القانون، وبه يحكم، فلا بد أن يفرض هيمنته على الجميع، فلا مجال لاستماع أراء الآخرين أو الإنصات لهم.

وقد تمارس وسائل الإعلام الاستبداد بشكل فج، وتدّعي أنها تمتلك الحقيقة، ولا أحد سواها يصل إليها، ومن ثمَّ يتم فرض الرأي الواحد على المشاهد أو المستمع، وتوجيهه حسب ما يريد المذيع، أو حسب ما تراه سياسة القناة، وبالتالي يساهم الإعلام بشكل أو بآخر في تعميق حالة الاستبداد في الأمة.

وعلى حد تعبير الدكتور عبد المجيد النجار، في كتابه الشهود الحضاري للأمة الإسلامية "فإذا كان المسلم لا يعيش حرًا مختارًا في تفكيره، فإنه لا تكون له مبادرة يمكن أن يطوّر بها الواقع المتردي من حيث الأفكار والنظريات، وإذا كان لا يشارك مشاركة فعلية في تدبير الشؤون العامة واتخاذ القرارات فيها، فإنه لا يكون له عزم على الإنجاز العملي، وينتهي به الأمر في ذلك إلى شخصية مسحوقة انطفأت فيها إرادة النظر كما انطفأت إرادة الإنجاز والعمل، وتلك هي حال الشق الكبير من المسلمين اليوم".

وعليه يجب أن نراجع ممارساتنا على مستوى الأسرة والمؤسسات التعليمية، وغيرها من الهيئات والتجمعات، وفي الحياة العامة بشكل عام، ونتخلى بشكل أو بآخر عن الممارسات الاستبدادية، وبروز الأنا في حياتنا، قبل أن نطالب الساسة بالتخلي عن تلك الآفة الخطيرة التي أدت، لا محالة، إلى تأخر الأمة على جميع المستويات.

twitter.com/drgamalnassar
موقع إلكتروني: www.gamalnassar.com

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الرأي مسلمون رأي مآلات مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

رئيس «الرقابة المالية»: تطوير معايير المحاسبة لمواكبة الممارسات العالمية

قال الدكتور محمد فريد رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية إنَّه تمّ تطوير معايير المحاسبة المصرية لتراعي كل المتغيرات الاقتصادية بشكل مرن، بما يمكن الشركات من إعادة تقييم أصولها بالقيمة السوقية بدلاً من الدفترية وعرضها وتبويبها في القوائم المالية لتعكس حقيقة نتائج أعمال وأداء الشركة، وبما يتكامل مع جهود الحكومة المصرية لتوفير بيئة عمل مواتية تعزز من النشاط الاقتصادي لتدعيم النمو المستدام وجذب الاستثمارات.

تطوير معيار المحاسبة المصرية

وأضاف رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، في كلمة رئيسية خلال احتفالية مرور 120 عاما على تأسيس جمعية المحاسبين القانونيين المعتمدين البريطانية (ACCA)، أنَّ تطوير معيار المحاسبة المصرية رقم 13 خاص بآثار التغيرات في أسعار صرف العملات الأجنبية، جاء ليتوافق مع المعايير الدولية، فضلاً عن إضافة تفسير محاسبي وذلك لأول مرة في تاريخ مصر والمنطقة، ينظم المعالجة المحاسبية لشهادات خفض الانبعاثات الكربونية.

وتابع: «كما نظم التفسير المحاسبي الجديد، محددات المعالجة المحاسبية وفق حالات مختلفة، حالة إصدار الشهادة لصالح مطور مشروع الخفض المالك له، أو إصدارها لصالح مطور أو ممول المشروع ولكنه ليس المالك، أو حالة شراء شهادة الكربون بهدف استخدامها لتحقيق التبادل الكربوني وذلك عبر إلغائها، والحالة الأخيرة في حالة شراء شهادة الخفض بهدف المتاجرة فيها».

المركز المالي ونتائج الأعمال

وأوضح أنَّ معايير المحاسبة المصرية تساعد الشركات على التعبير عن المركز المالي ونتائج الأعمال بشكل سليم، بما يدعم صحة موقفها في اتخاذ قرارات تمويلية واستثمارية سليمة، مشيرًا إلى أن الفترة الماضية شهدت تطوير شامل لأحكام معايير المحاسبة المصرية بداية من تقييم الأصول بالقيمة العادلة بدلاً من الدفترية والاستثمار العقاري وحقوق الملكية.

مقالات مشابهة

  • 14 فناناً سورياً يرصدون بأعمالهم زوال الاستبداد في معرض بغاليري مشوار
  • مصر ودورها المحوري في دعم استقرار لبنان | خبير: تحركات سياسية واقتصادية لإنهاء الأزمات
  • أشرف سنجر: مصر لن تخون القضية الفلسطينية ودورها واضح للأطراف الدولية
  • رقعة حرب واحدة استعاد فيها الجيش زمام المبادرة بشكل كامل بينما تنهار المليشيا
  • القبيلة اليمنية … استهدافها في الماضي ودورها في الحاضر والمستقبل
  • سياسي أنصار الله: دماء القادة الشهداء هي مشعل المقاومة ووقود حركتها والطوفان المتجدد الذي لن يتوقف إلا بزوال إسرائيل
  • سياسي أنصار الله: دماء القادة الشهداء مشعل المقاومة ووقود حركتها والطوفان الذي لن يتوقف إلا بزوال إسرائيل
  •  عضو «القومي لحقوق الإنسان»: نشر صورة الرئيس السيسي مع إبراهيم رئيسي تصرف استفزازي
  • رئيس «الرقابة المالية»: تطوير معايير المحاسبة لمواكبة الممارسات العالمية
  • "قضاء أبوظبي" تبحث مع وفد خليجي تبادل المعارف والخبرات التقنية الحديثة