أردوغان… اللاعب الأخير في الشرق المعقد
تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT
محمد الجرادي
في زمن تكاد فيه الشعوب تنسى ملامح القادة الحقيقيين، ظهر رجل لا يمكن وصفه بانه رجل عادي، رجب طيب اردوغان، ليس مجرد سياسي يعتلي المنصة ويرفع شعار الامة، بل معماري حلم، بنى تركيا الحديثة وهو يبتسم في وجه الرياح، ويشد وثاق ثيابه في وجه العواصف.
منذ أكثر من عشرين عاما، وهو لا يحكم فحسب، بل يعيد تعريف الدولة، دولة كانت تترنح تحت وطاة ديون صندوق النقد الدولي، تعاني من بنية تحتية منهارة، ومن نخبة سياسية فاقدة للروح
اتى من بلدية اسطنبول، لا من بوابة الجنرالات، حاملا معه فكرة ان الخدمة هي السياسة، فحول الفكرة إلى منهج، والمنهج الى نهضة.
تحت حكمه، شهدت تركيا تحولا اقتصاديا غير مسبوق
شبكات الطرق السريعة التي ربطت اطراف البلاد كانها شرايين جسد جديد، مشروع مترو مرمراي الذي اخترق قاع البوسفور وجمع بين قارتين في نبض واحد، مطار اسطنبول الجديد، الذي اصبح أحد أكبر مطارات العالم، الصناعات الدفاعية التي تحررت من التبعية، والمستشفيات والمجمعات السكنية والمدارس التي نمت في مدن كانت منسية.
اردوغان لم يبن حجارة، بل استنهض احساسا وطنيا جديدا
جعل التركي البسيط يشعر ان له قيمة، ان دولته لم تعد تنتظر الاوامر من الغرب، انها لم تعد حديقة خلفية لحلف الناتو، بل لاعب مستقل على الطاولة، لكنه، في طريقه الى ذلك، استدعى ما في داخله من حذر، وربما من خوف، بدأ يخشى على ما بناه، فشد قبضة الحكم، راى في كل معارضة تهديدا، وفي كل اختلاف خطر هدم، صار لا يفرق بين النقد والحقد، ولا بين الخصم والعدو،
أنا، ككثير من الشباب العربي، كنت اصفق للمعارضات، اراها المخلص، لكن بعد ان رايت كيف تسقط الاوطان حين تحكم بالفوضى، ادركت ان التغيير لاجل التغيير ليس دائما خلاصا.
في اليمن، كنت كغيري ممن ابتلعوا طعم الحلم، لنكتشف متأخرين أننا وقعنا في فخ المقلب الكبير. معارضة بلا مشروع، تملك فقط شهية مفتوحة للسلطة، ومنذ ذلك اليوم، تغير منظاري، صرت اؤمن ان التغيير الحقيقي ياتي من داخل النظام، لا من خارجه.
ولست اكتب عن تركيا من مقعد المشاهد البعيد، بل من عيون سافرت ودهشت، زرت هذا البلد مرتين، وكل مرة كنت اظن انني رايت كل شيء، فاكتشف انني ما رايت إلا القشرة الاولى من الجمال،
ابهرتني تركيا ببنيتها التحتية الحديثة، بشوارعها الملساء التي تشق الجبال بثقة، بجسورها التي تعانق البحر كأنها سطر في قصيدة، وبمدن البحر الاسود التي لا تشبه اي مكان رايته من قبل
اصطحبني في رحلتي إلى هناك الصديق العزيز محمد المقبلي، وكانت الطبيعة تتكلم بلغتها الخاصة، تسرد حكايات الماء والشجر والضباب، وتجعل من كل زاوية مشهدا يصلح ان يكون لحظة تامل.
لم تكن تركيا في تلك اللحظة مشروعا سياسيا في عقلي، بل كانت لوحة حية تجسد فكرة ان النهضة ليست حلما بعيدا، بل ممكنا اذا اجتمعت الارادة والحكمة والادارة.
اليوم، وبعد أكثر من عشرين عاما في الحكم، لا يزال اردوغان يتصرف كأنه في بداية الطريق، يناور، يتراجع، ثم يهاجم، يفتح صفحة جديدة مع الاكراد، في لحظة سياسية حساسة، بعد ان خلص من نفوذ البعث في سوريا، وأعلن زعيم الكرد إلقاء السلاح، يريد ان يبني جمهوريتهم معه، لا ضده، يريد ان يكتب فصلا اخيرا لا يشبه البدايات، بل يتجاوزها،
اردوغان ليس قديسا، لكنه ليس طاغية تقليديا ايضا، هو مزيج من الضوء والظل، من الطموح والخوف، من الديمقراطية الموجهة والسلطوية النامية، قد لا تحبه، وقد لا تثق به، وقد تتوجس من دهائه، لكنك لا تستطيع ان تتجاهله، اردوغان ليس زعيما من ورق، ولا دمية بيد العسكر، ولا صورة على الجدران
هو عقل سياسي يسير فوق حقل الغام، ويبتسم وكان الأرض مفروشة له بالورد.
هو النقيض المركب، الذي جمع في شخصه الحلم العثماني، والنهضة الاوروبية، والحنكة الشرقية، والخوف الازلي من السقوط
ولعل ما يغفله كثيرون، ان اردوغان لا يحارب فقط خصومه السياسيين، بل ايضا بقايا الافكار التي زرعتها الكمالية في الوجدان التركي، وعلى رأسها نظرة التعالي تجاه العرب .
الكمالية، في جوهرها، رأت في انتماء تركيا الى الشرق عارا، وفي العرب عبئا تاريخيا يجب تجاوزه لكن اردوغان، بخطابه وسياسته، حاول اعادة ترتيب هذه العلاقة، لا من منطلق عاطفي، بل من رؤية جيوسياسية واعية، فتح الابواب امام العرب، وازال الحواجز النفسية والرمزية، وقدم نموذجا لتركيا لا تخجل من هويتها، بل تصالح ماضيها وتبني مستقبلا مشتركا مع جوارها..
ولم تقتصر اعادة تشكيل تركيا على السياسة والاقتصاد فحسب، بل امتدت الى البنية الديموغرافية والاجتماعية.
في السنوات الاخيرة، تغيرت ملامح بعض الاحياء في اسطنبول وغازي عنتاب ومرسين، واصبحت اغلبية سكانها من السوريين او العراقيين او من جنسيات اخرى، في مشهد لم يكن ممكنا قبل عشر سنوات.
قد يراها البعض فوضى سكانية، لكن المتأمل يقرأها كجزء من مشروع اكبر: هندسة ناعمة للمجتمع التركي، تزحزح مركزية الهوية الكمالية وتفتح البلاد على تعددية جديدة.
هو لا يهدم الهوية، بل يعيد توزيعها، يوسع إطارها، يضخ فيها دماءً جديدة تجعلها أكثر مرونة، أكثر استعدادا للعصر.
اردوغان يدرك ان السلطة لا تُصان فقط بالمشاريع، بل ايضا بتغيير قواعد اللعبة من تحت، بهدوء، بلا إعلان.
تركيا اليوم تقف على مفترق طرق
ولاول مرة، لا تبدو بحاجة إلى منقذ، بل إلى من يحسن إدارة الانجاز، لا من يراكم الخطابات
اردوغان كتب سطره الخاص في تاريخ المنطقة
لكن السؤال الذي لن يجيب عنه الان هو
هل سيكتب نهاية تشبه ما بدأه؟!
ام انه، ككل من صعد عاليا، سيفتن بعلوه ويخطئ الطريق إلى الهبوط الآمن، قد يكتب التاريخ لاحقا انه فعل كل شيء… الا ان يترجل بارادته،،
وحدها الايام ستقول
هل كان اردوغان لحظة ذكية في تاريخ تركيا
ام انه كان… التاريخ نفسه
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: أردوغان العلمانية تركيا
إقرأ أيضاً:
احتجاز العشرات على خلفية إهانة أردوغان في ظل استمرار الاحتجاجات في تركيا
إسطنبول " وكالات ": قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن احتجاجات المعارضة على احتجاز رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو تحولت إلى "حركة عنف".
وأضاف أن حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، مسؤول عن أي ضرر بالممتلكات أو أذى يلحق بأفراد الشرطة خلال الاحتجاجات.
وقال أردوغان، عقب اجتماع لمجلس الوزراء مساء امس في أنقرة، إن على حزب الشعب الجمهوري التوقف عن "تحريض" المواطنين. وأضاف أن "استعراضهم" سينتهي في النهاية وسيشعرون بالخجل من "الشر" الذي فعلوه ببلدهم.
وقال الرئيس البالغ من العمر 71 عاما "تابعنا بدهشة كأمة الأحداث التي وقعت بعد دعوة زعيم حزب المعارضة الرئيسي للنزول إلى الشوارع عقب عملية فساد في إسطنبول. تحولت (الاحتجاجات) إلى حركة عنف".
وأضاف "حزب المعارضة الرئيسي مسؤول عن الجرحى من أفراد الشرطة وتحطك نوافذ متاجر وتضرر ممتلكات عامة. سيُحاسب على كل هذا، سياسيا في البرلمان، وقانونيا أمام القضاء".
وأثار اعتقال إمام أوغلو، أبرز منافس سياسي للرئيس رجب طيب أردوغان، يوم الأربعاء الماضي أكبر احتجاجات في شوارع تركيا منذ أكثر من 10 سنوات. وقضت محكمة تركية الأحد بحبس إمام أوغلو على ذمة المحاكمة بتهم فساد ينفيها.
ويصف حزب الشعب الجمهوري اعتقال إمام أوغلو بأنه مسيس ويتنافى مع مبادئ الديمقراطية. وتنفي الحكومة الاتهامات وتقول إن القضاء مستقل.
الى ذلك، ذكرت وسائل إعلام تركية اليوم الثلاثاء أن السلطات التركية احتجزت 55 شخصا لاتهامهم بإهانة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأسرته خلال مظاهرات للاحتجاج على اعتقال منافسه الرئيسي.
وأوضحت وكالة الاناضول التركية للأنباء أن المحتجزين المشتبه بهم متهمون بالمشاركة في " مظاهرات غير مصرح لها" في وقت متأخر من أمس أمام مكتب عمدة إسطنبول المعزول أكرم إمام أوغلو.
وقد تم تداول صورة لمجموعة تهين والدة أردوغان الراحلة على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يتسن التأكد من مقاطع الفيديو بصورة مستقلة.
وأدان وزير الداخلية علي يرلي كايا التعليقات المسيئة لأردوغان ووالدته الراحلة، ووصفها بـ " الهجوم الخسيس" ضد " قيمنا الأخلاقية". وقال يرلي كايا أمس إنه تم اعتقال أكثر من ألف شخص لصلتهم بالاحتجاجات التي أعقبت احتجاز إمام أوغلو في 19 مارس الجاري.
وأدان إمام أوغلو، الذي تم حبسه لاتهامه بالفساد، ويواجه تحقيقا منفصلا يتعلق باتهامات بالإرهاب، الاهانات على موقع" اكس" للتواصل الاجتماعي.
مع ذلك، تعهد مجددا" بالكفاح بكل السبل الشرعية" ضد ما وصفه بـ " الانقلاب".
من جهة أخرى، أفرج الثلاثاء عن سبعة من الصحافيين الثمانية الذين اعتقلوا من منازلهم في اسطنبول فجر الاثنين وبينهم مصور فرانس برس، مع بقائهم تحت إشراف قضائي، على ما أعلن أحد محاميهم لفرانس برس.
وقالت MLSA وهي جمعية حقوقية تتابع قضيتهم إن عشرة صحافيين اعتقلوا بتهمة "انتهاك قانون التجمع والتظاهر".
وأعلنت سلطات محافظة انقرة تمديد حظر التجمعات المعمول به في العاصمة التركية حتى الأول من أبريل.
والتجمعات محظورة منذ أسبوع في إسطنبول وإزمير والعاصمة حيث اعتُقل نحو 1200 شخص خلال التجمعات اليومية منذ ذلك الحين.
ومع ذلك، تجمع الآلاف مجددا مساء امس أمام مبنى بلدية إسطنبول.
وحذر وزير الداخلية التركي علي يرليكايا صباح اليوم الثلاثاء على منصة اكس قائلا "اوقفت قواتنا الامنية 43 محرضا والعمل مستمر لاعتقال مشتبه بهم آخرين".
من جهته، دان مجلس أوروبا "الاستخدام غير المتناسب للقوة" خلال التظاهرات. وقال مفوض مجلس أوروبا لحقوق الإنسان مايكل أوفلاهرتي "أدعو السلطات التركية إلى الوفاء بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان حول احترام حرية التجمع السلمي وحرية التعبير وحرية الإعلام".
واختار الحزب رئيس البلدية في اليوم نفسه ليكون مرشحه للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها عام 2028.
ويقوم الطلاب بالتعبئة في اسطنبول وأنقرة وإسكيشهير المدينة الطلابية الواقعة بينهما ويواصلون الدعوة إلى مقاطعة الدروس.
وأعلن طلاب إسطنبول عن التنسيق بين جامعاتهم من خلال الدعوة إلى تجمع جديد بشكل يومي، وخلال يوم امس أوقفت الشرطة مسيرة الطلاب بالقوة ومنعتهم من الوصول إلى مقر البلدية حيث يجمع حزب الشعب الجمهوري آلاف المتظاهرين كل مساء.
ودعا حزب الشعب الجمهوري إلى مقاطعة إحدى عشرة علامة تجارية معروفة بأنها قريبة من السلطات، بما في ذلك سلسلة شهيرة من المقاهي. وقال أوزيل "يمكننا أن نعد القهوة بأنفسنا".
ودان العديد من المسؤولين الحكوميين بينهم وزير الخارجية هاكان فيدان من واشنطن حيث يقوم بأول زيارة لمسؤول تركي منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، الإهانات الموجهة إلى والدة الرئيس اردوغان.
وقال فيدان "إن التهجم الوقح على رئيسنا ووالدته الراحلة في ساراتشان (مقر البلدية) هو نتاج انهيار أخلاقي ونفسية قذرة ويضر بالسلم الاجتماعي".
كما دان رئيس حزب الشعب الجمهوري هذه الإهانات وكتب على منصة اكس "من غير المقبول الخلط بين الاحتجاجات والشتائم".
وقال الرئيس أردوغان مساء الاثنين متوجها الى المعارضة في خطاب متلفز "كفوا عن تعكير صفو مواطنينا باستفزازاتكم".
في هذه الاثناء، زار أوزغور أوزيل رئيس حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، عمدة إسطنبول المسجون أكرم إمام أوغلو اليوم الثلاثاء، وذلك بعد ست ليال من الاحتجاجات الحاشدة التي تطالب بالإفراج عنه.
ويعد إمام أوغلو، الذي اعتقل في 19 مارس الجاري، بتهمة الفساد، المنافس الرئيسي للرئيس رجب طيب أردوغان الذي دام حكمه 22 عاماز وينظر بشكل كبير إلى أن اعتقاله له دوافع سياسية وتسبب في إثارة مظاهرات تحول بعضها إلى العنف في جميع أنحاء البلاد.
ولكن الحكومة تصر على أن القضاء التركي مستقل ولا يؤثر عليه النفوذ السياسي.
ووصل أوزيل رئيس حزب الشعوب الجمهوري، الذي ينتمي إليه إمام أوغلو، إلى سجن سيليفري غربي إسطنبول في قافلة من المركبات صباح اليوم الثلاثاء.
ومن المتوقع أن يطلع وسائل الإعلام على حالة العمدة الذي أمضى ليلته الثانية في السجن.
وأعلن أوزيل الليلة السابقة أن اليوم الثلاثاء، سيكون آخر تجمع للحزب خارج مبنى البلدية في اسطنبول، داعيا الناس للانضمام إليه.
وقال أيضا إن الحزب سيعين عضوا في المجلس البلدي ليتولى منصب العمدة بدلا من إمام أوغلو، مما يمنع إمكانية تعيين عضو من قبل الدولة.