جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-17@01:16:57 GMT

"السابقون السابقون"

تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT

'السابقون السابقون'

 

 

د. سالم بن عبد الله العامري

في زحام الدُنيا وضجيجها، هناك فئة من البشر لا تشغلهم الأرض عن السماء، ولا تغريهم الدنيا عن المسير إلى الله، هم الذين تسابقوا إلى الطاعات، فسبقوا، وتسارعوا إلى مرضاة الله، فاستحقوا المنزلة العظمى. هؤلاء هم "السابقون السابقون"، الذين ذكرهم الله في محكم كتابه بقوله: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (الواقعة: 10-12).

لكن من هم هؤلاء السابقون؟ وما الذي أهلهم لهذه المرتبة الرفيعة؟ وكيف يُمكن للسائر إلى الله أن يلحق بركبهم؟

إذا تأملنا في معاني هذه الآية، نجد أنَّها لا تقتصر على مجرد السبق الزمني، وإنما تحمل معنى السبق في الدرجة والفضل، فهم الذين تجاوزوا حدود العبادات التقليدية، وساروا إلى الله بروح ملؤها الشوق، وقلوب تضيء بنور اليقين، وأعمال ترتقي بهم إلى معارج القرب. لا تعيقهم المغريات، ولا تثنيهم الصعاب، قلوبهم مُعلقة بالسماء، وأرواحهم متلهفة للقاء ربها، يتسابقون في مضمار العبودية، لا يلتفتون إلى الوراء، ولا يبطئون الخطى.

وقد اختلفت التفاسير في تحديدهم، فمنهم من قال: هم الأنبياء وأولياء الله المقربون، الذين كانت حياتهم كلها لله، فانطبقت عليهم أعلى معاني السبق ومنهم من قال هم الصحابة الذين بادروا إلى الإيمان حين كذّب الناس، وضحّوا حين جبُن الآخرون، وأعطوا حين أمسك غيرهم. ومنهم من قال هم كل عبد أخلص لله، وأقبل عليه بقلب سليم، وانطلق في ميادين الخير لا يبتغي إلّا وجهه الكريم. وما يجمع بينهم جميعًا هو أنهم لم يكن لهم في الدنيا تعلّق يعوقهم عن الله، وإنما كانوا أهل صدقٍ ويقينٍ، سائرين إلى الحق بإخلاص وتجرّد. استقاموا على الطاعة ولم يعرفوا الفتور، وتسابقوا إلى الخيرات كما يتسابق العطشى إلى الماء، قلوبهم بيضاء لم يشب إخلاصهم رياء، ولم يدنس يقينهم شك، فكانوا بحق أهلاً للقرب، ولم يكن سبقهم في العبادة فقط، بل سبقوا في الصبر، والجهاد، والإحسان، واليقين، والصدق؛ فلما كانت همتهم عالية، ومقاماتهم سامية، رفعهم الله إلى منزلة لا تضاهيها منزلة، وجعلهم في "جنات النعيم"، في مقعد صدق، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

ولكي تسير على خُطاهم أيها القارئ العزيز: اجعل قلبك معلقًا بالله دائمًا، ولا تكتفِ بالمألوف من الطاعات، بل زد عليها حبًا وسعيًا. كن سريعًا إلى الخيرات، لا تنتظر، ولا تتردد، فاللحظة التي تضيع قد تكون هي اللحظة الفاصلة بينك وبين مقام السابقين. طهر نيتك، واجعل كل عملك لله، فالسابقون لم يكونوا الأكثر عددًا في العبادات فحسب، بل كانوا الأخلص نيةً والأصدق قلبًا.

لا تنظر إلى من هو دونك؛ بل اجعل أنظارك دائمًا معلقة بمن سبقوك، وأطلق لنفسك العنان للحاق بركبهم؛ فالسابقون السابقون لم يكونوا خارقين؛ بل كانوا بشرًا مثلنا، لكنهم عرفوا قيمة العُمر، فاستثمروه في طاعة الله، وأدركوا أن الحياة الحقيقية ليست هنا، وإنما هناك، حيث القرب والنعيم المقيم؛ هؤلاء السابقون لم يكن سبقهم عشوائيًا، بل كان ثمرة يقينٍ وإخلاص، وجهادٍ متواصل مع النفس، وحرصٍ على اغتنام اللحظات قبل فوات الأوان؛ فالسباق إلى الله لا ينقطع، وأن المقاعد في رحابه لا تُحجز إلا بالجهد، والإخلاص، والتجرد عن كل ما يثقل الروح عن التحليق؛ فكل إنسان لديه فرصة أن يكون من السابقين إذا أخلص لله وسارع في فعل الطاعات، وعمل الخيرات.

في الختام.. يبقى السباق إلى الله أعظم سباق، لا يفوز به إلّا من سَمَتْ همته، وصَفَتْ نيته، وجاهد نفسه في طريق القرب والرضوان؛ فطوبى لمن حمل مشعل السبق، وارتقى في مدارج السائرين إلى رضوان الله، فظفر بالنعيم الذي لا يزول، ولم تشغله الفانية عن الباقية، فحاز رضوان الله قبل أن يُغلق الباب، ويفترق السائرون بين المقربين والمحرومين؛ فلنستلهم من سيرتهم العطرة العزم والمثابرة، ولنحرص على أن نكون من السابقين في أعمال الخير، علّنا نحظى بمكانة عند الله يوم الفصل والحساب؛ فالطريق لا يزال مفتوحًا، والسباق لم ينتهِ، والفرص تُمنح لمن يشاء أن يسابق، فهل نرضى بالدون، وقد دعينا للعلو؟ "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..."نداءٌ لمن أراد أن يكون من الفائزين. جعلنا الله وإياكم من "السابقون السابقون أولئك المقربون".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لا سلاح يُسلّم.. والمُحتلّ لا يؤتمن

 

 

المقاومة لا تركع، ولن تساوم، ولن تضع سلاحها مهما اشتدت المحن، ومهما تعاظمت التضحيات، لأن من حمل روحه على كفه، ومن ودّع أهله ذات فجر دون أن يدري إن كان سيعود، لا يمكن أن يخضع في منتصف الطريق، ولا يمكن أن يبادل سلاحه بسلامٍ زائفٍ أو أمانٍ ملوّث بالذل. ما يجري في غزة ليس معركة فقط، بل امتحان للأمة بأسرها، اختبارٌ لضمير العالم، ومواجهة بين الحق المجروح والباطل المدجج بالسلاح والإجرام. ولكننا نؤمن، إيمانًا لا يتزعزع، أن وعد الله حق، وأن المظلوم المنتصر حتمًا، ولو بعد حين. قال الله تعالى: “وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”
من يطلب من المقاومة أن تسلّم سلاحها الآن، في لحظة يُذبح فيها الأطفال، وتُبتر فيها أطراف الأمهات، وتُقصف فيها البيوت فوق ساكنيها، إنما هو إما خائن باع آخر ما تبقّى من نخوة، أو أحمق لم يفقه شيئًا من دروس التاريخ. هل يُعقل أن يُطلب من المقاوم أن يُلقي سلاحه مقابل أن يتوقف عدوه عن قتله؟ أي منطق هذا؟ وأي جنون؟ إن منطق الذل لا نعرفه، ومنهج الركوع لا نؤمن به، نحن أمة كُتب عليها الجهاد منذ أن وُجد الباطل، ولسنا طلاب كراسي ولا باعة كرامة، بل نحن طلاب حق، نحمل السلاح لا لنموت فقط، بل لنحيا أعزاء، ولتُكمل الأجيال القادمة الطريق. قال الله سبحانه: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”
إن غزة اليوم لا تطلب منّا البكاء، ولا تشتكي، ولا تتوسّل، بل تصرخ فينا أن نثبت، أن نكون أوفياء للدماء التي سالت، أن نكون كما وعدنا أنفسنا وأبناءنا أن نكون: أحرارًا لا نساوم، جنودًا لا نخذل، رجالًا لا نبيع القضية في سوق الذل والمصالح. في كل طفل يُستخرج من تحت الركام، في كل أمٍّ تحتضن قطعةً من جسد ابنها، في كل مقاوم يقف في نفقٍ مظلم يترقب ساعة الاشتباك، هناك رسالة واحدة: لن نُهزم… ولن ننكسر… ولن نستسلم.
نحن في اليمن، بكل أطيافنا وقوانا الحيّة، نقف إلى جانب فلسطين ومقاومتها، لا نُساوم في ذلك، ولا نطلب مقابلاً، لأن فلسطين ليست قضية سياسية عابرة، بل هي بوصلتنا الإيمانية، قضيتنا الوجودية، رمز كرامتنا ومعنى صمودنا. ونعلم أن الله معنا، كما كان مع من سبقنا من المجاهدين: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”
أمريكا اليوم، ومعها كيان الاحتلال ومن خلفهم بعض الأنظمة العربية المتواطئة، يظنون أنهم قادرون على كسر إرادة المقاومة عبر الحصار والتجويع والتدمير والابتزاز السياسي. ويظنون أن التلويح بوقف القتل مقابل نزع السلاح سيُرهب المقاومين، لكنهم لا يعرفون من يواجهون. إنهم يواجهون رجالًا لم يعودوا يرون في الحياة قيمةً إن كانت دون كرامة، ولم يعودوا يرون في البندقية عبئًا بل شرفًا، ولم يعودوا يقاتلون من أجل أنفسهم فقط، بل من أجل كل حرٍّ على هذه الأرض.
إن دماء الشهداء التي نزفت في غزة، والتي سالت في جنين ونابلس والضفة وكل شبر من فلسطين، لن تذهب سُدى. إنّ أرواحهم تصرخ في وجه العالم الصامت، وتلعن كل من باع، وكل من سكت، وكل من تخلّى. هؤلاء الشهداء هم الشهود على المرحلة، هم من يكتبون بدمهم صفحة الخلاص، وهم الذين يعلّموننا أن الحياة لا تُقاس بعدد السنين، بل بعزّة الموقف. قال الله تعالى: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”
وليعلم الجميع، أن غزة اليوم ليست وحدها، وأن المقاومة ليست جسدًا معزولًا، بل هي نبضٌ حيٌّ يسري في شرايين الأمة، وأن اليمن، وكل محور المقاومة، من لبنان إلى العراق إلى إيران إلى سوريا وكل الشرفاء في العالم، يقفون كالسد المنيع في وجه مشاريع الهيمنة والإذلال. هذه معركة واحدة، جبهة واحدة، وإن اختلفت الجغرافيا، لأن المعركة هي معركة هوية ووجود، لا مجرد حدود.
فليصمت المطبعون، وليرتجف الخائفون، ولينظر المتآمرون إلى عاقبة خيانتهم، فالتاريخ لا يرحم، والله لا يغفل، والحق لا يموت. نحن مع المقاومة، نحن مع غزة، نحن مع كل من يقف في وجه الطغاة، ولن نتراجع عن هذا الموقف مهما كلفنا، لأننا نؤمن أن هذه المعركة ليست فقط لأجل فلسطين، بل لأجلنا جميعًا، لأجل أن يظل في هذا العالم متّسعٌ للحرية، وكرامةٌ للبشر، وصوتٌ للحق.
وسيبقى سلاح المقاومة مرفوعًا، ما دام هناك محتل، وما دام هناك شهيد ينتظر، وأسير يتألم، وأرض مغتصبة، وحق مهدور.

مقالات مشابهة

  • دعاء الخوف من صوت الصواريخ
  • لا سلاح يُسلّم.. والمُحتلّ لا يؤتمن
  • البابا فرنسيس يشكر الأطباء الذين أنقذوا حياته
  • فليخسأ الذين يزايدون علي موقف الجيش السوداني من الموقف في الفاشر
  • مسؤول يدعو إلى معاقبة الموظفين الذين يتسببون في صدور أحكام ضد الدولة بسبب قراراتهم التعسفية
  • حكم قطع صلة الرحم مع الأقارب الذين يكثرون من الإساءة إلي ولأسرتي؟.. الأزهر يجيب
  • مجلة أمريكية متخصصة بالحرب تنشر أسماء وصور قيادات الحوثيين الذين قتلوا بالغارات الأمريكية الأخيرة (ترجمة خاصة)
  • جلالة السلطان يصل مملكة هولندا
  • من كلّ بستان زهرة -96-
  • جلالة السلطان يغادر البلاد