جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-15@06:36:41 GMT

ماذا أفعل يا عمِّي؟

تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT

ماذا أفعل يا عمِّي؟

 

 

علي بن سالم كفيتان

"ماذا أفعل يا عمِّي؟" قالها لي شاب تجاوز الثلاثين من العمر، في أحد مساجد الضواحي بمدينة صلالة، التي تعودت أن أقرأ فيها وردي اليومي من القرآن؛ بعيدًا عن جامع الحارة بقصد السكينة والبُعد عن روح المُجاملة والأحاديث الجانبية قدر المستطاع، وقد ذهب المصلون الذين قرأوا ما تيسَّر من القرآن، وغابت مُتعلقات المعتكفين المركونة في ردهة جانبية من المسجد.

تبقينا أنا وهذا الشاب في هذا المسجد الصغير الذي أشعر فيه بطمأنينة عجيبة. لم ألتفت إليه ولم يلتفت إليَّ، فكلانا يجلس إلى عمود، ويُناجي ربه من خلال المصحف الشريف. وبعد مرور الساعة تقريبًا، اقترب منِّي على استحياءٍ ومكث غير بعيد، أغلقتُ المصحف والتفتُ إليه؛ فسلَّم بهدوء، وتزاحمت على وجهه الكثير المشاعر؛ فالمجاملة رَسمتْ ابتسامة ناقصة، بينما الهدوء الظاهر حكمته المحاذير، وشعرت بمسحة حزن عميقة في نبرة صوته وتعابير وجهه. دنا مني وجلس على ركبتيه كالمصلي في التشهد الأخير.

علمتُ من هيئته ولهجته أنه ليس من ظفار، رحَّبتُ به بلطف، وأبديتُ بشاشةٍ لعلِّي أمحو بعض الربكة التي بدت عليه، ومن الوهلة الأولى تبادر إلى ذهني أنه سيطلب مبلغًا ماليًا كمساعدة؛ فعمل العقل الباطن مسح سريع لمحتويات المحفظة، وهل فيها ما يمكن تقديمه، والإجابة كانت نعم. وفي هذه اللحظات قال لي: أعتذر عمِّي أخذتك من القرآن، فقلت له: لا بأس عليك، تفضل بُني. صَمَتَ لحوالي دقيقة، ثم حلَّق في السقف، ومن ثم استرسل في الكلام، مُتلعثمًا بعض الشيء، وبمرور الوقت والتحفيز الذي أُبديه عبر تعابير وجهي، صار حديثه أكثر ثباتًا؛ فبدأ الحكاية من قرية عُمانية هادئة في عمق جبال الحجر الأشم؛ حيث نشأ وتعلم، وكيف كان يساعد أسرته أثناء التعليم، ومن ثم رحلة الجامعة، وعناء السكن في إحدى حواضر المحافظات، والتنقُّل من وإلى القرية خلال الإجازات، وكيف كانت الأسرة تقدم له كل ما عندها؛ ابتداءً من ريالات بسيطة يقتطعها أبوه المزارع الذي لم يعمل يومًا في الحكومة ولا القطاع الخاص، إلى قصعة والدته التي تحتفظ فيها بثمن عرقها وكدها من صناعة السعفيات وصف الخرز الملون للبنات، تبيع الواحدة بمئتيْ بيسة، بعد أن تسرح أختي ذات العشر سنوات بالبضاعة على قارعة الطريق وبجوار مدرسة البنات وبين حارات القرية، لتجمع ما جمعت إلى قصعة أمي المباركة. أبي لم يشتر سيارة؛ بل ظل يستلف من الجيران ليوصلوه ويجلبوا له أغراض المنزل، والمزرعة الصغيرة "اللي حيلتنا" كما يقول، وبيتنا قديم، لكنه دافئ بوجود أسرتي المتفانية في البقاء والعيش. أبي يقول للشُيَّاب على دكة المسجد متباهيًا: "لمَّا خميس يشتغل بنشتري سيارة"، وأمي تُخبر جاراتها في جلسة الفوالة الصباحية جنب الطوي بأنها "راح تُعيد بناء البيت لمَّا خميس يتخرج ويشتغل"، مضيفًا: "أخوي سالم باغي سيكل، ونور هاتف". بعدها تساقطت دموع الولد وحدث مشهد تراجيدي لم أكن أتوقعه مُطلقًا، حاولت التخفيف قدر استطاعتي والظهور بالقوة؛ فغالبت دموعي بالذهاب إلى المحراب، وأحضرت له بضع مناديل، كفكف الولد بها دموعه، واعتذر مجددًا، وقلت له لا بأس عليك بُني، أكمِل!               

يقول الشاب: عملتُ في كل وظيفة وجدتها بعد التخرج؛ حمَّال في سوق شعبي، إلى سائق عربات، وبائع متجول مُقابل نسبة، وصرتُ أغيبُ عن أهلي كثيرًا، ولما أعود يسألني أبي: اشتغلت؟، فأقول له: بعد، مقدم هنا وهناك، وبعده ما حالفني الحظ، وأحضر لهم كل بيسة اكتسبتها من عرق جهدي، لكنها تظل ريالات معدودة، لم تكن هي الحلم، وأعود أدراجي في نهاية الأسبوع لأقف على الشوارع العامة، ومنها إلى مسقط؛ فهي حاضرتنا وارتكاز حضارتنا وعصارة مالنا، تبدو لي مدينة كبيرة، وأخاف منها كلما دخلتها، وزاد تلك الرهبة مقابلاتي المتعثرة لأصحاب شركات مُرفَّهين ينظرون إلى شكلي قبل مضموني، وأول وآخر كلمة يقولوها لي: روح قدم في وزارة العمل. هنا كأنك تصفعني، فكم ذهبتُ هناك واصطفيت في الطابور أو انتظارًا للرقم الإلكتروني الناطق، وعندما أصل للموظف، يقول لي بكل برود: "طلبك مُفعَّل وأمورك طيبة، روح الشركات، هما اللي يقدروا يوظفوا، الحكومة خلاص ما عندها وظائف.. بح". يضيف الشاب مسترسلًا: عندها قررت الذهاب بعيدًا إلى ظفار، والاختفاء من حرج وتساؤلات أسرتي علِّي أجدُ رزقًا هنا، أنا لا أريد منك مالًا يا عمِّي، فقط توسمتُ فيك خيرًا بأن تكون وسيط خيرٍ أو داعياً لي بالتوفيق".

هذا المشهد وهذا الانكسار العائلي يحدث اليوم في معظم ربوع عُمان، بعد أن سلَّمت الحكومة مفتاح التشغيل للقطاع الخاص ونفضت يدها تمامًا. وأثناء حديث الشاب، تذكرتُ الأريحية التي كان يُخاطب بها وزير العمل- في إحدى جلسات التواصل الحكومي في رمضان- الباحثين عن عمل قائلًا: "الحكومة لم يعد لها زمام المبادرة في التوظيف؛ الأمر أُوكل للقطاع الخاص". وهنا نسأل: كيف لنا أن نُسلِّم أحلام وطموحات شبابنا لبضع شركات، كل همّها الاستحواذ على المناقصات الحكومية، وديدنها التسريح والنكران. هنا وفي نهاية الحديث قال لي الشاب: "ماذا تريدني أن أعمل يا عمِّي؟".

ارحموا هذا الجيل رحمكم الله.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مصر.. النيابة تُخلي سبيل شاب واقعة ضرب الحيوان والشارع يتعرف على السائحة

ألقت الأجهزة الأمنية المصرية القبض على الشاب المتورط في واقعة الاعتداء على حمار بمنطقة أهرامات الجيزة، بعد انتشار واسع لمقطع فيديو يظهره وهو يضرب الحيوان بعنف بكرباج، قبل أن تحاول سائحة هولندية منعه، مما أثار جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي.

صحفٌ مصرية نقلت عن مصادر أمنية، أن السلطات تمكنت من تحديد هوية الشاب واستجوابه، حيث أقر خلال التحقيقات بأنه اعتدى على الحمار بسبب "عدم استقراره في مكانه"، نافيا في الوقت ذاته أي اعتداء على السيدة الهولندية.

وقد قررت النيابة العامة إخلاء سبيل الطرفين بضمان محل إقامتهما، مع استمرار التحقيق لاتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية.

من السيدة الهولندية؟

تُدعى السيدة التي ظهرت في الفيديو وهي تطارد الشاب وتصرخ في وجهه، جوك فاندربوست، وتبلغ من العمر 36 عاما. كانت قد جاءت إلى مصر في زيارة سياحية، لكن حبها للحضارة المصرية دفعها للاستقرار في منطقة نزلة السمان بعد زواجها من رجل مصري، بحسب صحفٍ محلية.

جوك تُعرف في محيطها المحلي كناشطة في رعاية الحيوان، حيث أسّست مركزا تطوعيا بسيطا لعلاج الحمير والجِمال والخيول مجانا.

وأكد شهود عيان أن جوك تدخلت بعد أن شاهدت الشاب يعتدي على الحمار أمام المارة، ولم تتردد في ملاحقته والاحتجاج على سلوكه، وهو ما وثّقه مقطع الفيديو المنتشر.

إعلان

وقد لاقت تصرفاتها إشادة واسعة من رواد مواقع التواصل الذين اعتبروا أنها "نموذج إنساني مشرف في الدفاع عن الكائنات الضعيفة"، بينما رأى آخرون أن رد فعلها كان عنيفا.

View this post on Instagram

A post shared by Elsaha – الساحة (@elsahaegalhurra)

قضية تتجاوز الواقعة

وقد أعادت الحادثة إلى الواجهة النقاشات الدائرة حول حقوق الحيوان في المواقع السياحية المصرية، خاصة في منطقة الأهرامات التي تستخدم فيها الحيوانات لنقل الزوار.

وتطالب جمعيات حقوق الحيوان في مصر منذ سنوات بتشديد الرقابة على هذه الممارسات، وفرض ضوابط صارمة تضمن عدم استخدام العنف ضد الحيوانات، مع الدعوة لتبني حلول بديلة وصديقة للبيئة مثل العربات الكهربائية داخل المناطق الأثرية.

مقالات مشابهة

  • لافروف: أوروبا تقوم بإسكات من يقول الحقيقة بشأن أوكرانيا والأغلبية تعارض نشر قوات حفظ السلام
  • متحدث الحكومة: توفير التمويل للأعمال الدرامية التي تعزز القيم الأسرية والوطنية
  • مدرب ليفربول يبدأ الاحتفال بـ «البريميرليج»!
  • متقدملي شاب للزواج هل يجوز الجلوس معه على انفراد؟.. دينا أبو الخير تجيب
  • قصة الوادي الصغير 35
  • مصر.. النيابة تُخلي سبيل شاب واقعة ضرب الحيوان والشارع يتعرف على السائحة
  • شاب ينهي حياته شنقًا في البلينا بسوهاج
  • الفراج: النصر يقول للدوري ناويلك على نية
  • تعرف على تاريخ الاحتفال بعيد أحد الشعانين
  • هل يجوز صيام يوم أو اثنين فقط من الأيام البيض.. ماذا يقول الفقهاء؟