فتاوى.. يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT
• ما حكم ذبيحة الطفل؟ وما هو العمر الذي يباح للصبي أن يذكي الأنعام؟
ذبيحة الصبي، على الصحيح، تصح، فكما تصح منه سائر العبادات، كالصلاة التي يؤجر عليها، ويصح منه الصيام وإن كان غير مكلف، فكذلك تصح ذبيحته إذا أتى بالشروط المطلوبة، وهي ذكر الله تبارك وتعالى عند الذبح، فهذا هو القول الصحيح، وليس هناك سن معينة تشترط لكي يباشر الصبي الذبح، فإن كان مستطيعًا قادرًا، ولا ضرر عليه، فلا بأس بذلك، مع ضرورة وجود إشراف من الوالدين أو من الوالد أو من الإخوة الكبار، لأمن الضرر عليه، فإذا أتقن الذكاة الشرعية، وسمى الله تبارك وتعالى وذكى، فذبيحته صحيحة، والله تعالى أعلم.
• تظهر بين الحين والآخر مقاطع لبعض الإخوة في بعض الدول العربية، يلعبون في المساجد، مستدلين بلعب الحبشة، فما رأيكم في ذلك؟
أولًا، لنضع الأمور في نصابها الشرعي، حينما كان الحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان ذلك في يوم عيد، وقد صرح عدد من شراح الحديث أن ذلك كان في صحن المسجد أو في ساحته، وليس داخل الموضع الذي تؤدى فيه الجماعة عادة، وأكدت الروايات أن لعبهم بالحراب كان لأجل التقوي على الجهاد في سبيل الله، وهذا النوع من اللعب هو لعب جاد، أي كأنهم حينما يهوي بعضهم على بعض بحربته، فإنه لا يقصد أذى غيره، ولذلك سمي لعبًا، وليس قتالًا حقيقيًا.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من حكم هذا الأمر إظهار أن في هذا الدين فسحة، كما جاء في بعض الروايات أن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أراد منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دعهم، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة"، فكان هناك مقصد شرعي ابتغاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إظهار سعة الإسلام وسماحته.
كما أن المساجد في ذلك الوقت لم تكن كما هي اليوم، إذ كانت أرضها من الحصى، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يأخذ شيئًا من الحصى من حصباء المسجد، فإذا تحققت هذه الشروط ولم يكن هناك صخب أو تشويش على المصلين، فلا قائل من أهل العلم بالمنع من ذلك.
أما ما يشير إليه السائل من ألعاب ترفيهية داخل المساجد، فهذه قطعًا تتنافى مع قدسية المسجد ورسالته ومكانته بين جماعة المسلمين وإمام الصلاة فيه، فهذه الألعاب أقرب إلى اللهو والعبث، وليست وسيلة للتدريب أو لاكتساب المهارات التي تعين على الخير والدعوة إلى الله أو الجهاد في سبيله، كما أنها مجردة من المقاصد الشرعية التي كانت موجودة في لعب الحبشة، لذلك، يجب أن تنزه بيوت الله عز وجل عن مثل هذه الممارسات، وأن يتوقف الناس عن ذلك، والله تعالى أعلم.
• شخص لم يصلِّ الكثير من الصلوات المفروضة تهاونًا وتكاسلًا لأكثر من خمس سنوات، وهو الآن يجتهد لقضائها، فيقوم بقضاء الصلوات قبل وبعد الصلاة المفروضة، فهل له أن يترك إقامة السنن والرواتب والنوافل حتى يقضي عددًا كبيرًا منها؟
السنن الرواتب غير المؤكدة لا حرج عليه إن شاء الله تعالى إن تركها بقصد قضاء ما فاته من صلوات مفروضة، ولا حرج عليه في ذلك، أما السنن المؤكدة فعليه أن يأتي بها، وليجتهد قدر استطاعته في قضاء ما فاته، حتى يبلغ حد طمأنينة النفس بأنه أدى الذي عليه، ثم يعود بعد ذلك إلى الإتيان بالسنن الراتبة، وبالنوافل قدر استطاعته، والله تعالى أعلم.
• ما صحة حديث "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"؟ وما معناه؟ وكيف يصنع المسلم إذا عرض له سفر ولم يجد من يرافقه؟
هذا الحديث صحيح، وقد ذكره الفقهاء وبيّنوا أحواله وشرحه، وله روايات متقاربة، ولذلك قلتُ إن الحديث صحيح مقبول، أما معناه، فهو النهي عن التفرد في السفر، أي أن يسافر المرء دون أن يكون معه صاحبان على الأقل، وذلك لجملة محاذير أرادت هذه الشريعة الغراء أن تنفيها عن المكلفين رحمةً بهم، كمخاطر الطريق وما يحتاج إليه الإنسان في السفر، فقد يعرض له أمر يحتاج فيه إلى غيره، أو قد يتعرض لمخاطر لا يجد من يعينه عليها، وقد تستبد به الوساوس والأهواء والشهوات، فلا يجد من يذكّره، لذلك عُدَّ ذلك وكأنه من أعمال الشيطان.
وبعض شُرّاح الحديث، ومنهم الخطابي، يقول إن وصف "الراكب شيطان" مأخوذ من معنى الشيطونة أو الشيطنة، وهو البعد والتفرد، وكأن الشيطان يبتعد عن الخير ويتفرد، فلوحظ هذا المعنى في النهي عن سفر الشخص وحده.
إذن، فيما يتعلق بالأمر الأول، فالحديث كما قلتُ مقبول ومحتج به عند أهل الحديث وأهل الفقه، والأمر الثاني معناه باختصار هو ما تقدّم، أما إذا لم يجد المسافر صاحبين، فالحديث قال: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"، ولعله مما يضاف أيضًا ما يحتاج إليه لأجل صلاته، فيصلون جماعة.
والحاصل أن هذه المعاني والاعتبارات كلها داخلة فيما يرشد إليه هذا الحديث النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، لكن الفقهاء نصوا أيضًا على أنه إن لم يجد رفقة، وكان محتاجًا للسفر، فليتوكل على الله وليستعن به، ولا حرج عليه، لما علم من عموم الأدلة الشرعية من التيسير في مثل هذه الأحوال.
ولعل الحال اليوم أيسر بوسائل الاتصال الحديثة، وبما يمكن أن يسهل على الإنسان ما يذهب عنه الحزن والوساوس، وبقدرته على التواصل، وعدم انقطاع العمران ووسائل المساعدة في الطرقات، فالأمر اليوم أسهل، ولكن مع ذلك لا ينبغي للناس أن يتساهلوا، إذ قد تحصل حوادث لا يعلم بها أحد، وكان يمكن لمن يكون معه أن يعينه وينقذه من ذلك الموقف، أما إذا كان منفردًا بنفسه، فتتضاعف الصعوبة وتزداد الخطورة عليه، فليحرص قدر المستطاع، لكن في الأمر سعة كما تقدم، والله تعالى أعلم.
• صلى الإمام بعدما أنهى القيام الثاني والدعاء، قام للوتر وقال "صلاة الوتر"، فقام الناس وصلوا خلفه، ولكن فصل، لم يقل منذ البداية "الشفع، والوتر"، ولكنه صلى الشفع والوتر، السؤال الأول: كيف يتصرف المأموم؟ ثانيًا: هل هذا الفعل صحيح من الإمام أم لا؟
نعم، لا حرج، المأموم في هذه الحالة عليه أن يتابع الإمام، ولا حرج عليه في ذلك، فصلاته للوتر بالكيفية التي يتابع بها الإمام صحيحة، والإمام ينبغي له أن ينبه المأمومين، إن كان معهودًا لديهم أداء الصلاة في ذلك المسجد، أنهم يصلون الوتر ثلاثًا متصلة، فإن كان معهودهم كذلك وأراد أن يصلي بهم ركعتين أو ركعة، فينبغي له أن ينبههم إلى ذلك، لكن لا يبلغ الأمر إلى حد أنه يعني أن يؤثم أو يحرجهم إذا لم ينبههم إلى ذلك، إن كان قد نبههم إلى أنه سيصلي الوتر، فقد صلاها بطريقة صحيحة، ولعله معتاد على ذلك في ذلك المسجد، ولعله نسي، لكن ذلك لا يؤثر، وإن كان ينبغي أن ينبه المأمومين بأي طريقة يراها إلى الكيفية التي سيصلي بها الوتر، والله تعالى أعلم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم إن کان فی ذلک
إقرأ أيضاً:
هاجر.. المهاجرة إلى روح الله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
السيدة هاجر أم العرب والمسلمين والمصريين، والتى جسدت معنى الأمومة فى أجل وأبهى صورها، لا نعرف عنها الكثير، ولم نعرف كيف تكونت بهذه القوة والقدرة والصلابة والجلد؟!
عندما نبحث فى قصتها لا نجد أى شيء عن طفولتها وأسرتها، وذكر على استحياء أنها أميرة مصرية وأُسِرتْ، دون ذكر تفاصيل عن كيفية أسرها ومتى؟! وما نجده يخص حياتها بعد الأسر! والعديد من الادعاءات التى تصفها فقط بأنها جارية!.. ولا نعرف كيف خلقت وتكونت بهذه القوة والقدرة والصلابة والجلد؟!.
تزوجت أمنا هاجر نبى الله إبراهيم بموافقة زوجته سارة، والتى كانت تكن له كثيرًا من المحبة، وكان هذا الزواج حبًا فى زوجها الذى تمنى الإنجاب وهى عجوز عقيم فقدت الأمل فى أن تحقق له أمله..أنجبت أمنا هاجر نبى الله إسماعيل فى أرض فلسطين فى منطقة القدس الشريف، ولكنها هجرت رغمًا عنها، دون أدنى إرادة منها، ولم يكن تهجيرها عقابًا لها على فعلٍ فعلته، ولكنه كان لإنقاذها هى ورضيعها بعد إيذائها من ضرتها السيدة سارة، والتى اشتعلت الغيرة فى قلبها وهى ترى السيدة هاجر تدلل رضيعها، وسعادة رزقها بهذا الرضيع الذى حلم به! فغضبت منها وتوعدتها بالإيذاء وهددتها بأخذ جزء من أعضاء جسدها! ويقال أن سيدنا إبراهيم فكر فى حيلة ترضي زوجته سارة ولا تسبب لأمنا هاجر ضررًا شديدًا، عسى يطفىء ذلك نيران الغيرة التى اشتعلت فى قلبها، فقال لزوجته سارة أن تعاقبها بثقب أذنيها، حتى تهدأ من غيرتها وتحقق جزءًا من تهديدها وعرفها أن ذلك نظير تخليها عن إيذاء هاجر فيما بعد !!
وأصبحت أمنا هاجر بعد ثقب أذنيها الرمز والعلامة المميزة للأنوثة! وأعتقد أنها استغلت ثقب أذنيها وجعلت منه فرصة للتزين بالحلى، فهى حفيدة الملكات، وتعرف كيف تتزين بالحليات، وأغلب الظن أن تناقلت الأجيال ثقب أذن البنات، للتزين بالحلقان دون أن يعرفن أنه موروث من أمنا هاجر الأميرة الأسيرة الجميلة، وأصبح هذا الثقب لإرتداء الأقراط الذهبية، للتزين والتجمل!.
ومن كثرة تعرض أمنا هاجر للإيذاء خشي أبو الأنبياء عليها وعلى ولده إسماعيل، لذلك اشتكى سيدنا إبراهيم إلى الله من زوجته المدللة سارة، ومما تفعله فى أم ولده إسماعيل، فأمره سبحانه وتعالى أن يهجرها إلى الأرض المقدسة..هجرت هاجر رغمًا عنها، وأثناء الطريق كلما مر نبى الله على مكان فيه زرع وماء وبشر، تمنى أن تكون تلك هى الأرض المقدسة، ولكن بعد الوصول إلى المكان الذى أراده الله، وجده مهجورًا!.. أنزلها زوجها فى هذه الأرض، وقبل أن يغادرها سألته: الله أمرك بذلك؟! قال: نعم، قالت: فلن يضيعنا أبدا!.
وجدت المكان موحشًا تملأه الوحدة والظلام، لا زاد ولا ماء ولا أنيس ولا جليس غير رضيعها الذى يهزم السكون بصوت بكائه الضعيف، فيؤنس وحدتها ويقوى إرادتها أن تتمسك بالحياة، وأن تبقى من أجله، فهى الحضن والحصن والأمن والأمان، ولكن أين تجد هى الأمان؟!
بحثت عنه بعقلها، ولم تجده فى هذا الخواء الذى لا ينتهى، فبحثت عنه بروحها، فعرفت الطريق الذى يحول الضيق إلى إتساع، والوحدة إلى الونس والإتناس اللا نهائى! وإلى تشبع وشبع لا يعرف الجوع، والقوة التى تهزم الضعف والإنهزام!
عرفت روحها الطاهرة الطريق الذى أتت منه، والذى نتغافل ونشغل أنفسنا عن التواصل معه، والتوحد به والسير فى طريقه ورحابه، أوصلت روحها بالروح الأم!! روح الله الواحد الأحد الصمد، الأنيس والونيس والجليس الذى لا يغفل ولا ينام ولا يقفل أبوابه فى وجه إنسان.
هامت روحها فى روح الله، فلم تجد للظلام ظلمة، ولا للهيب الشمس حرارة، ولا لزمهرير الشتاء أدنى برودة، ولا لصوت الرياح وزئيرها ما يخيف! من يخاف أو يتألم وهو فى الحصن الحصين؟! وهو هائم فى روح الله يحدثه ويسمعه وينزل على قلبه الرضا وعلى نفسه السكينة؟!
عرفت أمنا هاجر طريق الأمان بالإيمان، وعرفت القوة التى تغتال ضعفها، ووجدت اليد الحانية العطوفة التى تهدهدها كما تهدهد هى رضيعها!
ليتنا نعرف ماذا كانت تناجى به الله وكيف أحبت الله بما يليق بجلاله وجماله وبهائه وقوته وسلطانه؟ وكيف وصلت بهذا الحب أن تسأل الله فيجيب؟.
أعطاها الله أكثر مما تحلم..هاجر التى هجرت رغمًا عنها، دائما نعرفها بأنها أم نبى الله إسماعيل أو زوجة سيدنا إبراهيم أو جارية سارة أو أسيرة الملك الجبار سنان! كل ذلك لا يعرفنا من هى!
هاجر بنت مصر، بنت النيل، بنت هذا الوادي الخصيب الذى كثيرًا ما يمرض ولكنه أبدًا لا يموت! والذى يضعف فتتضاعف قوته، ويهب كمارد يحطم أغلاله ويفنى أعداءه.. هي بنت مصر وقطعة منها، وتحمل صفاتها، هى بنت مصر التاريخ القديم والحضارة الممتدة التى لا تنتهى، والتى تجلب لها حقد الحاقدين وحسد الحاسدين وعيون اللئام المتربصين.
هاجر التى هجرت رغمًا عنها، هى بنت النيل بجماله الساحر للعيون والآخذ للقلوب، الواهب للسعادة والنماء والجمال، الممتد إمتداد الزمن بحلوه ومره! هاجر كطمى نيلنا المعظم، سمرة كسماره معطاءه كعطائه، فيها النماء والارتواء مثله.
هى رحم للأمان والسكون وسحر العيون، وكأنها جمعت مباهج الدنيا فى عينيها الممتلأتين بالحب والسكينة.. والتساؤل: كيف أصبحت روحانية نورانية معجزة إلهية؟! ولماذا لم يلتفت إليها وإلى قصتها الكثيرون، عمدًا وليس جهلًا؟!.. هل التجاهل لأنها قصة تفوق الخيال؟!.. هل تجاهلها الرواة لأنها مصرية؟!.. هل تجاهلها المفكرون لأنها إمرأة؟!.. هل تجاهلها المؤرخون لأنها أم أبو العرب نبى الله إسماعيل وجد سيدنا محمد ﷺ خير خلق الله وخاتم الأنبياء والمرسلين؟!
لماذا تجاهلتم هاجر؟.. هاجر المعجزة التى جعلها الله آية لمن يعقلون، للحالمين والبائسين واليائسين والمحرمين والمعذبين فى الأرض !!
هى آية ومعجزة لم نكلف أنفسنا بالبحث عنها والتحقق من قصتها والتعلم من قوتها وإرادتها! لم نعطها جزءًا من حقها علينا، فتجاهلها الجاهلون!
هاجر التى هجرت إلى الأرض المهجورة، الخاوية من دبة قدم إنسان من قرون وقرون، لتصبح بقدوم أمنا هاجر أكثر بقاع الأرض ازدحاما وبركة وأمانًا..هاجر التى سعت بين الجبلين "الصفا والمروة" حتى فجرت الأرض ماءها الموصول بمياه الجنة، فعمرت الأرض القاحلة وصنعت بأناملها الدفء والجمال..
هاجر التى هجرت رغمًا عنها، عاشت الوحدة والظلام حتى أنارت تلك الأرض المقدسة المهجورة بالخير والنماء وباركتها وتباركت بها ونالت من بركتها حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها، وأصبحت فى رحاب بيت الله الذى نتعبد حوله وتهفو أرواحنا لزيارته وننعم ببركته وضيائه وبهائه ونحن نجهل أو نتجاهل أننا بجانب رحاب الله بجوار أمنا هاجر وولدها نبى الله إسماعيل، فقد كرمها الله وعوضها عن السنين العجاف بالبقاء بجوار بيته وفى حماه من قدومها إلى يوم القيامة !!
يا الله على عطائك وكرمك ومحبتك ورعايتك لمن يحبك ويتقرب لك ويصل إلى الحقيقة المتغافل عنها أنك أنت وحدك الغاية والأمل والرجاء..لو عاشت هاجر كل حياتها تحلم وتتمنى لما اختارت كما اختار الله لها، وما وصلت للتكريم الذى منحه الله لها..إنه التكريم المعجز الذى نتغافل عنه!.
هاجر التى هجرت رغمًا عنها، عندما نتحدث عنها، يشغلنا الحديث عن وحدتها هى ورضيعها، عن الجوع والظمأ والشتاء وصقيعه ولهيب الشمس وحرقتها والرياح وزئيرها الممتد من الأرض إلى السماء، عن الوحدة والخلاء! ولم نفكر كيف انتصرت على كل ما سبق!
كل ذلك انتصرت عليه بإرادة الروح الحرة المتحررة من قيود بنى آدم وظلمهم، إلى براح الاختلاء بالخالق!.. كانت الدنيا الخاوية من البشر بين يديها خلوة خاصة مع حبيبها وخالقها تناجيه وتحادثه وتسمعه، وتشعر بيديه الكريمة الحانية تحميها وتقويها، وتغذى إرادتها فى حب البقاء، وأصبحت فى خلوتها فى عين الله الذى لا يغفل ولا ينام، ارتمت فى حصن الأمان الدائم الذى لا أمان إلا بإرادته وعونه!
أثق أنها لم تشعر بالوحدة والخوف أو الحاجة رغم أن الدنيا حرمتها من فتات الحاجة! فمن يسلم وجهه لله، ويرضيه عطاء الله، يعرف معنى الأمان والسكينة وصفاء النفس..
هاجر كما أحبت الله أحبها وكما رضيت أرضاها، وكما عمرت الأرض أصبحت جزءًا من هذا العمار إلى أبد الآبدين..هاجر هجرت رغمًا عنها، لأرض موحشة فحولتها إلى جنة الله على الأرض، وهاجرت بإرادتها راضية مرضية إلى الاتساع اللا نهائى.
هاجرت بكامل إرادتها إلى الله وتاجرت مع الله فربحت تجارتها، هذه الأميرة الجميلة الأسيرة بنت مصر وشبيهتها، الصابرة الراضية المؤمنة الطائعة، لم تفكر أو تبحث عن سلطة وسلاطين أو جاه أو مال، لكنها الباحثة عن الحقيقة المجردة ووصلت إليها وتنعمت بها، يا الله على حبك لمن تحب!
عندما انتقلت روحها الطاهرة إلى بارئها دفنت بجوار الكعبة بيت الله الحرام.. وهذا التكريم لم ينله أحد سواها هى وابنها المكرم ببنوته لها ولأبيه أبو الأنبياء، وكما غزلت روحها بروح الله وسبحت فى بحور عطائه، كتب لها أن تظل فى رحاب بيت الله وأن تدفن فى الحجر فى مكة المكرمة!
هاجر التى عاشت الوحدة والظلم والظلام وفقدت الونس والمؤانسة، دفنت فى مكان لا يخل لحظة من الأنوار المبهرة ودبيب أقدام زائريه المتلهفون رحمة الله وغفرانه، تؤنس روحها أصوات الدعاء ومناجاة الله التي لا تنقطع لحظة!
ونعم التكريم الذى كرمت به أمنا هاجر.. نعم تكريم المرأة.. ونعم تكريم المصرية.. ونعم تكريم الأم!.
هذا هو التكريم الحقيقي الذى يجب أن نفخر ونتفاخر به لو تعلمون!