الملاحظ أن الأنبياء والمرسلين منهم الرعاة، ومهنة الرعي تكسب الإنسان مهارات قلّما يجدها في المهن الأخرى، فهي مقترنة بالعنت والمشقة والحكمة والصبر والأناة، لذلك كانت الطريق الممهدة للنبوة وسياسة الناس وإدارة بني آدم، فالحيوان والإنسان صنوان، ويقال أن البياطرة هم الأعمق معرفة بمكنونات الأحياء، لأنهم يتعاملون مع أبكم، والوسيلة الوحيدة للتواصل بينهم وبين هذا الأبكم هي الجمل الحسّية والإشارات الشعورية، فيدركون ما يجيش بخاطر هذا الكائن غير الناطق، ومن ثم يكتمل التواصل، وفي حياة أهل البادية تجد الموروث الرعوي محفوظ منذ قرون، وفي استمرار واتصال بين الأجيال عبر هذه القرون، وهذا الموروث متمسك به إلى يومنا هذا رغم ما علق بالناس من غبار السنين، فالبداوة واحدة، من أمريكا الشمالية واللاتينية حتى غرب آسيا وشرقها وجنوبها، والطبيعة أساسها، والبدوي الرعوي أول ما يعي الدنيا يجد نفسه أمام تحدي مقاومة الطبيعة، فمأكله ومشربه ومسكنه تحدده مقدراته وتجاربه وخبراته في التعايش مع أشواك الغابة وزمهرير الصحراء، وما يصقل خبراته التراكمية احتكاكه الخشن مع (الحيوان غير الأليف)، الذي يهدد وجوده ووجود ممتلكاته التي من بينها (الحيوان الأليف)، وسمعنا عن أجدادنا الذين عاشوا هذه الحياة الرعوية القاسية، كيف خاطروا بحياتهم من اجل حماية القطيع "المراح"، ولكم سمعت جدتي عليها شآبيب الرحمة، وهي تروي مغامرات جدي اثناء "المسار"، وكيف اجتهد في تربية الخيول الأصيلة بإطعامها التمر وسقيها الحليب، واعتماده عليها وأبناءه في حماية "السعيّة"، هذا مع امتلاكه السلاح – "أبو خمسة".
مع بزوغ فجر ثورة الخامس عشر من أبريل سنة 2023 ميلادية، المسنودة بسواعد الرعاة، الذين استغلتهم الحكومات المركزية المتعاقبة في سلك الجندية ابشع استغلال، والذين هم أهل للفروسية وامتطاء صهوات الخيول وضرب "البندق"، بحكم البيئة المشجعة على شحذ الهمم وبث روح الشهامة والنخوة ونجدة الملهوف، لفتت قوة شكيمتهم انتباه علماء الاجتماع والسياسة والعلوم العسكرية، والتي ميّزتهم كجنود منحدرين من الحزامين الرعويين الصحراوي – رعاة الإبل، والسافانا – رعاة الأبقار، وأخذت النظرية الناقدة للعقل الرعوي مساراً مفاهيمياً غير مقنعاً لمن ألقوا السمع وهم شهود على الحاضر المشهود، وبحكم ارتباطنا الاجتماعي بهذه البيئة الرعوية، نعي محدداتها وخصائصها أكثر من الذين ترعرعوا في البيئات الحضرية، فنشأة طفل "الفريق" تختلف كلياً عن تطور حياة رصفاءه بالمدن والحواضر – نيالا وأم درمان وكوستي وسنار، فالبيئة الرعوية تضع الطفل ذا الخمس سنين على دروب الفروسية واستشعار دوره المنوط به كحامي للحمى، منذ هذه البضع سنوات من عمره، ومن حينها يطرق مسامعه همساً وجهراً الصوت القادم من الجدات والعمات وبنات الخؤولة والعمومة (صبيان البنات) – فرسان الحوبة، بعكس الذين في سنه من صبيان الحضر المتمرغين في أحضان الطفولتين الباكرة والمتأخرة إلى حين دخولهم العقد الثالث، الذي من بعده يشرع الواحد منهم في مواجهة الحياة بقسوتها المؤجلة، وقتها يكون الشاب الرعوي قد تزوج ورزق الذرية وقاد حياة مسؤولة وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
كثير من الرعاة تجدهم الأقرب لامتهان التجارة لتجوالهم بين البلدان والاقاليم، ولأنهم يرعون السلعة الرأسمالية التي لو قدر لهم ولها ان يكونوا في كنف دولة المؤسسات، لرفدوا الاقتصاد الوطني بمورد أفاد مؤشر الميزان التجاري ايجاباً. إنّ لدينا صلات أرحام (رعوية) لم تنل حظاً من التعليم النظامي، لكنها صارت ايقونات للتجارة العابرة للقارات – الصين وشرق آسيا، وقيادات عسكرية، وفي إطار الصراعات بين الرعاة والمزارعين الذين يمكن وصفهم بأنهم نصف حضريين، وصف المراقبون والمتخصصون في فض النزاعات هؤلاء الرعاة، بأنهم الأكثر تسامحاً في التعاطي مع الأطروحات وحلول المشكلات من رصفاءهم المزارعين، لأن الراعي تفرض عليه مصالحه الرعوية حتمية التعايش مع البيئات المتنوعة، والناس المختلفين، الذين يتعاطى معهم عبر رحلاته وتنقلاته الباحثة عن الكلأ والماء والنار، وحينما يصيب المخاض بقرته – ماعزته – ناقته، يرعاها ومولودها الحديث إلى أن يعود مساء "للدور" ويربطها على "الربق" أو يعقلها، هذا غير المسؤولية الأخلاقية الواقعة على عاتقه في الدفاع عن القطيع "المراح"، حينما يقع الهجوم من قطاع الطرق والمفترسات، فضلاً عن دوره النبيل وصبره الجميل مع المريضة المتوعكة، في منتصف ظهيرة الشمس الحارقة من أيام "السرحة" اثناء مشوار العودة للفريق، وبحكم عمل والدي في حقل الطب البيطري لمست الروح الإنسانية العالية التي يتسم بها كل من يتعامل مع الحيوان، وأن الارتباط الحميم بين الانسان والحيوان يفوق الرابطة الإنسانية.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الرجال الذين يغفلون إجراء فحص البروستاتا تتزايد احتمالات وفاتهم بالسرطان
أظهرت دراسة أجريت على مدار 20 عاما في 7 دول أوروبية أن الرجال الذين يغفلون إجراء فحص البروستاتا تتزايد احتمالات وفاتهم بالسرطان.
وكشفت الدراسة التي استندت إلى بيانات مبادرة الفحص العشوائي لسرطان البروستاتا وعرضت خلال مؤتمر الجمعية الأوروبية لطب المسالك البولية في مدريد أن الامتناع عن إجراء فحص البروستاتا يزيد مخاطر الوفاة بسبب السرطان بنسبة تصل إلى 45%.
ويذكر أن سرطان البروستاتا هو أكثر أنواع السرطان شيوعا بين الرجال في 112 دولة حول العالم، ومن المتوقع أن تزيد معدلات الإصابة بهذا المرض بواقع الضعف بحلول عام .2040 ومن الممكن اكتشاف الإصابة بهذا المرض من خلال قياس مستوى أحد المستضدات الخاصة بالبروستاتا في الدم ويعرف باسم "بي إس إيه"، مما يزيد فرص الاكتشاف المبكر والشفاء، ويقلل الحاجة إلى التدخلات الجراحية الحرجة في الحالات المتأخرة من المرض.
ومن بين أكثر من 72 ألف رجل شملتهم الدراسة، تبين أن نحو 12 ألفا منهم لا يخضعون لفحص البروستاتا بما يمثل واحدا من كل 6 رجال، مما يزيد فرص وفاتهم جراء سرطان البروستاتا بنسبة 45% مقارنة بمن يحرصون على إجراء هذه الفحوص.
وذكر رئيس فريق الدراسة رينيه لينان من معهد أبحاث السرطان التابع لجامعة إيراسموس الهولندية أن الرجال الذين يغفلون فحوصات البروستاتا ربما يكونون من نوعية الأشخاص الذين لا يهتمون بالعناية الصحية، بمعنى أنهم لا ينخرطون على الأرجح في أي سلوكيات صحية ويتجنبون إجراءات الرعاية الوقائية بشكل عام.
إعلانويقول الطبيب توبياس نوردستروم مختص المسالك البولية في مركز كارولينسكا البحثي في السويد إن هذه الدراسة تؤكد أن فحوص البروستاتا هي أكثر أهمية مما كان يعتقد من قبل، مضيفا في تصريحات نقلها الموقع الإلكتروني "سايتيك ديلي" المتخصص في الأبحاث العلمية: "لابد أن نفهم لماذا يختار البعض إغفال إجراء هذه الفحوصات وتحديد مدى تأثير ذلك على تفاقم حالتهم المرضية عندما يتم تشخيص إصابتهم بالسرطان".