في عالم ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الثابتة وتنسف الرؤى التقليدية للمعرفة، يصبح التحرش ليس مجرد فعل مادي يحدث في الشارع أو مكان عام، بل هو أيضًا بنية معرفية تخلق التفرقة بين “الذات” و”الآخر”. هو ثمرة لحقب تاريخية حملت في طياتها اختلالات فكرية جعلت من الجسد الأنثوي ساحة للصراع الرمزي، بين ما هو مقدس وما هو مدنس، وبين ما يُقبل وما يُرفض.

فالتوترات بين الجنسين ليست مجرد صراع بيولوجي، بل هي صراع ثقافي مرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها على مدار الزمن.

من خلال هذه الفكرة، يظهر الجسد الأنثوي ليس ككيان ذاتي يُعبّر عن حرية الفرد، بل كفضاء يُخضع لسلطة ثقافية، حيث يُنظر إليه كجسم للاستهلاك، التسلية، أو حتى كأداة للسيطرة. وعليه، يصبح التحرش بكل أشكاله ليس فقط سلوكًا فرديًا أو تصريحًا كلاميًا، بل هو أسلوب لتأكيد الوجود في نظام اجتماعي يدافع عن امتيازات طبقية وذكورية قديمة، حتى وإن تغيرت أشكالها. هذا السلوك يعكس ضرورة وجود الآخر ليظل المُهيمن في مكانه، وبالتالي فإن التحرش يصبح أداة لصيانة الهياكل الاجتماعية التي تقوم على الهيمنة الذكورية، وهو ما يعزز من استمرار هذه الأنماط القمعية.

العقل الذي يعرض هذه الظاهرة يتأثر بعوامل عديدة، منها البناء الاجتماعي والتاريخي، حيث يتم تجسيد الهويات من خلال الرموز والممارسات اليومية. أما في نظر علماء النفس، مثل سيغموند فرويد، فإن التحرش يعبر عن نزاع داخلي في النفس البشرية بين رغبات مكبوتة وأعراف اجتماعية تضغط على الفرد لكي لا يعبّر عن هذه الرغبات بشكل علني. هنا، يصبح التحرش ليس فقط فعلًا ضارًا للجسد الأنثوي، بل هو أيضًا علامة على خلل أعمق في البنية النفسية للمعتدي، وهو ما قد يعكس اضطرابًا في العلاقة مع الهوية الشخصية والسلطة. هذا الجانب النفسي يرتبط بتصورات الفرد حول الجسد والسلطة، حيث إن الشخص الذي يمارس التحرش قد يكون في الواقع يعبر عن هشاشة داخله وتوتره النفسي الذي يترجم إلى محاولة الهيمنة على الآخرين، بما في ذلك الجسد الأنثوي الذي يُعتبر رمزيًا جسد السلطة وموضوع السيطرة.

عندما ننظر إلى هذه الظاهرة من منظور كل من لويس ألتوسير وميشيل فوكو، يمكننا أن نرى أن التحرش هو جزء من عملية “التشكيل الأيديولوجي” للمجتمع. في هذا السياق، يرى فوكو أن السلطة لا تقتصر على المؤسسات القمعية فقط، بل هي موجودة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، بما في ذلك الطريقة التي ننظر بها إلى الآخر وكيف نحدد مساحات الجسد والمكان. فالجسد الأنثوي في هذا السياق هو ساحة للصراع بين الأيديولوجيات التي تستمر في تهميش وتقييد النساء، مما يخلق ديناميكيات قمعية تظل محورية في الثقافة المعاصرة.

التفسير الفوكوي لهذه العلاقة بين الجسد والسلطة يُظهِر كيف أن التحرش ليس مجرد حالة فردية للعدوان، بل هو نتاج لبنية اجتماعية أوسع، حيث يتداخل الذكاء الاجتماعي مع الذكورية السامة التي تُعيد إنتاج نفسها من خلال الإعلام، التربية، والعلاقات الاجتماعية اليومية. التحرش، في هذه الحالة، لا يُفهم فقط باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل جزءًا من دائرة السيطرة التي تُمثلها هذه البنى الثقافية المستمرة.
هذا التفسير يكشف عن كيفية تجذر التحرش في بنية مجتمعية تشجع على تبني النماذج التقليدية للجنس والسلطة، والتي تُصر على تعزيز الذكورية السامة عبر أطر تربوية وتعليمية تجعل من الجسد الأنثوي هدفًا للتسلط والهيمنة الرمزية.

وبينما نجد أنفسنا في عالم مليء بالتغيرات السريعة والتحولات الفكرية التي تعيد تشكيل هوياتنا، يجب أن نتساءل: كيف يمكن فهم التحرش في ظل هذه الفوضى المعرفية؟ هل يمكننا حقًا وضع إطار ثابت لفهمه؟
في عالم ما بعد الحداثة، تصبح الإجابة على هذه الأسئلة متشابكة، حيث لا توجد إجابة واحدة، بل تعدد للحقائق. إن التحرش، بما هو كائن ثقافي واجتماعي، يمكن أن يظهر في صورة أشكال متعددة: من الاعتداء اللفظي في الشوارع إلى تصرفات سلوكية في الأماكن العامة، وكل ذلك يشكل شبكة من الأفعال التي تُعيد تأكيد الأدوار التقليدية. هذه الأشكال المتعددة لا تنفي أنها مرتبطة ببنية فكرية وثقافية معقدة، تستمر في إنتاج آليات القوة التي تحدد “المكان” و”الحق” في التعبير عن الذات، وتؤكد على الهيمنة الذكورية في المجتمع.

ومن هذا المنظور، لا يُمكن أن يكون التحرش مجرد فعل فردي، بل هو تجسيد لثقافة من التسلط تتجذر في الفكر الاجتماعي والنفسي للأفراد. هذا التسلسل من الأفعال يحمل في طياته تناقضات معمارية في المجتمع الذي لا يزال يراهن على الهويات الثابتة للذكورة والأنوثة، ويستمر في تكرار أنماط القمع الرمزية والجسدية. يُصبح التحرش إذاً ليس مجرد حالة من الفوضى الجنسية، بل هو عملية منتجة لقوى اجتماعية وثقافية تعمل على استمرارية الهيمنة وتثبيت الفوارق بين الجنسين. كما أن هذا التكرار للممارسات القمعية لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى المؤسسات والأنظمة التي تعزز هذه الفوارق وتعزز من منطق “الآخرية” لدى النساء، مما يعيد إنتاج السياسات الاجتماعية التي تساهم في تفشي التحرش على المستوى المجتمعي.

وعليه، فإن التقليل من أهمية هذه الظاهرة أو محاولة تقليصها إلى مجرد “أفعال فردية” هو تهرب من المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها المؤسسات الثقافية والنفسية في إعادة تشكيل هذه الهويات. لا يمكن أن تكون الحلول للقضاء على التحرش محدودة بالقوانين التي تُعاقب الفعل فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء ثقافة كاملة تُعيد التفكير في مسألة الجسد، السلطة، والهوية. لذلك، يجب أن تكون المعالجة أكثر شمولًا بحيث تتضمن تغييرًا بنيويًا في طريقة فهمنا للجسد والعلاقات بين الجنسين. وهذا يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، التي تستطيع إعادة تشكيل الفكر الجماعي تجاه الجنس والسلطة.

هذه الثورة الثقافية والمعرفية، إن تمت، ستكون مدخلًا للتحرر الحقيقي من التسلط، وسيبدأ المجتمع في فهم التحرش ليس فقط كحالة تضر بالنساء، بل كجزء من جرح أعمق في بنية السلطة الاجتماعية التي تستمر في تكريس هيمنة الذكور على الفضاءات العامة والخاصة.

إن التحليل العميق للتحرش باعتباره بنية ثقافية واجتماعية يُبرز ضرورة مواجهة هذه الظاهرة من جذورها، وليس فقط معالجة أفعالها الظاهرة. فالتصدي للتحرش يتطلب أكثر من مجرد تطبيق قوانين ردعية، بل يستدعي تغييرًا ثقافيًا حقيقيًا يعيد تشكيل فهمنا للجسد والسلطة. علينا أن نعيد التفكير في طريقة تربية الأجيال القادمة، في كيفية بناء هوياتهم الجنسانية والاجتماعية بعيدًا عن الأنماط التقليدية التي تساهم في تعزيز الهيمنة الذكورية.

فإذا كانت السلطة المجتمعية قد عملت على تكريس هذه الهياكل القمعية على مدار عقود، فإن الطريق إلى التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل التغيير في بنية الفكر الاجتماعي والنفسي. الثورة الثقافية والمعرفية التي نتحدث عنها ليست مجرد رفاهية فكرية، بل هي شرط أساسي لإرساء مجتمع أكثر عدلاً، حيث يُحترم الجسد البشري، ويُعاد تحديد العلاقات بين الأفراد وفقًا لقيم الحرية والمساواة.

عندها فقط، ستتمكن الأجيال القادمة من العيش في بيئة لا تحكمها قوة هيمنة أو ثقافة قمعية، بل بيئة تشجع على احترام الآخر وتقديره بعيدًا عن التصنيفات الجندرية الجامدة.

إبراهيم برسي

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الاجتماعیة التی هذه الظاهرة لیس فقط التی ت الذی ی

إقرأ أيضاً:

تعز بين تضحيات الأبطال وفشل السلطة !

كتب / إبراهيم الجبري:

نفذ #الشباب خلال الأيام الماضية زيارات للابطال المرابطين في جبهات عديدة من جبهات الدفاع عن الجمهورية في محافظة تعز، وجدنا الأبطال يصطفون من شرق المدينة إلى غربها حاملين أرواحهم على أكفهم في سبيل الله والوطن، تحاورهم فتجد في أرواحهم من الصلابة ما يُشعرك بالفخر والاعتزاز وبعظمة التضحيات والصمود وقرب النصر.

كانت زيارة الأبطال تمنحنا الأمل وتجدد طاقتنا، تشعر معهم أنك أمام جيش لا ينكسر، لكن وأنت في طريق العودة تكون المفارقة المؤسفة.. ففي طريق العودة سترى حال المدينة البائس وتشعر بالأسى، وكيف يتم خذلان التضحيات العظيمة ونضالات الأبطال المستمرة، خذلان تصنعه قيادات في السلطة لا تتقن إلا الفشل.

لا وجه للمقارنة بالتأكيد بين عظمة الأبطال في الجبهات مقبل مجموعة من الفاشلين يديرون المحافظة بفشل وفساد مستمرين منذ ستة سنوات، دون تحقيق أي شيء يمكن من خلاله تقبّل بقائهم في قيادة السلطة.

قدمت تعز أكثر مما قدمته كل المحافظات الأخرى، نزفت، وحاصرتها المليشيات الحوثية ولا زالت، توزع ابناء المحافظة على مختلف الجبهات دفاع عن اليمن، فكان الثمن هو ابقاء هذه السلطة المثخنة بالفساد الذي وصل حدا لا يمكن السكوت عنه أكثر، فالمدينة التي تذود عن الوطن، وتنشد الدولة والجمهورية يقتلها غياب الخدمات، وفشل السلطات وفساد المسؤولين. لذلك فهي حتى الآن مدينة بلا خدمات عامة، لا مياه ولا كهرباء ولا صحة ولا مؤسسات محترمة.

في قطاع المياه أهدر ما يزيد عن 21 مليون دولار خلال السنوات الماضية دون تحقيق أي أثر فعلي، والمدينة لا زالت بدون مياه..!!، الأمر ذاته في قطاع الكهرباء حيث تم تقديم العديد من المقترحات الجادة والعملية من قبل مانحين ومستثمرين لإعادة الكهرباء العامة، وتحسين خدماتها للناس بأسعار مناسبة تخفف الاعباء عن كاهل السكان وتحسن الخدمات العامة وتنعش الاقتصاد المحلي، بيد ان هذا كله تجاهلته السلطة المحلية لأغراض لا يمكن فهمها إلا على حقيقتها كحالة فساد.

لم يقتصر فشل السلطة في تعز على ملفي المياه والكهرباء فقط، بل امتد للقطاعات الأخرى، وحال المدينة وسكانها شاهد أثبات، ولا يمكن لذي عقل تجاهله أو تبريره.

الأمر الأكثر غرابة هو أن السلطة ذاتها استلمت مبالغ أخرى كبيرة كمخصصات مالية شهرية قدمت من قائد المقاومة الوطنية وعضو مجلس القيادة الرئاسي العميد طارق صالح، دون أن يكون لها أثر يذكر. الأمر الذي يطرح علامة استفهام حول طبيعة هذه المبالغ الشهرية التي كانت تصرف من الساحل، فهل هي مبالغ شخصية أم صرفت لتطبيع الأوضاع في المحافظة؟!

وفي حال تم صرفها لتطبيع الأوضاع بالفعل فينبغي معرفة في أي بنود تم صرف تلك المبالغ على الأقل الساحل يكون على معرفة ، والتي تتراوح بين 300 إلى 500 الف ريال سعودي شهريًا؟ وأين ذهبت تلك المبالغ طالما لا يوجد أي تحسن في الخدمات العامة؟!

فخامة الأخ رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، لقد خرج أبناء تعز واصطفوا جميعًا لاستقبالك والهتاف باسمك، كبارهم قبل صغارهم، ورأوا فيك أملًا بالخلاص من هذا الحال البائس وتحسين أوضاعهم، لكن خيبة الأمل هي كل ما بقي لهم اليوم وهم يعيشون هذه الأوضاع، ونار غضبهم التي ترونها اليوم بعيدة ستكبر وتصلكم في حال لم يتم معالجة أوضاعهم، فهم أبناء محافظتك يا سيادة الرئيس وقبل ذلك فجميعهم قدم تضحيات لا تقدر بثمن في سبيل الجمهورية واستعادة مؤسسات الدولة.

أما الأحزاب السياسية في المحافظة فلن نقول إلا أن الله ابتلانا بمجموعة من الأحزاب الانتهازية، التي لا يهمها وضع الناس ولا تعبر إلا عن مصالح ورغبات قياداتها، والسعي خلف المحاصصة واصطياد المكاسب الذاتية دون أدنى شعور بحجم المأساة التي تسبب بها فشل ممثليهم في السلطة المحلية وفسادهم الذي بات يزكم الأنوف.

إن تعز لا تزايد على الجمهورية بما قدمته من تضحيات، وإن أبنائها من أكثر الناس تضحية دون منّ، لكن واقع الحال مأساوي، ودون معالجة الوضع فإن صبر الناس لن يدوم، وسكوتهم لن يستمر فالمسؤولية اليوم مضاعفة واستحقاقات الناس لا تقبل التأجيل.

مقالات مشابهة

  • أيدلوجية الصدمة
  • الوالي:مشهد المرأة التي تصفع “القايد” في الشارع لم يكن مجرد حادث عابر، بل أصبح ظاهرة يتكرر
  • مسلسل «لام شمسية» اقتحم القضية.. أعراض وأسباب التحرش بالأطفال
  • بعد تفجير دراما "لام شمسية" للقضية.. البيدوفيليا اضطراب نفسي.. عدم شعور الطفل بالأمان أبرز مظاهره.. ودراسة أسترالية: الحالات في ازدياد منذ الثمانينات
  • لطائف رمضان
  • بدء محاكمة النجم جيرار ديبارديو في باريس بتهم التحرش الجنسي
  • تعز بين تضحيات الأبطال وفشل السلطة !
  • مصر: السُلطوية ونفي المواطنة عن الجسد السياسي (2)
  • عن ظاهرة التحرش.. وزارة الأوقاف: الصمت عنها يشجع المخطئ واللبس مش مبرر