جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-14@21:40:07 GMT

ملح الطعام

تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT

ملح الطعام

 

 

وداد الإسطنبولي

قد نعيش الطفولة ببعض الحنان، وقد نسكن بيتاً عتيقاً رغم ما أنهكه الزمن، وقد يهتز جسدنا لبرودة قارسة تسللت إليه، وتتعمق التجاعيد معلنة عمر السنين. ذاكرتي ممتلئة بثقل الأفكار، ولا تزال هناك أفكار كامنة تنتظر البوح.

أصبحت المسافات طويلة، طويلة جدًا بيني وبين تلك الملامح التي تتراءى لي في زوايا المكان والزمان، في غياهب الخيالات، بصدى الصوت الذي يتردد، بالحركات، بالقصص التي انتهى سردها.

كل شيء له طعم، إلا أنا... ملح طعامي لا أتذوقه، فقد مات.

أنتِ تجهلين مشاعري الآن، لكنها كما تركتها منذ أن كنت أسبح في حوضك الدائري. عشقتُ رائحتك من يومها، كنتُ ناقصًا، واكتملت حياتي بوجودك منذ أن وعيت.

أين أجد مثيلك؟ كل ما ملأتِني به سقيته لأولادي، ليعم الخير لهم، ولكي أراكِ في فلذات أكبادي. ليذكروكِ، لتترطب ألسنتهم وعقولهم بك.

هل تصدقين؟ أصغر أبنائي، الخامس في الترتيب، يذكر سيرتك وكأنكِ حملتِه يومًا بين ذراعيكِ، رغم أنكِ رحلتِ وأنا بحوزتي الطفل الثاني. كم كنتُ محظوظًا بوجودكِ معي في ذلك الوقت...

ليت السطور تتحمل كاهل البوح، والعيب فيَّ، فما أملكه من مشاعر ثقيلة عيَّ البوح عن ترجمتها. لا أريد أن أنزف ألم الفقد، فعيناي أرض جافة، سئمت نزول الغيث... لأنكِ متصلة بي دائمًا، وجودكِ هنا، في أعماق الجوف.

تصدقين؟ ما زلتُ أحتفظ بحقيبة يدكِ الصغيرة، خضراء اللون، وقد تهالك جلدها وتناثر في صندوق الذكريات. لا تزال الجيوب الصغيرة بداخلها تحمل أرقام ملفاتك الطبية في المستشفى والمستوصف والعيادات الخاصة.

محمد، أخي، الذي قلتِ يومًا: "لن أرى أبناءه." وصدقتِ... لكنه جمع صور أبنائه ودمجهم مع صورتكِ، وفرح الأحفاد بقربهم منكِ، ولو صورةً.

وكبرت نورة، وعمل الصغير من أبنائك، وكلٌّ منا انتقل إلى بيته الخاص، وتزوج الأبناء، وجاء الأحفاد. مرت السنين والأعوام، ولم تتغير تلك الأحاسيس، بل ازدادت عمقًا، إلا أنها تحولت إلى روح على ورق، وقلم يدون، لا يعبث باتجاه هذه النفس، بل تذوب الحروف من أجل وصل مكانة هذه الروح.

كم كنتُ أتمتع بشايكِ الأحمر الصافي، وبخبزكِ الذي كان يشوي جلدكِ الرقيق وأنتِ تنكسين رأسكِ على فوهة التنور كلما اشتهينا خبزًا من يديكِ الكريمتين.

مهما كتبت، لن أوفي حقكِ، يا أمي... أقدم لكِ اعتذاري، وأنا على يقين أنكِ تسمعينني وتشعرين بي.

هنا، بين السطور، تساقطت الأبجديات جميعها تمجيدًا لكِ، ولكن ما جدوى ذلك؟ وملح طعامي لا أتذوقه...

اللهم ارحم أمي وأمهات المسلمين جميعًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الموتى أيضا يضحكون

بقلم : هادي جلو مرعي ..

تمر الشعوب بتجارب مرة واحدة منها تجربة الجوع، أو الحرمان من الطعام بمايكفي للطمأنينة. في سنوات مرت حوصر العراق بقسوة، كانت الأمور معقدة، وكان مايصل البلاد من مواد غذائية محدودا بفعل العقوبات والحرب، وكانت تلك المواد شحيحة وغالية، وقد لاتتوفر، وربما نسيناها، وفي مرة دعاني وصديق هاجر لاحقا الى كندا وبقي هناك صديق لنا كان يملك محلا تجاريا ليشتري لنا موزتين كأنها مزتين كما يطلق المصريون على المرأة المربربة والمليانة بمايكفي لملء العين، مع بقاء الرغبة الجامحة مع الحرمان، وأتذكر أن سعر الواحدة كان دينارا وربع الدينار من محل فواكه في منطقة الكسرة، وكان راتب بعض الموظفين ثلاثة آلاف دينار، ولم أعد استوعب فكرة كيف تجاوزنا تلك السنين، ثم علمت إن الموز في بعض بلدان الكاريبي التي زرتها يتكدس لكثرته ويفسد.
عرفت بعض الأصدقاء الذين كانوا يتلصصون في بعض الأحياء السكنية لمعرفة من الميت الجديد، فهناك مراسيم دفن، ورحلة الى المقبرة البعيدة، وتكريم لمرافقي الجنازة من المشيعين، ونوع الطعام الذي سيقدم لهم في طريق العودة، وكان معتادا وجود مطاعم تقدم وجبة كباب ليست إستثنائية، مع وفرة من مادة السماق الحامض التي تزيد من لذة الكباب، وبعض أرغفة الخبز الحار، ثم مراسيم تلقي العزاء، وهنا يختلف الطعام. فلم يعد الكباب مقبولا لأن عادة الناس تناوله في المطاعم، ويتم تقديم وجبات على الغداء والعشاء تتكون من الرز والمرق الأصفر الذي تضاف إليه مطيبات، والثريد وعادة مايتم وضع لحم الخروف عليه، وتكون رائحته شهية، ويغري المعزين بالبقاء سواء كانوا أغرابا، أو من المقربين.
صديق وأصدقاء كانوا يظهرون الحزن والفجيعة كذبا، ويسيلون دموعهم ليضللوا ذوي الراحل، ثم يصرون على مرافقة الجنازة حتى المثوى الأخير، وعادة لاتربطهم صلة بالراحل العزيز، وكان جل تفكيرهم تناول وجبة الكباب في طريق العودة، حيث يجلسون في أحد المطاعم، ويقدم لهم الكباب لتزداد كمية الحزن لديهم، ثم يشعر ذوي الراحل بالفخر والزهو إنهم لم يقصروا مع المرافقين قبل عودتهم، وعند الوصول الى الحي السكني يجدون سرادق العزاء نصبت، والعشاء مجهزا كما ينبغي. بالطبع كان الصديق وهو يظهر الحزن الشديد حريصا على تناول الكباب، وعدم ترك شيء منه على المائدة، ومعه الخبز، والبصل والطماطم المشوية والخضار، فيشعر الجميع إن الحزن قد ترسخ كما ينبغي، وتكون حالة الرضا كاملة.
في ظهيرة اليوم التالي يصر الصديق على الحضور مبكرا، ومعه مجموعة من الأصدقاء، فيشاركون ذوي الميت العزاء، ويجلسون ليشربوا الشاي، ويتحدثون في مواضيع شتى، ثم يدخنون السجائر المجانية، ويتجهزون لتناول الطعام، ويتفقون على التضامن معا للوقوف على طاولة واحدة يحيطونها من جهاتها الأربع، ويتسابقون على تناول الطعام، والحرص على عدم إبقاء شيء منه، في هذا الأثناء يكون الميت قد أنهى الليلة الأولى من التحقيق الذي خضع له من قبل الملائكة، وعندما يتحول الى عالم الإنتظار في البرزخ تنتابه نوبة من الضحك، وهو يرى مايفعله هولاء حيث يتناولون طعامهم، ويبتكرون حيلا جديدة للمشاركة في العزاء، وإظهار الحزن والتأثر، فكأن الميت يموت من الضحك وهو يتابع تلك المشاهد التي تختلط فيها الكوميديا بالتراجيديا..

هادي جلومرعي

مقالات مشابهة

  • “منشآت” تطلق برنامج دعم رواد الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة بمنطقة الباحة
  • تفاصيل جديدة حول حادث تحطم الطائرة الصغيرة في نيويورك
  • افتتاح حاضنة أعمال هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
  • الموتى أيضا يضحكون
  • طيار يوضح أسباب تعرض الطائرات الصغيرة للحوادث بشكل أكبر مقارنةً بالكبيرة.. فيديو
  • تزامنا مع "أورانيم الصغيرة".. جيش إسرائيل يدق ناقوس الخطر
  • هذه الصغيرة تحكي بدموع الحزن والفجيعة رحلة الخروج من زمزم
  • اقتصادية النواب: تعزيز دور المشروعات الصغيرة لمواجهة التحديات الاقتصادية ضرورة
  • سعر أسطوانة الغاز المنزلي اليوم الأحد 13 أبريل.. «الأنبوبة الصغيرة بكام»
  • GoDaddy  تطلق "Show in Bio" لدعم الشركات الصغيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي