وداد الإسطنبولي
قد نعيش الطفولة ببعض الحنان، وقد نسكن بيتاً عتيقاً رغم ما أنهكه الزمن، وقد يهتز جسدنا لبرودة قارسة تسللت إليه، وتتعمق التجاعيد معلنة عمر السنين. ذاكرتي ممتلئة بثقل الأفكار، ولا تزال هناك أفكار كامنة تنتظر البوح.
أصبحت المسافات طويلة، طويلة جدًا بيني وبين تلك الملامح التي تتراءى لي في زوايا المكان والزمان، في غياهب الخيالات، بصدى الصوت الذي يتردد، بالحركات، بالقصص التي انتهى سردها.
أنتِ تجهلين مشاعري الآن، لكنها كما تركتها منذ أن كنت أسبح في حوضك الدائري. عشقتُ رائحتك من يومها، كنتُ ناقصًا، واكتملت حياتي بوجودك منذ أن وعيت.
أين أجد مثيلك؟ كل ما ملأتِني به سقيته لأولادي، ليعم الخير لهم، ولكي أراكِ في فلذات أكبادي. ليذكروكِ، لتترطب ألسنتهم وعقولهم بك.
هل تصدقين؟ أصغر أبنائي، الخامس في الترتيب، يذكر سيرتك وكأنكِ حملتِه يومًا بين ذراعيكِ، رغم أنكِ رحلتِ وأنا بحوزتي الطفل الثاني. كم كنتُ محظوظًا بوجودكِ معي في ذلك الوقت...
ليت السطور تتحمل كاهل البوح، والعيب فيَّ، فما أملكه من مشاعر ثقيلة عيَّ البوح عن ترجمتها. لا أريد أن أنزف ألم الفقد، فعيناي أرض جافة، سئمت نزول الغيث... لأنكِ متصلة بي دائمًا، وجودكِ هنا، في أعماق الجوف.
تصدقين؟ ما زلتُ أحتفظ بحقيبة يدكِ الصغيرة، خضراء اللون، وقد تهالك جلدها وتناثر في صندوق الذكريات. لا تزال الجيوب الصغيرة بداخلها تحمل أرقام ملفاتك الطبية في المستشفى والمستوصف والعيادات الخاصة.
محمد، أخي، الذي قلتِ يومًا: "لن أرى أبناءه." وصدقتِ... لكنه جمع صور أبنائه ودمجهم مع صورتكِ، وفرح الأحفاد بقربهم منكِ، ولو صورةً.
وكبرت نورة، وعمل الصغير من أبنائك، وكلٌّ منا انتقل إلى بيته الخاص، وتزوج الأبناء، وجاء الأحفاد. مرت السنين والأعوام، ولم تتغير تلك الأحاسيس، بل ازدادت عمقًا، إلا أنها تحولت إلى روح على ورق، وقلم يدون، لا يعبث باتجاه هذه النفس، بل تذوب الحروف من أجل وصل مكانة هذه الروح.
كم كنتُ أتمتع بشايكِ الأحمر الصافي، وبخبزكِ الذي كان يشوي جلدكِ الرقيق وأنتِ تنكسين رأسكِ على فوهة التنور كلما اشتهينا خبزًا من يديكِ الكريمتين.
مهما كتبت، لن أوفي حقكِ، يا أمي... أقدم لكِ اعتذاري، وأنا على يقين أنكِ تسمعينني وتشعرين بي.
هنا، بين السطور، تساقطت الأبجديات جميعها تمجيدًا لكِ، ولكن ما جدوى ذلك؟ وملح طعامي لا أتذوقه...
اللهم ارحم أمي وأمهات المسلمين جميعًا.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عمليات بغداد: عمال سوريون يخططون لتسميم الطعام في المطاعم - عاجل
بغداد اليوم -
برقية متداولة لعمليات بغداد: مجموعة من العمال السوريين يخططون لتسميم الطعام في المطاعم وإرباك الأمن