فن الإدارة في الإسلام.. نموذج فريد للتنظيم والقيادة
تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT
عبدالعزيز بن حمدان الإسماعيلي **
a.azizhh@hotmail.com
تُعد الإدارة عنصرًا أساسيًا في نجاح أي مؤسسة أو مجتمع، وقد قدم الإسلام نموذجًا إداريًا متكاملًا يستند إلى مبادئ العدل والشورى والمسؤولية والأمانة، وقد انعكست هذه المبادئ بوضوح في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، مما أسهم في بناء دولة إسلامية قوية ومستدامة.
الإدارة في الإسلام ليست مجرد عملية تنظيمية، بل هي منظومة متكاملة تهدف إلى تحقيق التنمية والاستقرار وفق مبادئ أخلاقية تعزز من العدالة والشفافية، فمبدأ الشورى يشكل جوهر الإدارة الإسلامية؛ حيث يعتمد القائد على التشاور مع أهل الرأي والخبرة قبل اتخاذ أي قرار مصيري، مما يضمن اتخاذ قرارات سليمة تحقق الصالح العام، كما أن العدل يعد ركنًا أساسيًا إذ يجب على القائد التعامل مع الأفراد بإنصاف بعيدًا عن المحسوبية والتمييز، مما يضمن الاستقرار وخلق بيئة عمل صحية.
المسؤولية والمحاسبة هما من الدعائم التي تقوم عليها الإدارة في الإسلام، إذ يُحمّل القادة مسؤولية أعمالهم ويخضعون للمحاسبة أمام الله وأمام الأمة، مما يؤدي الى توطيد روح النزاهة والالتزام، وإلى جانب ذلك تشكل الأمانة في القيادة عنصرًا أساسيًا، حيث يجب على المسؤولين أداء أدوارهم بصدق وإخلاص، متجنبين أي ممارسات قد تضر بالمصلحة العامة، أما التخطيط والتنظيم الفعّال فيُعد ركنًا جوهريًا لضمان استغلال الموارد بشكل أمثل وتحقيق الأهداف بكفاءة عالية.
ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قائدًا إداريًا بارعًا، استطاع بناء دولة قوية رغم التحديات التي واجهته، فقد اعتمد في إدارته على الشورى فلم يكن يتخذ القرارات بشكل فردي بل كان يشاور أصحابه لضمان أفضل الخيارات الممكنة، أما على الصعيد المالي فقد وضع نظامًا دقيقًا للموارد المالية مثل الزكاة والغنائم، وخصصها لتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب، فكان يعين القادة والمسؤولين بناءً على الكفاءة والنزاهة، مما عزز كفاءة المؤسسات الإدارية في الدولة.
ولم يقتصر نجاح النبي صلى الله عليه وسلم الإداري على الشؤون الداخلية، بل امتد ليشمل العلاقات الخارجية فقد برع في التفاوض وإبرام المعاهدات، مثل صلح الحديبية الذي شكّل نموذجًا بارعًا في الدبلوماسية وإدارة الأزمات، كما أنه وضع نظامًا دقيقًا للرقابة والمحاسبة، حيث كان يحاسب المسؤولين ويعفي من يقصر في أداء مهامه، مما وطد الانضباط الإداري والعدالة في تولي المناصب.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واصل الخلفاء الراشدون نهجه الإداري، كلٌ بأسلوبه الذي يعكس احتياجات عصره، فقد واجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه تحديات كبيرة، أبرزها حروب الردة التي تعامل معها بحزم؛ مما أسهم في الحفاظ على وحدة الأمة، كما حرص على ترسيخ الاستقرار المالي، وأدار الموارد بفعالية لضمان استدامة الدولة، إلى جانب بدئه للفتوحات الإسلامية في العراق والشام؛ مما عزَّز نفوذ الدولة الإسلامية.
أما عُمر بن الخطاب فقد أحدث نقلة نوعية في الإدارة الإسلامية، حيث أنشأ الدواوين، مثل ديوان الجند وديوان الخراج، لتنظيم شؤون الدولة المالية والعسكرية، كما وضع نظامًا دقيقًا لمراقبة أداء الولاة والموظفين، لضمان النزاهة وتحقيق العدالة، ولم يقتصر إبداعه الإداري على ذلك؛ بل امتد إلى التخطيط العمراني، فأسس مُدنًا جديدة مثل الكوفة والبصرة مما أدى الى ارساء الاستقرار والتنمية وكان حريصًا على وضع تشريعات جديدة لحماية حقوق المواطنين وتنظيم الأسواق.
وعندما تولى عثمان بن عفان الخلافة ركز على التوسع العمراني، فعمل على توسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين، كما ساهم في تطوير الأسواق وتنظيم التجارة مما أسهم في ازدهار الاقتصاد لكن إنجازه الأبرز كان توحيد المصحف الشريف، حيث جمع الأمة الإسلامية على مصحف واحد، مما ضمن وحدة المرجعية الدينية وساهم في الحفاظ على النص القرآني.
أما علي بن أبي طالب- كرَّم الله وجهه- فقد ركز على الإصلاح الإداري؛ حيث عمل على تعيين الأكفاء في المناصب الإدارية ومحاربة المحسوبيات كما حرص على تحقيق العدالة الاجتماعية، فاتخذ إجراءات لضمان توزيع عادل للثروات والموارد بين المسلمين وعلى الصعيد العسكري واجه تحديات داخلية كبيرة حيث خاض معارك للحفاظ على استقرار الدولة الإسلامية وحماية وحدتها.
نجد اليوم ان المبادئ الإدارية الإسلامية لا تزال صالحة للتطبيق في المؤسسات الحديثة؛ حيث يمكن دمجها مع أحدث المفاهيم الإدارية لضمان تحقيق الأهداف بكفاءة، مع الحفاظ على القيم الأخلاقية وتظل الحوكمة الرشيدة والتخطيط الاستراتيجي وإدارة الأداء من أهم الأسس التي يمكن توظيفها لتطوير المؤسسات وفق مبادئ الإدارة الإسلامية.
ويُثبت التاريخ أنَّ الإدارة الإسلامية نموذج فريد يجمع بين الكفاءة والعدالة، ويظل هذا النهج صالحًا للتطبيق في مختلف العصور وعندما يُدار أي نظام وفق المبادئ الإسلامية، فإنه يُحقق النجاح والاستدامة، مما يجعل الإدارة الإسلامية نموذجًا يُحتذى به عالميًا.
** باحث دكتوراه في الإدارة العامة
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رجل من طراز فريد
نعي الناعي الأربعاء الماضي سعادة الفريق الفاتح عروة وهو من أفضل الرجال الذين مروا علي السودان .
تخرج ضابطا في الكلية الحربية وعمل في سلاح المدفعية ثم درس الطيران لاحقاً.
تولي منصب مسؤول القرن الأفريقي في قسم الأمن الخارجي الذي ترأسه العميد عثمان السيد بجهاز الأمن في عهد النميري .
شغل وظيفة القنصل في السفارة السودانية بروسيا وعمل ملحقا أمنيا في أديس أبابا ومندوب السودان الدائم في الأمم المتحدة ووزير الدولة للدفاع في عهد الإنقاذ ثم العضو المنتدب لشركة زين للإتصالات .
كأنما كان يسير علي خطي والده اللواء محمد أحمد عروة عضو المجلس العسكري ووزير الداخلية في عهد الفريق إبراهيم عبود في تطوره العسكري والسياسي .
كون الثلاثة إدارة فريدة للأمن الخارجي لمايو ، هو والعميد عثمان السيد مدير القسم والسفير في إثيوبيا من بعد والعقيد جعغر حسن صالح وزير التجارة في عهد النميري وأول سفير في إريتريا عند استقلالها بعد نهاية حكم الدكتاتور منقستو في إثيوبيا .
تولى الثلاثي وأنجزوا عملا كبيرا في القرن الأفريقي وهم الذين قاموا علي التغيير في إثيوبيا إذ كان نظام الرئيس منغستو معاديا بشراسة للسودان وداعما لحركة قرنق .
كان رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي يقود قواته وحركته من بريطانيا وعندما تولت مجموعتهم الحكم وكان إسمها (الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا) حضر الرئيس زيناوي وحط في الخرطوم وهو في طريقه لبلاده .
تزامن وصوله الخرطوم مع إنعقاد مؤتمر للقمة الأفريقية في السنغال وأراد الرئيس زيناوي السفر من الخرطوم إلي عاصمة السنغال داكار لحضور المؤتمر .
نصح الرئيس عمر البشير زيناوي ألا يذهب للمؤتمر وهو لم يطأ ارض عاصمته بعد .
علي متن طائرة صغيرة من طراز السيسنا قادها العميد الفاتح عروة سافر زيناوي رفقة وزير خارجيته من بعد سيوم مسفن .
لم تكن العاصمة أديس أبابا قد تأمنت بعد والطيار المغامر عروة يهبط بها في مطار العاصمة التي لم يتوقف رصاصها بعد .
عرفت الفريق الفاتح عروة وإلتقيت به مرات قليلة ولكني عايشت أثره كثيرا .
كانت له سيرة عطرة في أديس وسط الاثيوبيين حكومة وشعبا وأيضا وسط الجالية السودانية وذلك بمساعداته وخدماته لها ولتواصله الحميم وحضوره الإجتماعي الكبير وسط الجالية .
للفاتح ذكريات ومواقف وملاحظات قيمة خلال مسيرته الغنية خاصة وان العمل الإستخباري غني بالوقائع المثيرة .
حكي لي أن مسؤول السودان في الأمن الروسي كان يتحدث اللهجة السودانية وكأنه مولود في قرية بالجزيرة رغم أنه لم يزر السودان مطلقا .
من الصفات الكريمة والخصال الحميدة للفاتح عروة الوفاء لكل من يعمل معه ويتولي شأنهم في إخاء وأبوة وقد قام بتعيين ثلاثة من أفضل الضباط الذين عملوا معه في في الأمن في صحيفة أبن عمه الرجل الفاضل محجوب عروة (السوداني) وكانت من أكبر الصحف اليومية في عهد حكومة الصادق المهدي التي أعقبت الحكومة الإنتقالية للفريق سوار الدهب .
توليت إدارة التحرير في الصحيفة فرأينا أن نستفيد بأكبر قدر من الضباط المميزين للفاتح فانشأنا لهم قسما للدراسات وقياس الرأي العام .
عهد ذاك إنتشرت الأقاويل ونشرت بعض الصحف عن تحركات لإنقلاب علي حكومة الصادق المهدي .
أعد قسم الدراسات إستبيانا كان سؤاله المحوري (هل تتوقع إنقلابا علي الحكومة ؟)
كانت النتيجة توقعات تفوق التسعين بالمإئة بإنقلاب يطيح بالحكومة .
أغضب ذلك السيد رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي وظن أن الإستبيان عمل مقصود وتمهيد للإنقلاب فتم إعتقال رئيس التحرير محجوب عروة وأطلق سراحه في 29 من يونيو 1989
من معتقله حضر محجوب عروة للصحيفة وطلب مني أن نصدر عدداً ذاك اليوم الذي كان عطلة الصحيفة الإسبوعية، بمناسبة إطلاق سراح رئيس التحرير ورأيت أن الوقت تأخر ولا نستطيع أن نوزع العدد الذي سيصدر حتما صباح اليوم التالي .
كان اليوم التالي هو يوم أن وقعت الواقعة وكان ذلك سبباً ليظن مححوب أنني كنت علي علم بالإنقلاب ولم أخبره كان ظنه بسبب علاقة أسرية تربطني بالسيد الرئيس عمر البشير .
كنت أداعبه بأني حفظت الصحيفة من خسارة كبيرة لأن الصحيفة ما كان لها أن توزع والكباري مغلقة .
من أفضال الفريق الفاتح عروة وفي واقعة شخصية أني كنت علي وشك شراء عربة فأخبرني محجوب بأن الفاتح له عربة قابعة بالمنزل ويمكن أن يبيعها وكانت سيارة داتسون كبيرة بماكينة بوكس تويوتا وتلك ميزات مقدرة للسيارات آنذاك .
عرض علي الرجل الكريم الفاتح سعره وعرضت له ما يقل عنه بمقدار الربع فلم يتردد ووافق وأضاف أن العربة تحتاج بطارية فقط وألا أدفع قيمتها إلا بعد أن أستخدمها لفترة أطمئن فيها لسلامتها ولم يسأل عن ماله حتي بعت سيارتي القديمة وسددت له .
الفاتح عروة رجل متعدد المواهب والمهن جم التواضع علي تدين لا يشعر به من حوله .
وكان من الرجال الذين هم كما قال الشاعر عنهم .
من الرجال المصابيح الذين هموا
كأنهم من نجوم حية صنعوا
أخلاقهم نورهم من أي ناحية أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا .
راشد عبد الرحيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب