كُنا صغارًا وكلما مررنا ببوابة القصر الجمهوري الشمالية قبالة شارع النيل صرخنا من خلال نافذة السيارة “حرس”. فيضرب ديدبانا القصر بأرجلهم على الأرض، ونشعرُ بالمرحِ الطفولي البهيج حين نسمعُ صوتَ ارتطام بنادقهم بالأرضية. ثم في ثوانٍ معدودةٍ يُعيد الديدبانان وضعيتهما الساكنة المُهيبة؛ النظر المستقيم المُعتدل، الرأس على وضعٍ متحجّر، الجسد المُتصلّب الممْشُوق، الهامة العنفوانية التي يرتسم على قسماتِ وجهها الصرامة، البندقية الطويلة المُبتعدةُ بعض الشئ عن ساقيهما بينما ملتصقة قاعدتها الخشبية على الأرض وفوهتها إلى الأعلى.

.

كانت -كذلك- أزياء الديدبانان مما يثير الغرابة المُستلذّة في نفوسنا؛ القلنسوة البيضاء التي يعلوها الريش البني أو الرمادي، البدلة البيضاء المطرّزة بالأوسمة والنياشين مع وشاح باللون الأصفر المُذهّب..

كان القصر الجمهوري يحتلُّ مساحةً كبرى من المهابة في نفوسنا، ونمتلئُ بجلالِ الدولة حين نخرجُ لشوارع الخرطوم صبيحة الأول من يناير من كل عام لنرى الأعلام النظيفة ترفرفُ في صباح الخرطوم الشتوي ذي النسمات الباردة الجافة. لاحقًا بالطبع انحطت الدولة، ولزم من ذلك أنْ تنحطّ مظاهرها الحاملة لقيمها المعنوية والرمزية، فمررنا كبارًا بالقصر لنجد الديدبانان تفصلنا عنهما مساحةً شاسعة؛ وبتنا بالكاد نرى الديدبانان. وكلما مررت ونظرت من خلال الأسوار وجدت جنود الد.عم السريع قد نصبوا على فناء القصر وحديقته خيامهم وحبل غسيلٍ علقوا عليه سراويلهم. بل امتدت النكاية وسخرية القدر ليلتقط أحد الجنجويد -خلال الحرب- صورة له وهو يطأُ بلاطه بحوافرِ حصانه إمعانًا في الإساءة والاحتقار.. وكانت الاساءة الكبرى بالطبع باحتلال الأوباش له لما يُقارب العامين! بيد أنّه -ومهما يكن من أمر- لا إساءةً سُددت للضمير الوطني أكثر إيلامًا من أنْ دخله -على حين غرة من بؤس الزمان- الفكي والتعايشي وحجر وإدريس.. بصفةٍ سياديةٍ رفيعة! في تمظهرٍ غير مسبوق لدولةٍ مُتحلّلة في العراء، باتت تُطلق العفونة.. بينما تتغذى عليها الديدان، وبنت على جسدها البكتريا والكائنات المجهرية مستعمراتها!

لكن التدابير الإلهية قضت خيرًا؛ قضت أنْ يكون إسترداد الأحرار للقصر الجمهوري على نحوٍ ملحمي؛ لتكون جدرانه البيضاء العالية قد تركّبت بتضحياتٍ غالية، وبطريقٍ فُرش بالجماجم، ومُهِر بالدماء. ويكون عشيّة استرداده تُشير عندها ساعة الزمن لتاريخٍ مُفارق تنحني عنده الهامات إجلالًا وتوقيرًا.. وما بين رصاصةٍ وروحٍ مُحلّقة وأرضٍ حرة.. تُولد الأمجاد.
البيت لنا و #القصر_لنا
محمد أحمد عبد السلام
محمد أحمد عبد السلام

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

بيت المرهوبي.. النظر المحرّم من نافذة القصر!

وجهتُنا هذه المرة إلى بيت أو قصر «المرهوبي»، وهو بيت بناه السلطان برغش بن سعيد بن سلطان ما بين عامي 1881 و1882، قبل أن يشرع فـي بناء «بيت العجائب». أخذَنا المرشد السياحي إلى جنبات وباحات البيت شارحًا لنا كلَّ جزء منه. وفـي شرحه كانت هناك إشادة كبيرة بإنجازات السلطان برغش، سواء فـي البيت أو فـي زنجبار عمومًا، وممّا ذكره أنّ هذا البيت محاطٌ بأشجار الأمبا؛ الفاكهة التي أدخلها السلطان برغش إلى الشرق الإفريقي كله، بعد أن أتى بها من الهند، وأنه (أي السلطان) نقل إلى زنجبار التطور الذي شاهده فـي الهند وفـي أسفاره.

وفـي ظنّي أنّ المرشد -حاله مثل كثيرين فـي كلِّ الأماكن فـي زنجبار- خفّف من لهجة العداء ضد العُمانيين التي يَصُمُّون بها آذان الزوار خاصةً من الأوروبيين الذين يُسعدهم سماعه بطبيعة الحال، والذكاءُ السياحي التجاري البحت قد يقتضي هذا بعيدًا عن المسلمات الأخلاقية بالطبع، ثم إنّ المرشد عرف من زيِّنا أننا عُمانيون وأننا لن نقبل أيَّ إساءة، فضلًا عن أنّ إساءة كهذه لو برزت فستؤثر سلبًا على عمله وعلى الحركة السياحية التي يعتمد عليها اقتصاد الجزيرة، وهو يعلم أنّ عدد الزوار العُمانيين ليس قليلًا الآن. ويبدو أنّ الرجل يفهم قواعد عمله كما ينبغي، وهو ما حدث فعلًا عندما بدأ حديثه بوصف المرهوبي أنه أول عُماني يصل إلى هذه المنطقة للمتاجرة بالعبيد، فلما صحّح له سيف المعلومة بأنّ المرهوبي تاجرٌ يبيع كلَّ شيء وليس العبيد، قال: «إنّ هذا ما يقوله الإنجليز، فأين ما تقولونه أنتم؟!»، وقد سبق أن أشرتُ إلى هذا الموقف فـي مقال سابق. سردتُ حكاية هذا المرشد للباحث محمد بن عبدالله الرحبي المتخصص فـي تاريخ «أفرابيا» (تاريخ غرب المحيط الهندي «شرق إفريقيا» زنجبار)، فكان تعليقه أنه «يجب على حكومة زنجبار أن تتخذ تدابير مهمة تخصّ هؤلاء المرشدين السياحيين، من خلال تعليمهم وتدريبهم، للحدّ من هذه الحملات التدليسية التي يتربحون بها؛ ذلك أنّ الأكاذيب حين تكون مدرّة للمال فمن الصعب التخلّي عنها دون قانون صارم أو تدابير حاسمة. والمؤسف أنّ هؤلاء المرشدين دأبوا على إسماع السياح، خاصة الغربيين منهم، ما يودون سماعه فقط، من خلال اختلاق أعداء وهميين -هم فـي هذه الحالة العرب والهنود الذين ولدوا فـي زنجبار- وتجاهلهم ذكر الغربيين وتورطهم فـي تجارة العبودية».

ومن تدليس ذلك المرشد -مثلًا- زعْمُه أنّ السلطان برغش كان يقضي يومين فـي الأسبوع فـي هذا البيت الذي خصّصه لجواريه، وأنه «كان غيورًا جدًا، لدرجة أنه عند مغادرته القصر يحقن خدمه بأدوية تقتل فـيهم الذكورة!»، وهذا الزعم ذكّرني بما كتبه الكاتب محمود صقر فـي موقع «رابطة العلماء السوريين» تحت عنوان «زنجبار باقي الحكاية»: «ما إن خرجتُ من سوق العبيد أحمل غصة اتهام العرب وحدهم بتجارة العبيد، حتى ذهبتُ لزيارة أطلال قصر السلطان برغش بن سعيد المعروف بقصر المرهوبي، تجوّل بي المرشد السياحي بين أطلاله، وهو يشير إلى حالة الشبق العربي المتجسد فـي سلوك السلطان الذي كان ينظر من نافذة القصر لاصطياد من تقع عليها عينه من النساء، بخلاف عشرات المحظيات المجلوبات من خارج زنجبار. يعني خرجنا من سوق العبيد بتهمة للعرب وحدهم فـي الاتجار بالعبيد، ومن قصر المرهوبي باستباحة نساء الجزيرة»! وأنا أستمع إلى مرشدنا السياحي كنتُ أحدّث نفسي أنه من غير المُستبعد أن يكون هو نفسه الذي يتحدّث عنه محمود صقر فـي مقاله. يضيف محمود صقر: «بثثتُ شكواي لأحد الأصدقاء العرب المقيمين منذ زمن مع أسرته فـي زنجبار، فأضاف لي أنّ ما يدرسه أبناؤه فـي الكتب المدرسية لا يبعد كثيرًا عما اشتكيتُ له منه»، وهذه فـي الواقع كارثة كبيرة، فليس هذا ما ينتظره العُمانيون من حكومة زنجبار. وبما أنّ العلاقات جيدة الآن بين الطرفـين، وهناك مساعداتٌ كثيرة تُقدّم لحكومة زنجبار من الحكومة العُمانية ومن القوى الناعمة الأخرى داخل الجزيرة ومن الجمعيات الخيرية، فقد حان الوقت لتصحيح الوضع، وهو وضعٌ ليس فـي تصحيحه أيّ صعوبة، ولا يحتاج إلى أكثر من تحرّك دبلوماسي رسمي.

وربما يتساءل البعض عن هذا المرهوبي صاحب الأرض التي بُني عليها قصر السلطان وسُمِّي باسمه. وفـي الواقع لم تُمِطْ المصادر التاريخية اللثام عن هذه الشخصية، غير أنّ المؤكد أنه كان أحد أفراد عائلة لها نفوذ مالي فـي تلك الفترة. ومما يروى أنّ السلطان برغش استولى على أرض هذا الرجل لخلاف بينهما وأقام عليها قصره هذا، مع احتفاظه بالاسم نفسه «بيت المرهوبي» أو «قصر المرهوبي». وفـي ظنّي أنّ هذه الحكاية تحمل بذرة كذبها فـي داخلها، فلماذا يختار السلطان لقصره اسم شخص هو على خلاف معه؟! الأرجح عندي أن يكون المرهوبي نفسه هو من أهدى السلطانَ قطعة الأرض هذه فقرر السلطان تسمية القصر باسمه تكريمًا له وعرفانًا بعطائه.

يقع القصر شمال المدينة الحجرية، وهو محاطٌ بحائط مستوحى من جدران المتنزهات بإنجلترا، وتوجد به أحواض مائية كبيرة مليئة بزهور الزنبق، وبه أيضًا العديد من الممرات المائية والعديد من الحمامات الموصلة بالمياه العذبة من عين تسمى Chemchem. وتأتي المياه من بُعد أربعة كيلومترات، وكانت سلالم القصر من الرخام الأبيض والأسود المؤدية إلى شرفة كبيرة مدعومة على أعمدة حجرية وكلها مستدير الشكل. يقول المرشد: إنّ حريقًا اندلع بالقصر عام 1889 فدمّره ولم يتبق إلا شكله الحالي، فـيما يقول الباحث محمد بن عبدالله الرحبي: إنّ جميع البيوت والقصور بالريف الزنجباري موصولة إلى المدينة بالهاتف منذ عام 1880، ويضيف: «قصر المرهوبي كان مكانًا لاستراحة السلطان برغش، ويحتوي على الحمامات التركية التي لا يزال بعضها محافظًا على ملامحه، وغرف للجلوس بعد الاستحمام، كما كان يحتوي على برك سباحة وكراسٍ منحوتة من الحجر ونوافـير وحدائق غنّاء. وقد استوحى السلطان برغش التصميم من بعض البلدان الإسلامية، فنجد على سبيل المثال الزخارف والقباب العثمانية واضحة، كما حوّل قناة مائية قريبة من القصر إلى شبكة مياه لتزويد القصر بالماء للحمامات والنوافـير وبرك السباحة».

مع الإكرامية التي منحها له سيف -كعادته لمن يقدّم لنا خدمات فـي هذه الرحلة- كال لنا المرشد السياحي المديح والثناء، وقال: «إنّ زنجبار هي عُمان وعُمان هي زنجبار، وتاريخُنا واحد، ونرحّب بكم دائمًا»، وعلى قدر سعادتي بهذا الإطراء كان شيءٌ ما فـي داخلي متشككًا: «تُرى هل هذا ما يقوله عن عُمان والعُمانيين أمام الآخرين؟!». ويبدو أنّ سمة الترحيب عند التوديع هي سمة زنجبارية خالصة؛ فلم ندخل محلًّا أو مطعمًا إلا ويشكروننا فـي الوداع ويقولون بالسواحلية بكلّ لطف: «karibuni tena»، بمعنى: تفضلوا ثانيةً.

ونحن نغادر بيت المرهوبي، قلت لصاحبَيّ -سيف وسليمان- إنه رغم الحريق الذي التهم المبنى، فإنّ الملامح العامة للبيت ما زالت واضحة، وكذلك سُمك الجدران، وهذا يعني أنّ الترميم ليس مستحيلًا، بل أراه واجبًا ليلحق «بيت العجائب» و«بيت الساحل» فـي الترميم، ولماذا لا تشتريه الحكومة العُمانية؟ لأنّ البيت إرثٌ عُمانيٌّ يحكي تاريخَنا هناك، هذا التاريخ الذي يتعيّن أن يظلّ صامدًا فـي مواجهة أعاصير الزمن الهوجاء.

مقالات مشابهة

  • بيت المرهوبي.. النظر المحرّم من نافذة القصر!
  • الأمم المتحدة: 13 مليون نازح ولاجئ في السودان خلال عامين من الحرب
  • الراعي ترأس الذبيحة الإلهية في كنيسة سيدة لورد في حريصا
  • الناطق باسم الحويج: ارتفاع أسعار اللحوم البيضاء والحمراء سببه انخفاض قيمة الدينار
  • رئيس لجنة حصر الأضرار بالقصر الجمهوري يعلن عن بداية عمل اللجنة
  • خطوة رسمية لتأهيل القصر الجمهوري
  • مستشفى الأصابعة يستقبل 10 حالات اختناق جراء الحرائق، ويطالب بدعم عاجل
  • الأب بنيامين صلاح: أحد الشعانين مشهد ملحمي يفيض بالرجاء والمحبة
  • وزير الصحة الاتحادي: (..) هذا ما قصدته بعدم استعجال عودة المواطنين للخرطوم
  • نقل الوزارات بعيدا عن وسط الخرطوم.. وتخصيص صالة الحج والعمرة  لاستقبال الرحلات