السودان ثلاثة عقود قبل و ثلاثة عقود بعد عام 1956
تاريخ النشر: 24th, August 2023 GMT
الملاحظ لحال النخب السودانية من خارجها و هي تحاول بناء دولة حديثة أنها لا تعطي للفكر أي أهمية و لا يشغل بالها التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بفكرة السلطة كمفهوم حديث يشغل بال المجتمعات الحديثة حيث أصبح بفضل الفلاسفة و الفلسفة السياسية و علماء الاجتماع و المؤرخيين و الاقتصاديين أن الفرد غاية في ظاهرة المجتمع البشري.
و عليه تقوم فكرة الدولة الحديثة و مفهوم السلطة في المجتمعات الحديثة على كيفية بناء مجتمع الغاية فيه الفرد و بالتالي جاءت قيم الجمهورية منتصرة لحقوق الانسان و في بعدها البؤري الفرد و حريته و مسألة الحق في الحقوق. و هذا ما جعل عالم اجتماع مثل هشام شرابي يهتم بمسألة حرية المرأة قولا و فعلا في العالم العربي بثقافته التقليدية.
و إهتمام هشام شرابي بحرية المرأة قولا و فعلا لأنه يدرك أن حرية المرأة و هي أضعف حلقة في مجتمع أبوي تغلب عليه ثقافة سلطة الأب و ميراث التسلط مفتاح يفتح أبواب سرداب مغلق في مجتمع تقليدي لا يعرف سبيل الى فكرة احترام الفرد و لا يعرف أن الغاية من ظاهرة المجتمع البشري هو الفرد و بالتالي الطريق لفهم و تفسير ظاهرة المجتمع البشري تحتاج لفكر نتاج فلاسفة و علماء اجتماع و مؤرخيين غير تقليديين يهتمون بتفسير كيف تكون علاقة الفرد مباشرة بالدولة كمفهوم حديث و فيه تكون المساواة التي تقلق بال الانسان قد وجد لها حل.
و مع إفتراض أن الفرد بطبعه و وفقا للقانون الأخلاقي عقلاني و أخلاقي تصبح مسيرة الانسانية مساقة بمعادلة الحرية و العدالة و سلوك الفرد بعد إحساسه بأنه متساوي مع الآخرين في الحقوق ينتج معادلات سلوكية نجدها نابعة من فرد يتعامل مع الآخريين و كأن سلوكه وصايا من عمق ضميره و نتاج تجربة الانسان مع ضمير الوجود تحل محل الوصايا العشرة كنتاج دين تاريخي كما نجدها في شريعة النبي موسى.
و بالتالي يصبح الفرد بفضل عقلانيته و أخلاقيته غير محتاج لوصايا الدين التاريخية و بالتالي يستطيع المجتمع أن يصل لمستوى أن دولة الإرادة الإلهية ليست غاية بل يمكن مفارقتها و تصبح الديمقراطية بديلا للفكر الديني و هنا يتجلى مجد العقلانية و إبداع العقل البشري.
و فيها يصبح الدين شأن فردي. أما ما يخص صراع الفرد مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية و العدالة. و معادلة الحرية و العدالة اذا أردنا تفعليها في السودان قطعا نحتاج لتغيير كامل و شامل لطريقة تفكير نخبنا السودانية التي إنحبست في حيز المرشد و الامام و الختم و الأستاذ في حيز النسخة المتحجرة من الشيوعية السودانية التي لم تصل لمستوى فهم و قبول نمط الانتاج الرأسمالي و كيف يرى فيه علماء الاجتماع فكرة الاقتصاد و المجتمع.
و بالمناسبة في كساد النخب السودانية نجد نصيب الشيوعي السوداني كبير جدا لأنه قد سد كل السبل أمام نخب مجتمع تقليدي كالمجتمع السوداني من الوصول الى فهم أن تاريخ الليبرالية بشقيها السياسي و الاقتصادي يمثل التاريخ الطبيعي للإنسانية في سرمدية سيرها بلا قصد و لا معنى غير المعنى الكامن في ظاهرة المجتمع البشري و الغاية فيه الفرد الذي ينشد الحرية و العدالة.
و المضحك نجد أن أغلب النخب السودانية تعتقد في أن الإشتراكية هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة و هذا سر كساد الفكر السياسي في السودان و فكرة الحزب الواحد و غيرها من الأفكار التي تفتح على نظم شمولية بغيضة و عكسها أن مسألة تحقيق العدالة و الحرية أقرب الطرق إليها هو طريق الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي.
و إعتقاد النخب السودانية و تبعيتها العمياء لفكر يعتقد في أن الاشتراكية هي التي تحقق العدالة سببه أن النخب السودانية تجهل جهل فظيع تطور تاريخ الفكر الرأسمالي في المئة سنة الاخيرة و خلال قرن كامل إندفع قطيع النخب السودانية كقطيع الخنازير الذي تحدث عنه السيد المسيح بإتجاه هاوية فكر لا تفتح إلا على نظم شمولية بغيضة.
و هنا يكمن سر تبجيل النخب السودانية الفاشلة للحزب الشيوعي السوداني رغم أنه حزب يفصل بينه و بين تطور الفكر في المجتمعات الحية قرن من الزمن. و من هنا ندعو النخب السودانية الى أن تهتم بتطور الفكر الليبرالي على أقل مستوى في المئة السنة الأخيرة و نجدها تبدأ مع ظهور أندية أتباع مؤتمر الخريجيين و بعد فشل مؤتمرهم نجدهم قد تسابقوا الى أحضان الطائفية امامها و ختمها بسبب الأنساق الثقافية المضمرة و هي قد جعلتهم يبدّلون صورة الأب البايلوجي الذي تركوه في البيت بصورة الأمام و الختم و الأستاذ الشيوعي عند الشيوعيين السودانيين.
و بالتالي غياب الفكر الليبرالي و متابعة تطوره وسط النخب السودانية أنتج لنا نخب سودانية ينعدم في حسها و سلوكها سلوك الفرد العقلاني و الأخلاقي في تعامله مع أي فرد آخر كأنه أي الفرد الذي أمامه غاية في حد ذاته و بالتالي هنا تختفي سلوكيات الفرد و هو منطلق من دينه التاريخي أو عرقه أو طائفته أو جهويته كما حادث في السودان الآن و قد أصبح سلوك الفرد تقليدي بسبب كساد نخبه التي ما زالت لم تصل لمستوى الناخب الراشد و المستهلك الرشيد الذي يؤمن بعقلنة الفكر و علمنة المجتمع.
لهذا نجد في صفوف السياسيين السودانيين أتباع المرشد و الامام و الختم و هم لم يستوعبوا الدرس أي أن الديمقراطية هي بديلا للفكر الديني و كذلك أن الديمقراطية الليبرالية هي أقرب الطرق لتحقيق العدالة و الحرية و ليست الإشتراكية كما نجح أتباع الحزب الشيوعي في خداع النخب السودانية في الاعتقاد أن الاشتراكية هي طريق العدالة و هيهات.
و من هنا نقول للنخب السودانية أن الفكر الليبرالي هو أقرب الطرق لتحقيق العدالة و الحرية و نقول لكم بأن الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي ليست له أي منصة ينطلق منها حتى اللحظة في السودان و من هنا نقول لكم عليكم إبتداء الإهتمام بكيف تطور الفكر الليبرالي في المئة سنة الأخيرة أي منذ الكساد الاقتصادي العظيم 1928 و كيف فسرت ظاهرة الكساد الاقتصادي و كيف إنتهت أفكار الليبرالية التقليدية و إبتدأت الليبرالية الحديثة و بعد المئة سنة التي سبقت الكساد الاقتصادي العظيم أي 1830 و هي تصادف ديمقراطية توكفيل و كيف ساهم في توضيح مسالة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و قبلها قبلهاالمئة السنة السابق أي 1730 و كيف بدات مسألة إرهاصات العقلانية و إبداع العقل البشري و هكذا نسير الى لحظة قرن الانسانيين أي القرن السادس عشر و كيف بدأت مسألة تأليه الانسان و أنسنة الإله و إذا وصلنا لمستوى تأليه الانسان في السودان ستنتهي مسألة تأليه الامام في حزب الامة و تأليه الختم و تأليه الأستاذ عن أتباع النسخة الشيوعية السودانية.
و مسألة تأليه الانسان يحتاج لعقد إجتماعي و يحتاج لتسلسل فكر مثلا في فرنسا نجد علم إجتماع مونتسكيو هو قاعدة إنطلق منها توكفيل بعد بقرون و بعده نجد ريموند أرون طوّر أفكار توكفيل لكي يحارب بها الفكر الشيوعي و بعد ريموند نجد كلود لوفرت و مارسيل غوشيه و كيفية تطور و مواصلة فكر ريموند أرون في كيف تطور الفكر الليبرالي.
و هذا لا يوجد في السودان بل عكسه تماما و هي فكر إحتقار الانسان أي فكر يحتقر الانسان بدلا من تأليهه و نجده منذ قيام دولة الفونج كمعاكس للنزعة الانسانية و بعدها بقرون نجد المهدي في الثورة المهدية يقطع تطوّر الفكر العقلاني في السودان و بعده نجد عبد الرحمن المهدي كامام و إقطاعي لا يحترم الانسان بل نجده قد إستغل جهل أتباعه في إستعبادهم في مزارعه و بعده نجد الصادق المهدي و فكره المحارب للعقلانية و إصراره على الخطاب الديني الى درجة صار فيها أقرب لرجل الدين من السياسي.
و يغالط الصادق المهدي لكي تستمر منافعه في سيطرة الفكر الديني في السودان عندما يقول أن تاريخ أوروبا لا يمكن أن يتحقق في تطور تاريخنا العربي الاسلامي و هنا يجهل الصادق المهدي أن ظاهرة المجتمع البشري في أي مكان أوروبا أو السودان لا تسوقها غير معادلة الحرية و العدالة و لكن كيف يفهمها الصادق المهدي و هو يريد تأبيد ثقافة عربية اسلامية تقليدية في السودان تحفظ له تحكم أسرته في أقدار السودانيين.
و هنا نطلب منك مقارنة أي أن تقارن تطور العقد الاجتماعي من منتسكيو في علم إجتماعه الى لحظة ريموند أرون في عام 1930 و فلسفة التاريخ الحديثة و كيف تطوّر الفكر الليبرالي قارنه أيها القارئ المحترم مع قيام دولة الفونج و مرورا بالمهدية و المهدي غير العقلاني و الى لحظة الصادق المهدي الذي لا يرى في الطائفية أي عيب في وقت يجدد فيه ريموند أرون العقد الاجتماعي في فكر ليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي ليحقق الحرية و العدالة في مجتمع ذو مسيرة تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لامعنى تدخل فيه الرأسمالية في إختناقات و لكنها تخرج منها أكثر قوة.
ما أود قوله أن تطور الفكر في المجتمعات الحديثة فكر متطور و متسلسل خلفه قرون و يرنو الى قرون بفضل معادلة الحرية في مستقبلها البعيد أفقها معادلة الحرية و العدالة التي لا تحقق إلا بفضل مجد العقلانية و إبداع العقل البشري في تفسيره لظاهرة المجتمع.
نرجع لعنوان المقال أي ثلاثة عقود قبل الاستقلال و هي تصادف منتصف عشرينيات القرن المنصرم و فيها تتضح لحظة نهاية الليبرالية التقليدية و تصادف عندنا في السودان بداية أندية أتباع مؤتمر الخريجيين و للأسف نسبة لضعف تعليمهم لم يكونوا على مستوى من الوعي يضعهم في مستوى يتيح لهم فهم أنهم في لحظة تمفصل زمانيين زمن يتلاشى بفكره أي زمن فلسفة التاريخ التقليدية و بداية زمن فلسفة التاريخ الحديثة.
و دليلنا لم نجد أي فكر وسط نخب عشرينيات القرن المنصرم في السودان ينطلق من فكرة النزعة الانسانية و إلا لما تسابقوا الى أحضان الطائفية بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين. و كذلك غياب فكر النزعة الانسانية في نخب السودان في العشرينيات من القرن المنصرم هو الذي جعل من ورثوهم من نخب أتت بعدهم يرتكزون على خطاب الهوية و يجهلون طموح الفرد للحرية و بالتالي سيطرة أفكار الهووي الصاخب في السودان و هو مرتكز على العرق و الدين كجناحي طائر مشوّة نبذته الانسانية قاطبة و هي تتجاوز بفكر النشؤ و الإرتقاء كل فكر هووي يرتكز على العرق و الدين.
و دليلنا الآخر على ضعف مستوى الوعي في وسط نخب عشرينيات القرن المنصرم و من لحقهم من نخب هو أن الشيوعيين السودانيين الى يومنا هذا مصرون على شيوعية تقليدية لا تعرف سبيل لفهم نمط الانتاج الرأسمالي و حتى اللحظة لم تقدم النسخة الشيوعية السودانية التقليدية غير مفكر لا يقدم غير علمانية محابية للأديان و سببه جهلهم بتطور الفكر الليبرالي على مدى الخمسة قرون الاخيرة.
و نجد من بينهم كشيوعيين سودانيين يطربون لخطاب الهووي الصاخب بل يتفانون في تفسير مدارس قد أسسها الهووي الصاخب ظنا منهم أنها تقدم فكر كما نجدهم في محاولاتهم البائسة في تمجيد آداب العودة لسنار و أبادماك و الغابة و الصحراء و هي لا توضح غير تدني مستوى الوعي بظاهرة المجتمع البشري و كيف أن الغاية من المجتمع هو الفرد في علاقته بالدولة مباشرة بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جهته التي قد غرق في وحلها الهووي الصاخب و هو يؤسس للغابة و الصحراء و أبادماك و العودة الى سنار و غيرها من أوهام مدارس النخب الفاشلة في السودان.
و الثلاثة عقود التي أعقبت الإستقلال فكانت المدة التي قد كشفت لنا ضعف المثقف السوداني الذي لم يقدم فكر يرتقي الى فهم معنى الدولة كمفهوم حديث و مفهوم السلطة الى لحظة سقوط نميري وفيها قد إستهلكت النخب السودانية كل الرصيد الفكري الذي قد تركه الإنجليز عن ملامح الدولة الحديثة في بنوك الأفكار و بعدها أي منذ سقوط نميري و هي تقابل ثلاثة عقود بعد الاستقلال قد وضح تدني مستوى النخب السودانية و أنها نخب مجتمع تقليدي للغاية و قد إستكانت لحكم اتباع المرشد لثلاثة عقود و هي قد رجعت بالسودان الى فكر و حياة القرون الوسطى.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السیاسی و الاقتصادی فی السودان ثلاثة عقود الى لحظة
إقرأ أيضاً:
البكوش: أزمة الشرعية في ليبيا قد تحل عبر صفقة بوتين-ترامب-أردوغان
ليبيا – البكوش: النخب الليبية تهدر الوقت وقد تنتظر صفقة دولية لحل أزمة الشرعية
قال المستشار السابق في مجلس الدولة الاستشاري، صلاح البكوش، إن النخب السياسية الليبية تواصل إهدار الوقت في صراعاتها حول تشكيل حكومة جديدة وعضوية “اللجنة الاستشارية” التابعة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
صفقة دولية لحل أزمة الشرعيةوفي تغريدة عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “إكس“، أشار البكوش إلى أن الليبيين قد يجدون أنفسهم مضطرين لانتظار صفقة تجمع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حول ملفات أوكرانيا وسوريا وليبيا.
وأوضح البكوش أن هذه الصفقة المحتملة قد تؤدي إلى تقديم حل “أجوف” للأزمة الليبية المتعلقة بشرعية المؤسسات السياسية.