أمازون بيدروك.. هل تشكل حجر الأساس لثورة الذكاء الاصطناعي؟
تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي التوليدي أصبح محركًا لجميع القطاعات، إذ يقود التقدم في معالجة اللغة الطبيعية، والرؤية الحاسوبية، والعديد من المجالات الأخرى. ومع ذلك، فإن استخدام إمكاناته كان مصحوبًا غالبًا بتحديات التكاليف والبنية التحتية المعقدة.
وتبرز هنا "أمازون بيدروك" (Amazon Bedrock) التي تقدم حلا سحابيا متكاملا لتطوير ونشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي بسهولة وأمان، إذ تزيل هذه الخدمة العوائق من خلال السماح باستخدام النماذج دون الحاجة إلى إدارة البنية التحتية.
تعد "أمازون بيدروك" بمنزلة خدمة لتسهيل بناء تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي عبر منصة الحوسبة السحابية "أمازون ويب سيرفيسز" (Amazon Web Services) من خلال تقديم النماذج اللغوية الكبيرة التي بنتها شركات أخرى لتكون بمثابة الأساس للتطبيق الجديد.
وتتميز الخدمة بالبساطة، حيث تعفي المستخدمين من تعقيدات إعداد البنية التحتية، وتوفر منصة موحدة تتيح نشر أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي من أبرز الشركات، مثل "أنثروبيك" (Anthropic).
وتعد هذه الخدمة مثالية لإنشاء وتوليد تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تساعد في كل شيء، من إنشاء المحتوى إلى الأمان والخصوصية، حيث صممت الخدمة مع وضع المطورين في الاعتبار.
إعلان مزايا "أمازون بيدروك"تجمع "أمازون بيدروك" بين القوة الحاسوبية، والمرونة، والتكامل مع نظام "أمازون ويب سيرفيسز" السحابي.
وتتيح هذه الخدمة للشركات تسريع تبني الذكاء الاصطناعي والاستفادة من قدراته في مختلف المجالات، بفضل سهولة الاستخدام وإلغاء التعقيدات المرتبطة بالبنية التحتية.
وتتميز بتوفيرها مجموعة واسعة من النماذج التي تلبي احتياجات الاستخدامات المختلفة، سواء في معالجة النصوص أو إنشاء المحتوى البصري.
وتوفر تجربة خالية من التعقيدات التقنية، حيث تتيح للمطورين التركيز على بناء التطبيقات دون القلق بخصوص البنية التحتية.
وتلغي الخدمة الحاجة إلى تخصيص وحدات معالجة الرسومات، وتعتمد على بنية خالية من الخوادم، وتقلل أوقات الإعداد بشكل كبير من أسابيع إلى ساعات فقط.
وتتيح مزايا الضبط الدقيق التي توفرها الخدمة إمكانية تخصيص النماذج وتكييفها بأمان وكفاءة مع البيانات.
وتنشئ الخدمة نسخًا خاصة من النموذج قابلة للضبط باستخدام تقنية "التوليد المعزز للاسترجاع" (RAG)، مما يتيح للنماذج فهم سياق المؤسسة بشكل أفضل وإنشاء استجابات أكثر دقة.
وتتميز تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي عادةً بطلب غير متوقع، وخاصة في حالات، مثل روبوتات الدردشة، التي تواجه ذروة في الاستخدام خلال ساعات العمل وانخفاضًا ليلاً.
وتحل الخدمة هذه المشكلة بفضل قابلية التوسع التلقائي، حيث تتكيف النماذج تلقائيًا مع حجم الطلبات المتغير دون تدخل يدوي.
كما يمكن تشغيل عدة نماذج في وقت واحد داخل التطبيق نفسه لتغطية سيناريوهات مختلفة.
ويساعد وكلاء الخدمة في أتمتة الخطوات المطلوبة لتكامل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي مع المهام المعقدة المتعددة الخطوات عبر أنظمة الشركة ومصادر البيانات.
ويعمل الوكلاء على تبسيط التطبيقات من خلال التعليمات المخصصة والتنسيق والمراقبة المحسنة.
وبفضل البنية التحتية القوية لمنصة "أمازون ويب سيرفيسز"، توفر "أمازون بيدروك" أمانًا عاليًا وتحافظ على الامتثال لمعايير الخصوصية، مما يجعلها خيارا مثاليا للشركات في القطاعات الحساسة، مثل التمويل والرعاية الصحية.
إعلانوتقدم الخدمة بيئة تشغيل آمنة ومتوافقة مع المعايير من خلال الالتزام بالممارسات الأمنية، ويشمل ذلك تقييد الأذونات وتطبيق أقل قدر من الوصول، والتأكد من صحة إعداد النموذج ومهامه، وتشفير البيانات المهمة، وتنفيذ سياسات حذف البيانات، ومراقبة التهديدات، والحماية من الهجمات عبر الخدمات.
في حين تساعد حواجز الأمان في تنفيذ سياسات الحماية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي للمساعدة في ضمان الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي.
ويتيح نشر التطبيقات عبر شبكة "أمازون ويب سيرفيسز" العالمية تقليل زمن الاستجابة وتحسين تجربة المستخدم. وتتكامل الخدمة مع خدمات "أمازون ويب سيرفيسز" الأخرى لتقديم حلول متكاملة.
كيف تغير مشهد تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي؟بفضل مرونتها في اختيار النماذج، وسهولة التكامل مع "أمازون ويب سيرفيسز"، والدعم القوي للأمان والتخصيص، أصبحت "أمازون بيدروك" خيارًا جذابًا للشركات الناشئة والمؤسسات الكبيرة التي تسعى إلى تبني الذكاء الاصطناعي دون التعقيد التقني.
وتمنح الخدمة القدرة على إنشاء مجموعة متنوعة من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي بسرعة وكفاءة، مما يعزز الابتكار في مختلف المجالات، من خدمة العملاء إلى التسويق الرقمي وإنشاء المحتوى.
ومن خلال توفير النماذج المدربة مسبقًا، فإنها تقلل الوقت والجهد المطلوبين لبناء تطبيقات ذكية، مما يسمح للفرق بالتركيز على تحسين تجربة المستخدم بدلاً من بناء النماذج من الصفر.
وبفضل التكلفة الفعالة وسهولة الاستخدام، يمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة دون الحاجة إلى موارد تقنية ضخمة.
ومن خلال توفير وصول سهل إلى نماذج متعددة، تشجع على تجربة أفكار جديدة وابتكار تطبيقات ذكية لم تكن ممكنة من قبل.
وفيما يلي بعض أبرز الاستخدامات:
إنشاء مساعد افتراضي أو روبوت محادثة ذكي لتقديم تفاعلات طبيعية وأكثر دقة. تحليل البيانات وتلخيصها من أجل تبسيط المقالات والتقارير إلى فقرات سهلة الفهم. توليد المحتوى النصي، سواء كان مقالات، أو منشورات، أو مدونات، أو حتى رسائل بريد إلكتروني. إنشاء الصور التسويقية، أو المحتوى البصري للمدونات، أو حتى مواد للعلامات التجارية. تحسين أنظمة التوصية بالاعتماد على بيانات سلوك العملاء من أجل تقديم عروض مخصصة. تحسين توليد الاستجابة من خلال إدماج مصادر البيانات الخارجية في قواعد المعرفة. إعلان المقارنة مع خدمات "مايكروسوفت" و"غوغل"دخلت "أمازون بيدروك" إلى سوق أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولكنها تواجه منافسة شرسة من شركات تقنية رائدة، مثل "مايكروسوفت" و"غوغل".
وتمتلك "مايكروسوفت" خدمتها "أزور أوبن إيه آي" (Azure OpenAI)، في حين تمتلك "غوغل" خدمتها المسماة "فيرتيكس إيه آي" (Vertex AI).
وتتميز "أزور أوبن إيه آي" بتوافرها في المزيد من المناطق الجغرافية ودعمها لمجموعة لغات أوسع مقارنةً بخدمة "أمازون بيدروك"، مما يجعلها أكثر سهولة في الوصول عالميا.
ومع ذلك، فإن قدراتها على إنشاء المحتوى وتخصيص النماذج أقل مرونة مقارنة بخدمة "أمازون بيدروك"، مما قد يحد من إمكانياتها في بعض التطبيقات المتقدمة.
وتوفر "فيرتيكس إيه آي" حرية كبيرة للمطورين، حيث يمكنهم بناء نماذج مخصصة بالكامل، مع إمكانية نشرها من بيئات محلية أو هجينة، وليس فقط من السحابة.
ولكن هذه الحرية تأتي بثمن؛ إذ إن التعامل معها أكثر تعقيدًا، كما أن نقص الخدمات المدارة قد يجعلها أقل جاذبية للمطورين الذين يبحثون عن حلول سريعة وفعالة.
وتتميز "أمازون بيدروك" بالخدمات المدارة التي توفر دعمًا شاملًا للمطورين، مما يسهل بناء التطبيقات ونشرها دون الحاجة إلى إدارة البنية التحتية.
كما تمنح إمكانية الوصول إلى نموذج "أمازون" المتطور "تيتان" (Titan)، الذي لا يزال ينمو ويتحسن.
وتساعد مزايا توفير التكاليف في "أمازون بيدروك" في تقليل استهلاك الحوسبة وتخفيض عبء العمل، مما يجعلها خيارًا أكثر كفاءة من حيث التكلفة على المدى الطويل.
وتمثل "أمازون بيدروك" أخيرا خطوة كبيرة نحو تبسيط تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مما يجعلها خيارًا جذابًا للشركات التي تسعى إلى الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي دون التعقيدات التقنية والتكاليف الباهظة.
ومع تزايد المنافسة في سوق الذكاء الاصطناعي، قد تصبح هذه الخدمة لاعبًا رئيسيًّا في تشكيل مستقبل التطبيقات الذكية.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان تطبیقات الذکاء الاصطناعی التولیدی أمازون ویب سیرفیسز البنیة التحتیة إنشاء المحتوى مما یجعلها الحاجة إلى هذه الخدمة من خلال إیه آی
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.
كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟
لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.
كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.
ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.
المنافع المتوقعة
إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،
ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.
الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية
عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.
عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.
نظرة مستقبلية مشرقة
تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.
كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني