المنابر السودانية الإسفيرية: بين ضرورة التطوير ومعضلة الإعلانات المزعجة
تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT
إنَّ الفضاءات الإسفيرية السودانية، على محدوديتها، قد شكلت عبر العقود الأخيرة ملاذًا معرفيًا ووطنيًا، ومساحة نادرة لتمثُّل التنوع الفكري والثقافي والسياسي بعيدًا عن قبضة السلطة. فهذه المنابر كانت، ولا تزال، تعبِّر عن ديناميكية المجتمع السوداني في مقاومته المستمرة لمحاولات تدجينه، وتقدّم بديلًا للمؤسسات الإعلامية التقليدية التي طالما فُرِضت عليها الوصاية السياسية والإيديولوجية.
لكن، بالرغم من هذا الدور الجليل، فإنها تعاني مشكلات بنيوية لم تعد مقبولة في عصر الانفجار المعلوماتي، حيث صار الوصول إلى المعلومة تجربةً تتطلب السلاسة، وليس مغامرة تُعرِّض القارئ لإزعاج الإعلانات المتطفلة أو لبطء التصفح الذي ينهك الرغبة في الاطلاع. حين تصبح المعرفة اختبارًا للصبر، تفقد قيمتها كنافذة للفهم والتحرر.
ليس كل صمتٍ حرية، كما أن ليس كل ضجيجٍ صوتٌ مسموع.
إنَّ أكثر ما يميز هذه المنابر هو استقلاليتها النسبية، حيث ظلت بمنأى عن الرقابة المباشرة، مما أتاح لها فضاءً رحبًا للنقاش والتفاعل دون الخضوع لمنطق السلطة. غير أن هذا الاستقلال لم يُترجم إلى تحديث تقني أو رؤية تتواكب مع ضرورات العصر الرقمي، بل ظلّت هذه المنصات تحافظ على هياكل تقنية بدائية تُحيل المستخدم إلى تجربة مرهقة لا تتناسب مع مستوى الحاجة إليها. التقنية ليست ترفًا، بل وسيلةٌ لإزاحة العوائق التي تفصل الإنسان عن المعرفة.
فالتصفح البطيء، والإعلانات المزعجة، وانعدام التصميم المريح للمحتوى، كلها عوامل تجعل من الرغبة في المشاركة أو الاطلاع مشقةً لا طائل منها.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن هذه الإعلانات قد تكون واحدة من الموارد الأساسية التي تعتمد عليها هذه المنابر للبقاء والاستمرار. فلا يمكن إغفال حقيقة أن تشغيل المواقع وصيانتها يتطلب تمويلًا، وهو أمر يدركه كل من ينتمي إلى هذا الفضاء. لكن بين الحاجة إلى الإعلان وبين تحوله إلى مصدر إزعاج، هناك حلول وسطى يمكن اللجوء إليها. فمثلًا، يمكن تقليل الإعلانات المنبثقة التي تقطع القراءة فجأة، واستبدالها بإعلانات مدمجة داخل المحتوى بشكل غير منفّر. كذلك، يمكن تحسين أسلوب عرض الإعلانات بحيث تكون متوافقة مع اهتمامات المستخدمين، بدلًا من أن تظهر بعشوائية منفّرة. ويمكن لهذه المنابر أن تقدّم خيارات اشتراك مدفوعة لمن يرغب في تصفح خالٍ من الإعلانات، وهو نموذج أثبت نجاحه في العديد من المنصات العالمية.
المعرفةُ إن لم تُقدَّم في سياقٍ مريح، تحوَّلت إلى عبءٍ لا يُحتمل.
إن معالجة هذه المشكلات لم تعد ترفًا، بل ضرورة لضمان استمرارية هذه المنابر كمؤسسات رقمية قادرة على أداء دورها التنويري. وربما يكون الحل في مبادرات تعاونية يقودها المهتمون بالتقنية، بحيث يتم تطوير هذه المنابر وتحسينها مجانًا أو بتكاليف رمزية. فالعالم اليوم يعيش ثورة معرفية، حيث لم تعد المعرفة حكرًا على المؤسسات الكبرى، بل أصبحت المساهمات التطوعية والمشاريع المجتمعية تلعب دورًا حاسمًا في تطوير البنى الرقمية. ويمكن لهذا النموذج أن يجد طريقه إلى الفضاء السوداني، خاصة في ظل وجود خبرات تقنية سودانية شابة قادرة على إحداث تغيير جوهري إذا ما أُتيح لها المجال.
لكن من المفيد هنا أيضًا النظر إلى تجارب مماثلة في دول أخرى، حيث استطاعت بعض المنابر المستقلة تجاوز أزماتها التقنية عبر نماذج تمويل بديلة، كتوفير اشتراكات مدفوعة لمن يرغب في محتوى خالٍ من الإعلانات، أو الاعتماد على التمويل الجماعي من المهتمين بالحفاظ على فضاء معرفي مستقل. في بعض الدول، لجأت المنصات الرقمية إلى التعاون مع المؤسسات الأكاديمية أو المنظمات الثقافية التي تدعم حرية التعبير، مما وفر لها بنية تحتية أكثر تطورًا دون أن تفقد استقلاليتها. إن هذه التجارب يمكن أن تلهم حلولًا محلية تتناسب مع واقع السودان، حيث الحاجة إلى فضاء رقمي متطور أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
حين تعيق التقنية الفكرة، يصبح الإبداع رهينة للقيود التي كان يجب أن يكسرها.
لقد بات واضحًا أنَّ مشكلة هذه المنابر ليست في فكرتها أو ضرورتها، وإنما في تعثرها التقني الذي يكاد يجعلها عائقًا بدلًا من أن تكون وسيلة. لكن الأمل لا يزال ممكنًا، شريطة أن تتوفر الإرادة لإصلاحها من خلال مشاريع جماعية تُعيد النظر في بنيتها وتقدّمها بصيغة عصرية تليق بأهمية الدور الذي تلعبه. فالذين يعانون من هذه الإشكالات اليوم ليسوا مجرّد مستخدمين يطالبون بالراحة، بل هم قراء فاعلون في المشهد الثقافي والفكري، يستحقون فضاءً رقميًا يليق بهم وبطموحهم في المعرفة.
أن تملك منبرًا حرًا لا يعني أن تملك صوتًا مسموعًا، فالصوت يحتاج إلى أن يصل، لا أن يضيع في الفراغ.
إنَّ إصلاح هذه المنابر ليس مسألة تقنية فحسب، بل هو جزء من مشروع ثقافي أوسع، يُعيد الاعتبار لفكرة الفضاءات المستقلة، ويمنحها قدرةً حقيقية على المنافسة والتأثير في عصرٍ أصبحت فيه التكنولوجيا عاملًا حاسمًا في تحديد من يملك الحق في الكلام، ومن يُترك على هامش المشهد.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه المنابر
إقرأ أيضاً:
حظر وضع الإعلانات على المركبات دون ترخيص بمشروع قانون المرور الجديد
أحال مجلس النواب برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي، خلال الجلسة العامة اليوم الأحد، مشروع قانون بتعديل بعض أحكام القانون رقم ١٢١ لسنة ٢٠٠٨ المعدِّل لبعض أحكام قانون المرور الصادر بالقانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٧٣، إلى لجنة مشتركة من لجنة الدفاع والأمن القومي ومكتبي لجنتي النقل والمواصلات، والشئون الدستورية والتشريعية.
وفرض مشروع القانون قيود على استخدام المركبات كوسيلة للإعلان، حيث يحظر وضع أي لافتات إعلانية أو نماذج مجسمة أو غيرها من الوسائل الدعائية على السيارات دون الحصول على ترخيص مسبق من قسم المرور المختص.
ونصت المادة (69 مكررا) من القانون على أنه لا يجوز استعمال المركبات في الإعلان بوضع لافتات أو نماذج مجسمة أو غير ذلك من الوسائل عليها إلا بترخيص من قسم المرور المختص وفقا للقواعد والإجراءات التي تبينها اللائحة التنفيذية لهذا القانون.
قانون تنظيم المسئولية الطبيةوشهدت الجلسة العامة اليوم الأحد الموافقة من حيث المبدأ على مشروع قانون مُقدم من الحكومة بإصدار قانون تنظيم المسئولية الطبية وسلامة المريض.
ويهدف مشروع القانون إلى تحقيق التوازن المطلوب بين توفير حماية قانونية لحقوق المرضى وبين ضمان بيئة عمل آمنة للأطقم الطبية، من خلال وضع معايير قانونية عادلة لمسائلة الأطباء قانوناً بما يحمي حقوق المرضى، ويمنع من حدوث أي إهمال طبي ، وفي الوقت ذاته يؤكد على حق الأطباء في ممارسة رسالتهم السامية.
وحرص مشروع القانون ، على تحديد الالتزام الأساسي ودرجة العناية المطلوبة من كل من يزاول إحدى المهن الطبية داخل جمهورية مصر العربية، والتأكيد على الحقوق الأساسية بمتلقي الخدمة الطبية أيا كان نوعها، والارتقاء بتنظيم هذه الحقوق الى مصاف الاحكام التشريعية الملزمة.