الرمزية الإستراتيجية لتحرير القصر الجمهوري
تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT
(1) العمق الاستراتيجي في عملية تطهير القصر الجمهوري ومنطقة وسط الخرطوم من دنس مرتزقة آل دقلو يتجلى في استعادة مباني ومعاني دولة 1956م والذين يهرفون بما لا يعرفون فإن تخلقات بذرة دولة 56 هي ثمرة مجاهدات أبناء السودان بكل تمايزاتهم الدينية والهوياتية والاثنية منذ عبقرية الثنائيات التاريخية بين عمارة دونقس الفونجاوي وعبد الله محمد الباقر الملقب بجماع والمتحدر من عرب القواسمة، والتي أثمرت السلطنة الزرقاء 1504م، وثنائية أحمد المعقور من بني هلال والقادم من غرناطة مع سلطان الكيرا شاوردورشيت والتي أثمرت عن تحول سلطنة الفور من الوثنية إلى الإسلام في عهد سليمان صولونج ، وثنائية محمد الجعلي وكيركيت والتي أثمرت مملكة تقلي الإسلامية، وثنائية الإمام محمد أحمد المهدي، وعبد الله التعايشي والتي أرست اللبنة الأولى للدولة السودانية.
(2)
استمرت مجاهدات أبناء السودان بذات التنوع العبقري خلال مرحلة الحكم الثنائي البريطاني المصري بدءا من ثورة عبد القادر ودحبوبة في الوسط 1907م ، وثورة الفكي نجم الدين في سنار، وثورة السلطان علي الميراوي والسلطان عجبنا في جبال النوبة، وثورات الدينكا والشلك والنوير في الجنوب، ومقاومة السلطان علي دينار وثورة الفقيه السحيني في دارفور .
ثم استمر النضال ضد الحكم الثنائي عبر الأدوات الناعمة بذات التنوع العبقري والذي بدأ بجمعية الاتحاد السوداني 1922م والتي تطورت إلى جمعية اللواء الأبيض 1924 حيث قدم عبيد حاج الأمين البطل علي عبد اللطيف الدينكاوي قائداً للجمعية والتي قادت الثورة السلمية ثم تطورت إلى صدام مسلح ضد الاستعمار انتهى بإجهاض الحركة.
ثم تداعت بذات التنوع الطليعة المستنيرة في مؤتمر الخريجين 1938م والتي قادت النضال ضد المستعمر عبر الأدوات الفكرية والسياسية والثقافية حتى الوصول إلى برلمان الحكم الذاتي 1953م والذي أعلن في جلسته التاريخية في 19 ديسمبر 1955م الاستقلال حيث تقدم بالمقترح ممثل حزب الأمة عن دائرة نيالا عبد الرحمن دبكة وجاءت التثنية من ممثل الحزب الوطني الاتحادي عن دائرة دار حامد غرب مشاور جمعة سهل ورفع علم الاستقلال على سارية القصر الجمهوري رئيس الحكومة اسماعيل الازهري وزعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب.
(3)
وهكذا استمرت عبقرية التنوع في دورات الحكم الوطني في مرحلة ما بعد الاستقلال سواء الانظمة البرلمانية (ثنائية الحكومة والمعارضة) أو النظم الشمولية (التنوع داخل المجالس العسكرية الثلاثة عبود ونميري والبشير ).
إن عبقرية التنوع والقومية في المؤسسة العسكرية الوطنية كانت المهاد لانحياز الجيش لثورات الشعب في اكتوبر 1964م ، وأبريل 1985م وديسمبر 2018م
حتى حركات الهامش المسلح التي نهضت منذ العام 1963 في الجنوب، وصولاً إلى دارفور 2003م اتسمت بقدر من التنوع والعقلانية والأخلاق السودانية.
إن هذا الإرهاق التاريخي الخلاق وعبقرية الثنائيات والتنوع رغم المنحنيات والانحرافات في عبرة المسير والمصير حتما ستثمر في لحظة نهوض وطني تاريخي عن مشروع وطني ديمقراطي مستدام يسر الناظرين.
(4)
لكن السؤال الاستراتيجي هل مشروع ثنائية محمد حمدان دقلو الماهري وعبد الرحيم دقلو الماهري تصب في صالح قضايا البناء الوطني والديمقراطية المستدامة في السودان؟؟
إن مشروع أسرة آل دقلو يمثل حالة قطيعة جذرية مع قضايا البناء الوطني والديمقراطي لأنه ينزع إلى اختزال الحكم في السودان في مملكة آل دقلو يتوارثونها جيلا بعد جيل والممالك الإسلامية القديمة كانت تستمد المشروعية والاستمرارية في الحكم بالتفاني في خدمة المجتمع وقد استوت ركائز الدولة الأموية على فقه المساقاة والمؤاكلة وكان شعارها، لن نحول بين الناس وألسنتهم ما حالوا بيننا وسلطاننا بتعبير الأب المؤسس للدولة معاوية بن أبى سفيان لكن مشروع أسرة آل دقلو يقتدي بمقولة ميكافلي ، من يبني على الشعب يبني على الطين، وتجلى ذلك في الانتهاكات الشنيعة للممتلكات الخاصة والعامة وانتهاك كرامة وكبرياء الإنسان السوداني بسفور فاق خيال ميكافلي أب الانتهازية وهو ينصح أمراء الاستبداد قائلا: إن قتل المواطنين ليس من الفضائل كما أن التغرير بالأصدقاء وفقدان قيم الرحمة والدين يمكن أن تصل بك إلى القوة لا إلى المجد .
إن خطورة مشروع أسرة آل دقلو هي محمولاته النازية التي تكرس للأحادية العرقية والسلالية في الحكم ، الماهرية السادة والقوميات السودانية الأخرى محض رقيق وأتباع.
(5)
من البشارات إن معركة الكرامة ستكون آخر حروب السودان إذ لأول مرة تتماثل إرادة المجتمع السوداني مع إرادة الجيش والحكومة على منازلة خطر وجودي يهدد بقاء الدولة السودانية بل إن إرادة المجتمع سبقت إرادة الحكومة في التعبئة والاستنفار والتداعي إلى مقرات الجيش للقتال معه كتفا بكتف، ولا زالت إرادة المجتمع تسبق الحكومة في عمليات إعادة الاعمار والتنمية والخدمات في القرى والمدن المحررة من أوغاد المليشيا الإرهابية.
إن هذه الحرب ستنتهي باستئصال شأفة المليشيا الإرهابية، وستنتهي معها دورات الاختلال التي مازت الحكم في مرحلة ما بعد الاستقلال والتي كرست لصيغة هيمنة مؤسسات الحكم على مؤسسات المجتمع وستتحقق إرادة وهيمنة مؤسسات المجتمع السوداني في قضايا البناء الوطني والتحول الديمقراطي المستدام، وصناعة النهضة الحضارية بكل أبعادها الفكرية والمعرفية والسياسية والثقافية والاقتصادية. ورب ضارة نافعة.
عثمان جلال الدين
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: آل دقلو
إقرأ أيضاً:
الخبر اليقين حول القصر الجمهوري
الخبر اليقين حول القصر الجمهوري
رشا عوض
سيطرت قوات الد.عم السريع التي خرجت من رحم القوات المسلحة على القصر الجمهوري لقرابة العامين، ظل الجيش والقوات المتحالفة معه طيلة هذه المدة يحاولون انتزاعه من سيطرتها.
المبتدأ والخبر عندي هو ان هناك سودانيين يتقاتلون فيما بينهم قتالا شرسا بالاسلحة الثقيلة والطيران للسيطرة على القصر الرئاسي، وفي طريقهم لهذه السيطرة ازهقوا الاف الارواح البريئة من المواطنين السودانيين الابرياء وفقدوا كذلك اعدادا ضخمة من الضباط والجنود المخلصين والاكفاء في صفوف كل القوات المتحاربة بلا استثناء، ودمروا منشآت مدنية وعسكرية واهدروا اموالا بالمليارات وشردوا الملايين الى منافي الخارج والداخل مقهورين بالحاجة والمذلة ، وكل ذلك هو ملخص هذه الحرب الذي ينحصر في ان السودانيين حتى هذه اللحظة وبعد سبعين عاما من استقلالهم فشلوا في تأسيس الشرعية السياسية على قاعدة القبول الشعبي بل ظل الاحتكام للبندقية هو سيد الموقف! وحتى في تكريس شرعية حكم البندقية فشل السودان بسبب ان النظام الاسلاموي الذي كان اكثر شراسة في ترسيخ شرعية البندقية خلق واقع تعدد الجيوش وتبعا لذلك تعددت البنادق المتنافسة على السلطة وكانت النتيجة المباشرة لذلك هي اندلاع هذه الحرب بين الجيش والقوات التي خرجت من رحمه بواسطة النظام الكيزاني في اطار تلاعبه بالبيضة والحجر للسيطرة الابدية على البلاد!
والشعب السوداني ظل يدفع الفاتورة الباهظة لكل ذلك العبث! ولو احتج هذا الشعب وبصورة سلمية على هذه الوضعية عبر مظاهرات قوامها شباب في عمر الزهور يزحفون بمواكبهم صوب هذا القصر الجمهوري ظنا منهم بان ذلك القصر ملكهم وهم سادة عليه ، سرعان ما يتم ايقاظهم من ذلك الحلم بتوجيه الرصاص الى رؤوسهم وصدورهم من ” سادة القصر الحقيقيين” وهم بقايا الخديوية والتركية ووكلائهم المحليين الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي ” التركي ولا المتورك” !
وبالتالي من المضحك والمبكي في ذات الوقت ترديد العبارات اللزجة والعبيطة على شاكلة ” استعادة القصر الجمهوري رمز السيادة الوطنية” !! او تحرير رمزية الدولة!
هذا القصر منذ ان شيده غوردون وحتى هذه اللحظة لم يكن رمزا الا لشيء واحد هو قهر وقمع السودانيين تحت وطأة القوة المسلحة ، مرت بهذا القصر نفحات عابرة وغير مكتملة من جنس ” التحرير والسيادة” في العهود الديمقراطية القصيرة ، اضافة الى ” التحرير الاساس” على يد الثورة المهدية في السادس والعشرين من يناير ١٨٨٥ ، الذي تم سحقه على يد الغزو الاستعماري الذي كانت اداته العسكرية ” اورطات مصرية واخرى سودانية من العناصر المعادية للمهدية”! هذه الاورطات التي اتت السودان برفقة الغزو الاستعماري هي البذرة التي نبت منها الجيش السوداني تحت رعاية وسقاية الحاكم العام البريطاني الذي صمم الجيش على اساس حماية ” قصر الحاكم العام” من اي ثورة وطنية! وهذا يظهر من مواقع ثكنات الجيش داخل العاصمة وبتصميم مخصص لحماية ” قصر غوردون” لا غيره ! ولذلك بعد خروج الحاكم العام اعتقد الجيش انه الوريث الشرعي للحاكم العام وظل يتعامل مع الشعب السوداني ولا سيما قواه السياسية على هذا الاساس! تحول خفير الحاكم العام الى وضعية ( المتحوكم العام) !! لذلك اي انقلاب عسكري وان خطط له سياسيون مدنيون ظنا منهم ان هذا الجيش يمكن ان يكون اداة في يدهم ينتهي الانقلاب باعدام او سجن الساسة المدنيين وسحق مناصريهم وايلولة السلطة المطلقة (للمتحوكم العام)!
الحاكم العام البريطاني حاول مشكورا فصل الجيش السوداني عن الاورطات المصرية اذ اعادها الى مصر ، ولكن رغم ذلك نجحت مصر في استلاب الجيش السوداني وتخصيبه بعقليتها في قهر السودانيين فاصبح اداتها في استتباع السودان سياسيا ونهبه اقتصاديا على مر العهود، مصر بحكم استلابها للسودان فكريا وثقافيا وخصوصا للنخبة المتعلمة من مدنيين وعسكريين نجحت في استدامة استتباعها للسودان حتى الان عبر الحكم العسكري وتقول هل من مزيد!
الفاشست الاسلامويون ادركوا حقيقة ان الجيش هو الحاكم الحقيقي للبلاد ولن يترك الحكم لاحد من العالمين ! ووضعوا خطتهم الشيطانية للسيطرة عليه وابتلاعه من خلال زراعة عناصرهم فيه لتنفيذ انقلاب يسيطرون به على السلطة وقدنجحوا في ذلك في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، ثم الشروع في ” كوزنة الجيش بالكامل” عبر فصل كل العناصر غير الاسلاموية من الجيش واحلال عناصر التنظيم الاسلاموي محلها ، والتحكم في الدخول للكلية الحربية التي اصبح اهم معيار للقبول فيها هو الانتماء للتنظيم! وكذلك تغيير العقيدة القتالية للجيش وادلجته بايدولوجيا التنظيم، واخطر ما فعلوه هو تعمد اضعاف الجيش واهمال تدريبه وتسليحه وفي المقابل تقوية المليشيات الاسلاموية وكتائب الظل والمليشيات القبلية حتى يكون الجيش في حالة احتياج وارتهان دائم للاسلامويين ومحبوسا في سجنهم! يحتفظون به كغطاء سياسي للتنكر في ثياب قومية كلما لزم الامر! ولكنهم لا يثقون فيه بالمطلق
وعندما دبت الانقسامات العميقة في صفوف التنظيم بعد ان استقوى البشير ومجموعته على تيار الترابي ووقعت المفاصلة، وبعد نجاح البشير في تحجيم الترابي استقوى عسكريا ببندقية الجيش وهمش عتاة الكيزان مثل علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، ولان البشير يعلم اكثر من غيره مدى تغلغل الاسلامويين في مفاصل الجيش وكان متخوفا من انقلاب عسكري يطيح به ، اعتمد على الدعم السريع ليكون درع حماية له من انقلاب الجيش، لم يعارض الاسلامويون انشاء الدعم السريع بل دعموه بقوة لانهم كانوا في حاجة ماسة له لمحاربة الحركات المسلحة في دارفور، وكانوا يظنون انه سيظل حارسا وحاميا لنظامهم وعصا لتأديب خصومهم! ولكن اتت الرياح بما لا تشتهي السفن!
هذه هي الخطوط العريضة للعبة القط والفأر في الصراع العسكري العسكري على السلطة الاستبدادية والصنم الذي يرمز لها هو ” القصر الجمهوري” الذي تم طرد الد.عم السريع منه!
ولكن ما زال يطوف حول هذا الصنم طوافا مسلحا كل من : كتائب البراء بن مالك والبرق الخاطف والبنيان المرصوص والقوات المشتركة ودرع السودان والاورطة الشرقية وما لا يقل عن ثلاثة مليشيات تتدرب في ارتريا وقوات مالك عقار وقوات طمبور، فضلا عن ” المطوف الاكبر” وهو الجيش!
خلاصة القول: ذلك القصر الجمهوري هو رمز الازمة العميقة للدولة السودانية ، هو الشاهد على استيطان القمع المسلح لارادة الشعب السوداني ، هو صنم المركزية القابضة العمياء عن تنوع السودان ، هو الحارس للمظالم الاقتصادية والتنموية ، حتى هذه اللحظة ظل هذا القصر ميدانا للقتال المسلح بين المتصارعين على حيازة السلطة ، وحتى الان لا يوجد في صفوف المتقاتلين( سواء الجيش او الد.عم السريع او العشرين مليشيا مسلحة الموجودة في الميدان الان) ، لا يوجد من يحمل مشروعا حقيقيا للتغيير في اتجاه المعاني الحقيقية للسيادة الوطنية التي تعني سيادة الشعب على موارده وامتلاكه للحق في تقرير مصيره السياسي ، وفي اتجاه معالجات جذرية لواقع التهميش السياسي والاقتصادي والتنموي والحروب الاهلية المتناسلة التي انتقلت الى داخل اسوار القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش! بل الى داخل كل منزل من منازل الاحياء المحظية في الخرطوم التي ما كان يخطر ببال احد من ساكنيها الابرياء ان النيران التي اشتعلت في الجنوب ودارفور لعشرات السنين يمكن ان تصل اليها!
الحالة الوحيدة التي يجوز فيها النظر الى التقدم العسكري للجيش نظرة ايجابية وبارقة امل في الامن والامان هي ان يكون هذا الجيش- وهو اكبر حزب سياسي مسلح في البلاد – قد ادرك الاسباب الجذرية التي اشعلت هذه الحرب ولا سيما تلك المرتبطة به هو من اختلالات وعيوب بنيوية وعلى رأسها تنكره لطبيعته كجيش يجب ان يكون دوره حماية حدود البلاد وحماية مواطنيها من العدوان الخارجي لا ان يكون لاعبا اساسيا في صراع السلطة يقسم الشعب الى موالين ومعارضين! ومن ثم تكون لديه ارادة حقيقية للقبول بمنطق التاريخ وفتح صفحة سياسية جديدة في تاريخ البلاد تبشر بنهاية الحروب الاهلية، ولكن للاسف كل المؤشرات على الارض حتى الان تقول ان الجيش مدفوعا بالاسلامويين طوعا او كرها، ومدفوعا باجندة بعض جنرالاته الطامعين في السلطة بدعم اقليمي يمضي في اتجاه استعادة القديم ممثلا في ” منظومة الاستبداد والفساد والتمييز العنصري والمناطقي ” في صورة اكثر قتامة وانحطاطا من ذي قبل، ويمضي في ذات الاتجاه الذي اشعل هذه الحرب القذرة اي اتجاه تعدد المليشيات العرقية والقبلية والاسلاموية في طول البلاد وعرضها واستغلال واقع التعدد المليشياوي في خلق حالة من توازن الرعب لصالح الجنرال الحالم بان يكون دكتاتور المستقبل الذي يرقص على رؤوس الافاعي! هذا المسلك هو وصفة لحروب قادمة: مليشيات عرقية ودينية متعددة كلها طامعة في السلطة في ظل خطاب كراهية واستقطاب عرقي وجهوي وتدخلات اقليمية كثيفة وخبيثة وفي ظل جيش زاخر هو الاخر بالانقسامات والصراعات على السلطة والارتباطات الاقليمية.