يرشدني باب «الهاء» في معجم «الرائد» لجبران مسعود إلى الفارق الطفيف رسمًا، والبعيد معنىً، ما بين «الهُوية» و«الهَوية». فحين أضمُّ الهاء في الأولى فإنني أمسكُ، لا ريب، بالمصطلح العصري المشتق من ضمير الغائب «هو»، المصطلح الذي يشير إلى حقيقة الإنسان أو الشيء في صورته المطلقة وصفاته الجوهرية (غني عن الذكر أننا لا نجد هذا المعنى العصري في معجم قديم كلسان العرب).
لا أتوقف عند هذا الفارق اللغوي من باب تصحيح الخطأ الشائع، أو لمجرد الإيماء إلى مصادفة طريفة تعثَّرتُ بها داخل المعجم، فالدهشة في هذا الاشتباه المُلغَّم أخطر من أن تكون تفصيلًا عَرَضيًا إن أمعنَّا التدبر. لكنَّ التماس الكهربائي الذي ينشأ عن الخلط بين الكلمتين يدفعني للتأمل أولًا في كون اللغة نظامًا مشحونًا شديد الجهوزية، حصين الضبط والإحكام من الداخل ضد العبث والخطأ، ولذا لا بدَّ من التعامل معه بمنتهى الحذر والدقة، فأيُّ انحرافة في اللفظ قد تودي بالمتلفظ إلى ما لا تحمد عقباه. هكذا تدافع اللغة عن نفسها وتحمي نظامها من الاستهتار، فربَّ خطأ لغوي قد يتسبب في حادث سير على الطريق العام، أو يحيل متهمًا بريئًا إلى ساحة الإعدام.
المدهشُ ثانيًا هو التباين الرهيب بين المعنيين المتجانسين لفظًا رغم تنافر الدلالة. إنها -إن صحَّ التعبير- مفارقة الفارق، تلك التي تقفز إلى الوعي بمجرد أن يحاول الشاعر اللعب بالكلمات فتسحبه الكلمات إلى مزاح ثقيل مع أعضائها: هو، هُوِية، هُوَّة، هَوِية هاوية؟ بين الهُوية والهَوية يكتشف الشاعر دربًا جديدًا للمعنى، صوتًا ثالثًا يصدر عن تقاطع الصدى بين مفردتين ، كانتا منذ قليل فقط متنافرتين إلى حدود الطِباق الوشيك. تتحاور المفردتان في الجناس فتصير الهُوِية هَوِيةً سحيقة يصرخ فيها السائل: من أنا؟ من أنا في الجماعة؟ وما هو شكل الجماعة وصفاتها لكي أنحت منها تعريفي لنفسي وأبحث عن حدود ليديَّ داخلها؟
كيف السبيل لأشرح أكثر أنني لا أحاول ليَّ أعناق الكلمات أو ضغط معانيها لصالحي حتى توافق هوىً مضمرًا في النفس؟ قطعًا لا، وما من داعٍ لتبريرٍ كهذا، فالكلمتان تتحاوران في جناس شديد الإغراء حتى بالنسبة لأضعف القُراء حساسية في التعاطي مع اللغة، ولأكثر الكتَّاب نزاهةً وعِفة في توظيف الكلمات، ممن يدَّعون مقاومة الانجرار خلف أحابيل البلاغة ومكائدها.
ماذا لو كان التعريف هو أول صور الإلغاء؟ أليست محاولات تأطير الذات هي في ذاتها بداية محوها؟ في قصيدة «طباق» إلى إدوَرد سعيد قال محمود درويش: «لا أُعرِّف نفسي لئلا أضيعها»... تمامًا! وكأن ضبط المرء لهُويته في تعريف مؤطر، رغم ما يحاصرها من تهديد وجودي، هو بدايةُ الفقدان والاستلام إلى يقين نصفِ واقعي ونصفِ متخيَّل، يقينٍ يعيق الولادات الجديدة للذات ويقيد حرية عبورها بين الحواجز. بيد أن الهُوية الحقيقية هي ورشة مستمرة في مختبر التجارب، إنها «بنتُ الولادة، لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها لا وراثةَ ماضٍ» كما يهتف الشاعر في رثائه للمفكر.
إلا أن السجال على حدود التعريف ومساحته سيظل قائمًا بين الفرد والجماعة، غالبًا في إطار تحديد المشتركات من أجل التمييز بين ما هو شخصي من جهة، وما هو عام من جهة أخرى، ولترسيم الحدود بين «أنا» و«نحن». وضمن هذا السجال ستظل الهُوية منطقة صراع وتجاذبات، وحركةً للارتدادات ما بين الحرية والتدجين. فالنزعة الشخصية نحو الامتلاء بهُوية فردانية مختارة قد تشكل تهديدًا للهُوية الجماعية المتخيلة، قومية كانت أم وطنية أم دينية أو ما سواها. فقد يفتح الانفراد بالذات عن صورة الجماعة مخرجًا للتملُّص من الشعور العام بالهُوية الجماعية التي لا تنفك تفرض شروطها ومتطلباتها على منتسبيها. وعلى هذا النحو، يصبح من المرجح أن يتطرف هذا الانفراد، كما حدث مع حالات فردية أو «هُويات فرعية» في البلاد العربية، نحو حالة من الانعزال السياسي والاجتماعي، التي سرعان ما تُوصم بالخيانة. تهمةُ الخيانة هنا، مهما بدت تعسفية، إلا أنها تعكس حقيقةً لا يمكن إغفالها، حقيقة مفادها أن الانحياز للهُوية الخاصة، المُختارة والمطورة بجهد شخصي، تتطلب في كثير من الأحيان «خيانات» ضرورية لمعتقد الجماعة عن نفسها.
الهُويات الجماعية الموروثة والمتخيَّلة هي في المقابل لا تُقصِّر في طمس الهويات الفردية المكتسبة ومحوها بالعنف الناعم، في سعي دؤوب لخلق نسخ متشابهة من الأشخاص، عبر مناهج التربية الوطنية في المدارس الموجهة للناشئة وصولاً إلى الإعلام والقانون، وإلى مختلف وسائل التأثير والتدجين المتاحة بيد الدولة، الطوعي منها والقسري، في دورة متكاملة من التحكم بموصفات الهُوية المطلوبة وخصائصها. تضرب تجارب الأنظمة الشمولية والثيوقراطية أمثلة بليغة على هذا النوع من الممارسة للتربية الجماعية (القطيعية)، الممارسة ذاتها التي تنتهجها البيئات الأصولية المتشددة في مجتمعات ضمن الدولة، وإن بسياسات سلطوية ما دون الدولة.
اليوم، في حياتنا المعاصرة والمرقمنة في خزائن البيانات، تأخذ الهُوية معنى أكثر قسوة وصرامة حين تصبح رقمًا متسلسلًا في وثيقة السفر، رقمًا مدرجًا في أنظمة التعقب وشبكات الرصد والجمارك الدولية. هويتي وهويتك بطاقة دخول وخروج بين الحواجز ومعابر الحدود. وفي أفظع الأحوال تغدو الهُوية إجابة محفوفة بالحتف على حاجز التفتيش، في سنوات القتل على الهُوية بالسكين أو بالرصاص في أنحاءٍ متفرقة من البلاد العربية. لذا يصبح تعريف الذات في المرآة دخولًا في الثقب الأسود الذي يبتلع ملامحنا ويجرفنا بقوة ناحية الجهة المتخيلة التي يحلو لنا أن نتخيل أنفسنا فيها ومنها، بوصفنا نحن من نحن.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اله ویة
إقرأ أيضاً:
يتاجرون في النقد الأجنبي.. 35 متهما يواجهون هذه العقوبة
تستكمل الدائرة الثانية إرهاب، المنعقدة بمجمع محاكم بدر، بعد قليل، محاكمة 35 متهما بالاتجار بالنقد الأجنبي خارج السوق المصرفية للإضرار بالمركز الاقتصادي للبلاد.
تعقد الجلسة برئاسة المستشار وجـدى عبـد المنعم وعضوية المستشارين عبد الجليل مفتاح وضياء عامر وسكرتارية محمد هلال.
كشفت تحقيقات النيابة العامة فى القضية رقم 54 لسنة 2024، أنه خلال الفترة من عام 2013 وحتى 8 يناير من عام 2024 المتهمون من الأول وحتى الثامن، تولوا قيادة جماعة إرهابية تستخدم القوة والعنف والتهديد والترويع، والغرض منها الإخلال بالنظام العام وتعريض سلامة المجتمع ومصالحه وأمنه للخطر وتعطيل أحكام الدستور والقوانين ومنع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها والاعتداء على الحريات الشخصية للمواطنين والإضرار بالسلام الاجتماعى.
وأضافت التحقيقات أن المتهمين من التاسع وحتى الخامس والعشرين انضموا إلى تلك الجماعة مع علمهم بأغراضها، والمتهمون من السادس والعشرين وحتى الثانى والثلاثين تلك الجماعة فى تحقيق أغراضها، وأن المتهمين جميعا اشتركوا فى جريمة تمويل الإرهاب وكان التمويل بغرض إرهابى.
وأكدت التحقيقات أن قيادات الإخوان بالخارج وفروا الدعم المالى لعناصر الجماعة فى الداخل عن طريق توفير الأموال للاتجار بالنقد الأجنبى وتهريب العملة الأجنبية للخارج، وغسل الأموال فى بعض الشركات غير المرصودة كشركات دعاية ومقاولات بهدف توفير الأموال لارتكاب عمليات عدائية، ومن أجل الاضرار المركز الاقتصادى للبلاد.
عقوبة الاتجار في النقد الأجنبيتنص المادة (233) من قانون البنك المركزى :يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات وبُغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز خمسة ملايين جنيه أو المبلغ المالي محل الجريمة أيهما أكبر، كل من تعامل في النقد الأجنبي خارج البنوك المعتمدة أو الجهات التي رُخص لها في ذلك.
وطبقا لـ قانون البنك المركزى يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز خمسة ملايين جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من خالف أيًا من أحكام المادتين (214 و215) من هذا القانون.
ويُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن المبلغ المالي محل الجريمة ولا تزيد على أربعة أمثال ذلك المبلغ أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من خالف أيًا من أحكام المادة (213) من هذا القانون.
وفي جميع الأحوال تُضبط المبالغ والأشياء محل الدعوى ويُحكم بمصادرتها، فإن لم تُضبط حُكم بغرامة إضافية تُعادل قيمتها.