عيد الأم.. والندم على الأمومة!
تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT
في تراثنا القديم حكاية عن امرأتين تنازعتا على طفل؛ بحيث ادعت كلٌّ منهما أنه ابنها، واحتكمتا في النهاية إلى النبي سليمان عليه السلام، الذي حكم – لحاجة في نفسه - أن يُشطَر الطفل إلى نصفين، تأخذ كلّ واحدة منهما نصفًا! لكن إحدى المرأتين صرخت رافضةً هذا الحكم: "أعطوها الطفل ولا تقتلوه"، بينما قالت الأخرى: "لن يكون لي ولا لك، اشطروه!".
أوردتْ هذه الحكاية الكاتبة الفرنسية ستيفاني توماس في كتابها الجريء "الندم على الأمومة: عشر نساء يروين قصصهن" (ترجمة كارول حداد، دار نوفل، 2022). وأقول "الجريء" لأننا اعتدنا أن نقرن الأمومة دائمًا بالتقديس وبالمشاعر الإيجابية: سعادة المرأة بإعلانها حملها، ودموع الفرح عند الولادة، والفخر برؤية الطفل يكبر، أما ربط الندم بالأمومة فهو يبدو للجميع – بمن فيهم مؤلفة الكتاب – "أمرًا يناقض الطبيعة"، وأنه يمكن للمرأة أن تعض أصابع الندم لأنها قررتْ في فترة ماضية من حياتها عدم الإنجاب، لكن من غير المعقول أن تندم لأنها أنجبت، مثلما قالت لستيفاني إحدى صديقاتها حين علمت أنها بصدد تأليف كتاب عن هذا الندم.
في هذا الكتاب لا تعود الأمومة كما صوّرتها الكتب الدينية، والأعراف الاجتماعية، والأفلام السينمائية، ذلك الحُلم الورديّ الذي يتوِّج وجودَ المرأة في الحياة، وإنما تجربة إنسانية شديدة التعقيد، تختلط فيها المشاعر النبيلة بأخرى لا تقل عنها عمقًا وإنْ كانت أقل تقبّلًا من الناحية الاجتماعية. تعرض ستيفاني توماس قصص عشر نساء فرنسيات مع الأمومة (والندم عليها بعد ذلك)، مقدِّمةً ما يشبه الدراسة التحليلية حول سؤال: "لماذا تندم النساء على الأمومة؟"، رغم أنها تشدد في مقدمة الكتاب وخاتمته أنها ليست عالمة اجتماع ولا عالمة نفس، ولم يكن هدفها وضع نظريات عامة حول هذا الموضوع، وإنما أرادت فقط أن تقدم للنساء اللواتي وثقن بها فرصة الحديث بدون خجل وخوف من أن ينتقدهن أحد، ولذا؛ فقد غيرت أسماءهن في الكتاب.
تنتمي هؤلاء النسوة اللواتي وثقن في ستيفاني إلى خلفيات متنوعة، وتشترك شهاداتهن في شيء واحد: أنهن نادمات؛ ليس على أولادهن، بل على الأمومة نفسها بوصفها مؤسسة قائمة على الاستنزاف والتهميش وإلغاء الذات، كما يسردن. إلسي، على سبيل المثال، قضت سنوات ترفض فكرة الإنجاب وترى في الطفل عبئًا على حياتها، حتى إنها أجهضت نفسها في 2011. لكن بعد عشر سنوات، قررت أن تحاول إنجاب طفل؛ لأنها خافت أن تندم لاحقًا على عدم المحاولة. المفارقة أنها ندمت بالفعل، ولكن على الإنجاب هذه المرة. أما كولين فسبب ندمها يعود إلى طفولتها السيئة مع أمها التي شعرتْ دومًا أنها لا تحبها، كان لسان حال الأم مع ابنتها هذه القصيدة للشاعرة البولندية أنّا سوير بعنوان "أمومة" (وقد أوردتها الكاتبة المصرية إيمان مرسال في مفتتح كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، الكتب خان، 2017): "أقول: أنتِ لن تهزميني/ لن أكون بيضةً لتشرخيها/ في هرولتك نحو العالم/ جسرَ مشاة تعبرينه/ في الطريق إلى حياتك/ أنا سأدافع عن نفسي". ولعل هذه المعاملة السيئة من الأم لابنتِها هي التي أوحت لكولين بأن الأمومة أمر سيء، خاصةً أن أمها كانت تفرّق في المعاملة بينها وبين أخيها. صحيح أن كولين أنجبت لاحقًا، لكنها ندمت، وسعت إلى الإجهاض في اللحظة الأخيرة، قبل أن تتراجع. ومع كل لحظة مع طفلها، كانت تشعر أنها ارتكبت خطأ لا يمكن التراجع عنه. وفي شهادة فيكتوريا، نجد أنها لم تشعر قَط بالارتباط بابنتها، وأن مشاعر الرفض كانت طاغية منذ اللحظة الأولى، حتى إنها لم تتمكن من احتضان طفلتها أو الفرح بها. ومع ذلك، ظلّت تحاول احتواء هذا الرفض، كأنما تخوض معركة مع ذاتها من أجل ألا تؤذي هذا الكائن الصغير الذي لا ذنب له.
في كل قصة من قصص كتاب "الندم على الأمومة"، نستطيع أن نرى خلفية من العنف، أو التهميش، أو القسر الاجتماعي، أو الكبت، أو ببساطة الفشل في مطابقة الصورة المثالية التي يتوقعها العالم من "الأم". هنا، تصبح الأمومة عبئًا ثقيلًا لا أمرًا مفرِحًا، بل إنه أقرب إلى سجن بأبواب مغلقة.
لكن لماذا تندم النساء على الأمومة؟ في محاولتها للإجابة تكشف ستيفاني توماس أن هذا الندم يستند إلى تاريخ طويل من الكبت الثقافي والضغط الاجتماعي، وتقول: إن الحروب، والنظم الاقتصادية، والدين، كلها أسهمت بهذا الشكل أو ذاك في تقديس الأمومة بوصفها وظيفة قومية أو مقدسة، وليست خيارًا شخصيًّا. إن الأمومة ليست تجربة معزولة عن الظروف الاجتماعية، كما تقول الباحثة أورنا دوناث، وهي بالمناسبة مُلهِمة ستيفاني لتأليف هذا الكتاب، بسبب دراستها عن الموضوع ذاته التي أجرتها بين عامَيْ 2008 و2013 ونُشِرتْ عام 2015. الندم – تضيف دوناث –: "يتشكل بفعل المحيط والبيئة، ويتبع الإطار الذي يحدده المجتمع". لذلك لا بد من فهمه اجتماعيًّا وليس فقط نفسيًّا.
وكانت الروائية التركية إليف شافاق قد سبقت ستيفاني توماس وأورنا دوناث في محاولتهما لفهم هذا الندم، بإحالته على عدم تعلّم الأمومة. تقول في كتابها "حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم" الصادر عام 2007 (صدرتْ طبعته العربية عام 2016 عن دار الآداب بترجمة محمد درويش): "هناك سببٌ يجعل ما لا يحصى من النساء يقلن إنَّ الأمومة هي أحنُّ ما جرى عليهنَّ في الحياة، وأنا أتفق مع ذلك من أعماق قلبي، غير أنَّ المرأة لا تصير أمًّا بمجرد الإنجاب، بل عليها أن تتعلَّم الأمومة، إنَّها معرفة، يأخذ استيعابها عند البعض أطول من الآخرين". بيد أن هذه المعرفة عن الأمومة كانت متأتية بامتياز لدى كلارا (إحدى النساء العشر النادمات على الأمومة في كتاب ستيفاني توماس). تقول كلارا: إنها لم تستمتع بطفولتها ولا مراهقتها؛ لأن أمها المكتئبة دومًا حمّلتها مسؤولية رعاية إخوتها. وحين تزوجت لاحقًا وأنجبت أطفالًا، لم تشعر بالفرح، بل بالثقل، لأن الأمومة عندها بدأت مبكرًا جدًّا، من قبل أن تصبح أمًّا فعلًا.
وبالعودة إلى "حليب أسود" تكتب شافاق في مقدمة هذا الكتاب أن الأمومة جعلت الكاتبة التي في داخلها تصاب بالذعر، والمرأة التي فيها تضطرب، والشخصيات كلها تتضارب داخل جسد واحد. "عندما داهمني اكتئاب ما بعد الولادة باتت شخصيتي أشلاء متناثرة يصعب ترقيمها من جديد". ومن المهم التذكير هنا أن "حليب أسود" بقدر ما كان كتابًا عن شافاق، كان أيضًا عن كاتبات أخريات منذ القرن الثامن عشر إلى القرن الحادي والعشرين، فقد استدعت سِيَرَهنّ فيما يخص تعاملهنَّ مع الأمومة: هل أنجبن؟ وكيف تمكنّ من الكتابة وتربية الأبناء في الوقت نفسه؟ وهل كُنَّ راضيات عن كونهنّ أمهات؟ وهل أثرت الأمومة على كتابتهن سلبًا أو إيجابًا؟ وفي النهاية يتوصل قارئ "حليب أسود" إلى أنَ كلَّ كاتبة منهنَّ تعاطت مع الأمومة من زاوية مختلفة عن الأخرى.
تتنوّع أسباب الندم، لكن الشعور بالذنب يبدو "وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن" كما تكتب إيمان مرسال في كتابها الذي سبقت الإشارة إليه. يكمن هذا الشعور بالذنب "في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوة والحب والعمل والصداقة، هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية". وتضيف مرسال أن "الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاك في لحظة الولادة وشق صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشر، حررها من هويتها السابقة وشفاها من العدمية أو الطموح، تمامًا كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبوة"، مؤكِّدةً أن هذا الشعور بالذنب غير مرتبط بالتقصير فقط، ولا بتمزق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة، بل "ينبثق أحيانًا من نموذج مثالي للأمومة حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم... إلخ. وقد يأتي أيضًا من التاريخ الشخصي السابق على الأمومة".
لا أدري إلى أي مدى هو أمر حصيف الحديث عن أمهات نادمات على الأمومة، أو متذمرات منها، في هذه الأيام بالذات، حيث يحتفل العالم من أقصاه إلى أقصاه بالأم، وبصورتها المثالية ناصعة البياض. غير أنني أؤمن أن هؤلاء الأمهات اللواتي أدلين بشهاداتهن لستيفاني توماس في كتاب "الندم على الأمومة"، وقبلها لأورنا دوناث في دراستها، وكذلك إليف شافاق والكاتبات اللواتي تحدثت عنهن في كتابها "حليب أسود"، وأيضًا إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم" والشاعرة البولندية في قصيدتها "أمومة"، كل هؤلاء الأمهات لم ينطلقن في ندمهن أو شعورهن بالتقصير من كراهية للأمومة أو رفض لها. بل من أجلها؛ من أجل أمومة أكثر صدقًا، ونبلًا، وإنسانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی کتابها فی کتاب
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: المرأة في مصر ليست أمًا وزوجة فقط
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، اليوم الجمعة، إن المرأة المصرية كانت وما تزال رمزًا للعلم والإيمان والعمل الصالح، مشيرًا إلى أنها حملت القرآن في قلبها وعلَّمت الأجيال، وكانت نموذجًا في الصبر والعطاء.
وأضاف مفتي الجمهورية في مناسبة ذكرى عيد الأم، أن المرأة في مصر ليست أمًّا وزوجة فقط، بل هي معلِّمةٌ ومفكرةٌ وداعيةٌ إلى الخير، موضحًا أنها تحمل في روحها قوة الإيمان وسكينة اليقين.
ودعا مفتي الجمهورية الله سبحانه أن يحفظ نساء مصر، وأن يجعلهنَّ دائمًا منارات علم وأخلاق، وأن يزدهن رفعة ومكانة.