مفتي الجمهورية: التلاعب بالمحتوى في الفضاء الرقمي من صور الكذب المحرم
تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT
أكَّد الدكتور نظير عياد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أن قضية أخلاقيات التعامل مع الفضاء الرقمي والذكاء الاصطناعي تعد من أهم القضايا المعاصرة، في عصرٍ أصبحت فيه هذه المقتنيات العلمية جزءًا من حياتنا اليومية.
وأوضح مفتي الجمهورية، في حديثه الرمضاني، أن التقنيات الحديثة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من واقعنا، مشيرًا إلى أن الذكاء الاصطناعي غيَّر كثيرًا من طرق التواصل، ووسَّع مجالات المعرفة، وأصبح شريكًا فاعلًا في مجالات التعليم والاقتصاد والطب والإعلام، لكنه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات جوهرية تتعلق بالقيم والضوابط التي يجب أن تحكم استخدامه.
وقال المفتي: "إن الإسلام ليس دينًا منغلقًا على نفسه، بل هو دين يتفاعل مع الواقع ويوجِّه الإنسان لاستخدام كل ما هو جديد في إطار تحقيق الخير ورفض الشر، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
وأوضح أن التقدم التكنولوجي، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، هو جزء من التسخير الإلهي، بشرط أن يُستخدم فيما يعود بالنفع على البشرية، مؤكدًا أن التكنولوجيا لا تُرفض في ذاتها، وإنما يُنظر في أثرها وطريقة استخدامها.
وأشار إلى أن الفضاء الرقمي بات عالمًا متكاملًا، يضم وسائل التواصل، والمنصات التعليمية والتجارية، والمواقع المعرفية، وهذا يتطلَّب مجموعة من الضوابط الأخلاقية التي تحفظ حقوق الفرد والمجتمع، ومنها الصدق والأمانة في نقل المعلومات، إذ إن ترويج الأخبار الكاذبة، وتزييف الحقائق، والتلاعب بالمحتوى يُعد من صور الكذب المحرم.
كما نبَّه إلى خطورة التهاون في نشر المعلومات دون تثبُّت، مشددًا على أنَّ المسلم يجب أن يكون واعيًا ومسؤولًا عند مشاركة أي معلومة، مضيفًا أن من المبادئ الأصيلة في الشريعة الإسلامية احترام خصوصية الآخرين، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12]، فالتجسس الإلكتروني، واختراق الحسابات، ونشر المعلومات الشخصية دون وجه حق يُعد انتهاكًا صارخًا للقيم الإسلامية.
كما أكد على ضرورة تجنب خطاب الكراهية والتحريض، مشيرًا إلى أن الإسلام أمر بالكلمة الطيبة، فقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، ورفض الفتنة والنيل من الآخرين بأي وسيلة كانت، بما في ذلك التعليقات والمنشورات عبر الوسائط الرقمية.
نشر الأكاذيبوحذَّر من الانسياق وراء أساليب التشهير والابتزاز، مشيرًا إلى أن الإضرار بالآخرين في الفضاء الرقْمي –سواء كان ذلك عن طريق التهديد، أو الاحتيال، أو نشر الأكاذيب– أمرٌ محرَّم، ويتنافى مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية من مبادئ الرحمة والعدل.
أما فيما يتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي، فأوضح مفتي الجمهورية أن من الضروري أن يكون الاستخدام مؤطرًا بجملة من المبادئ الأخلاقية المتوافقة مع الإسلام، في مقدمتها تحمُّل المسؤولية الأخلاقية عن القرارات الناتجة عن هذه التقنيات، وضرورة وجود رقابة بشرية، خاصة في المجالات الحساسة، مثل الصحة.
كما شدَّد على ضرورة مراعاة العدل وعدم التحيز، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، مؤكدًا أن أي انحياز في الخوارزميات أو توجيه للنتائج بما يخدم فئة دون أخرى يُعد خللًا أخلاقيًّا جسيمًا يجب معالجته.
وأشار إلى أن من أبرز التحديات كذلك الاستخدام غير الأخلاقي للبيانات، حيث لا يجوز استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالمعلومات أو التأثير السلبي على قرارات الأفراد أو انتهاك حقوقهم.
التزييف العميقوفي هذا السياق، حذَّر مفتي الجمهورية من التوسع في استخدام ما يُعرف بـ"التزييف العميق"، وهو أحد أخطر التطبيقات الحديثة للذكاء الاصطناعي، حيث تُستخدم هذه التقنية في تغيير الصور والمقاطع الصوتية والفيديوهات بطريقة دقيقة تضلِّل المتلقِّي وتشوِّه الحقيقة، مؤكدًا أن هذه الممارسات تندرج تحت طائلة الكذب المحرم شرعًا، وأنها تمثل تهديدًا مباشرًا للأمان المجتمعي والاستقرار الفكري.
واختتم مفتي الجمهورية حديثه مؤكدًا أن الإسلام يضع لنا منهجًا واضحًا في التعامل مع الفضاء الرقمي ومع الذكاء الاصطناعي، بحيث يكون هذا التقدم التكنولوجي نعمة لا نقمة، وأداة بناء لا وسيلة هدم،
وفي الختام دعا المفتي المسلمين أن يكونوا قدوة في هذا الباب، منفتحين على كل جديد، بشرط أن يكون الهدف تحقيق الخير للإنسانية، سائلًا المولى تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل البصيرة، وأن يوفقنا لاستخدام العلم فيما ينفع البلاد والعباد والإنسانية جمعاء.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: مفتي الجمهورية الإفتاء الفضاء الرقمي الذكاء الاصطناعي القضايا المعاصرة التقنيات الحديثة المزيد الذکاء الاصطناعی مفتی الجمهوریة الفضاء الرقمی مؤکد ا أن أن یکون إلى أن
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف: التقوى تهذّب النفوس فلا يكون هناك نزاع ولا شجار ولا فرقة
أوضح الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، في حلقة جديدة من برنامجه "اللؤلؤ والمرجان" معاني ودلالات الجزء التاسع عشر من القرآن الكريم، ليبيَّن بعضًا مما فيه من العلوم والمعارف والهُدى، ويتوقف عند عدد مما أودعه الله تعالى في هذا الجزء من اللؤلؤ والمرجان، والقيم، والحقائق، والمعاني.
استعرض وزير الأوقاف في وقفة تأملية قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان: ٧٤)، موضّحًا أنَّ هذه الآية الكريمة تأتي في خواتيم سورة الفرقان، حيث يصف الله تعالى أوصافًا متعددة لعباده الذين قال فيهم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُوا سَلَٰمًا﴾ (الفرقان: ٦٣).
ويستمر الحق سبحانه في وصف عباد الرحمن في مقطع مطوّل من خواتيم السورة، حيث يبيّن صفاتهم الزاكية، وأخلاقهم الراقية، وسلوكهم الحسن، وعقولهم الراجحة، ومن ضمن هذه الصفات أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء لأنفسهم ولذرياتهم، يسألونه النفع والتقوى، فيقولون:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.( الفرقان ٧٤).
ويطرح هنا سؤالًا: لماذا أفرد الله تعالى لفظ "إمامًا"؟
لماذا قال: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" بصيغة المفرد، ولم يقل: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ أَئِمَّةً" بصيغة الجمع؟
ولفت الوزير إلى أن الله -سبحانه وتعالى- أفرد اللفظ؛ لأن مشرب المتقين مشرب واحد، وكأنَّ المتقين جميعًا ينصهرون في شخص واحد، إذ إن التقوى تهذّب النفوس، فلا يكون هناك نزاع ولا شجار ولا فرقة، فتجتمع قلوبهم، تمامًا كما قال النبي ﷺ: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد".
فكأن هذا المعنى ينعكس في الآية الكريمة، حيث جعل الله المتقين كيانًا واحدًا، وكأنهم شخص واحد، فقال: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا".
ويطرح أيضا سالًأ آخر، لماذا قال تعالى: "إمامًا" ولم يقل: "مؤتمًّا بالمتقين"؟ كان يمكن للإنسان أن يدعو قائلًا: "يا رب، اجعلني مقتديًا بالمتقين، متأسيًا بهم، متبعًا لهم".
يوضح الدكتور أسامة الأزهري أن الله -سبحانه وتعالى- يرفع الطموح في هذه الدعوة، فيجعل الإنسان لا يكتفي بأن يكون مقتديًا، بل يطلب أن يكون إمامًا للمتقين.
واستشهد بتفسير الإمام مجاهد بن جبر -رضي الله عنه-، أحد أئمة التفسير، وتلميذ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، إذ يقول: إنَّ في هذه الآية تفسيرًا عجيبًا، إذ يقول: "واجعلنا للمتقين إمامًا" أي اجعلنا مؤتمّين بالمتقين.. بمعنى أن الإنسان لا يصل إلى درجة أن يكون إمامًا للمتقين من بعده إلا إذا كان هو نفسه قد ائتَمَّ بالمتقين من قبله.
وانتقل الدكتور إلى وقفة أخرى مع قصة موسى وهارون-عليهما السلام- في سورة الشعراء.. في بداية سورة الشعراء، يقول الله تعالى على لسان موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَٰرُونَ﴾(الشعراء: ١٢-١٣)، ثم يقول الله تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء: ١٦).
وهنا سؤال: لماذا قال الله تعالى: "إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ" بصيغة المفرد، ولم يقل: "إِنَّا رَسُولَانِ"؟ الإجابة تكمن في أن موسى وهارون جاءا بمنهج واحد، فكانا بمثابة شخص واحد في حمل الرسالة، لذلك خاطبهما الله بصيغة المفرد، لأن الرسالة واحدة، والشرع واحد، والهداية واحدة.
وبيّن الوزير أن هذا المعنى يتكرر في موضع آخر من السورة، إذ يقول الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء: ١٠٥).
مع أن قوم نوح لم يكذّبوا إلا نبيًّا واحدًا، وهو نوح عليه السلام، لكن الله اعتبر تكذيبهم لنوح تكذيبًا لكل المرسلين، لأن رسالتهم واحدة، وهدايتهم واحدة، وشرعهم واحد.
ثم ينتقل الوزير إلى وقفة أخرى يوضح من خلال القرآن فيها بركة مصر وأهلها.
ففي سورة النمل، يقول الله تعالى:
﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (النمل: ٨).
هذه الآية تشير إلى موضع تجلي الله لموسى في طور سيناء بمصر.
وبين أن هنا تشابهًا مع آية أخرى في سورة الإسراء:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ (الإسراء: ١).
ويوضح فضيلة الدكتور أن الفرق بين الموضعين يكمن في أن البركة في بيت المقدس بركة مكان، أما في مصر فبركة إنسان، لأن الله تعالى قال: "بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا"، فجعل البركة في الأشخاص، مؤكّدا من خلال ذلك أن أعظم ثروة لمصر ليست في أرضها، بل في أبنائها.
واختتم الدكتور أسامة الأزهري الحلقة بالتوجّه إلى الله تعالى بالدعاء، أن يخلِّقنا سبحانه بأخلاق القرآن، وأن يجعلنا من المتقين، وأن يبارك في مصر وأهلها، وأن يجمع قلوبنا على الخير.