السودان وتحالف التأسيس: من تفويض السلطة إلى اعادةُ بناء الدولة
تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT
بقلم: د. أحمد التجاني سيد أحمد
من كينيا وإثيوبيا إلى السودان: تجارب تفويض السلطة وبناء الدولة الحديثة
في خضم البحث عن نموذج للخروج من الأزمات السياسية والانقسامات البنيوية في السودان، تبرز تجارب بعض دول الجوار – ككينيا وإثيوبيا – بوصفها مختبرات سياسية تقدم دروسًا نافعة في إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف، عبر آليات تفويض السلطة وإعادة توزيع النفوذ، وصولًا إلى شكل من أشكال الدولة الحديثة التي توازن بين الوحدة الوطنية والاعتراف بالتعددية.
كينيا: تفويض السلطة من المركز إلى الحكومات الإقليمية
نجحت كينيا، إلى حد كبير، في تطبيق نموذج اللامركزية عبر تفويض السلطات للحكومات الإقليمية، وهو ما ساعد في تخفيف الاحتقان السياسي، وإعادة توزيع الموارد، وتقريب السلطة من المواطنين. بدأت هذه العملية بعد موجات من التوتر السياسي والعرقي، لاسيما بعد انتخابات 2007، حين أدركت النخب السياسية الكينية أن استمرار الحكم المركزي الصلب سيؤدي إلى انهيار الدولة.
فجاء الدستور الكيني لعام 2010 ليؤسس لنظام الحكم اللامركزي (Devolution)، مانحًا كل مقاطعة سلطات واسعة في إدارة مواردها المحلية، والتنمية، والتعليم، والصحة. وقد واجهت التجربة تحديات – أبرزها الفساد وسوء الإدارة – لكنها ظلت إطارًا قابلاً للتطوير، ومصدرًا نسبيًا للاستقرار.
إثيوبيا: قطيعة صعبة مع المركز الإمبراطوري
أما في إثيوبيا، فقد كان الانتقال من الحكم المركزي الإمبراطوري إلى النظام الفيدرالي القومي أكثر تعقيدًا وحسمًا. ظل الحكم الإمبراطوري (بقيادة الأمهرا ومن بعدهم التغراي) متمسكًا بسيطرة المركز على كامل مفاصل الدولة، ومارس سياسات استيعاب ثقافي وإقصاء قومي، حتى جاءت ثورة 1991 بقيادة الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا (EPRDF).
ألهم الله إثيوبيا رجلًا فذًا، ملس زيناوي، الذي جمع بين الفكر السياسي والبُعد الاستراتيجي، فأسّس لنظام فيدرالي يمنح القوميات حق الحكم الذاتي، بل وحتى حق تقرير المصير. ورغم ما في التجربة من تناقضات وتحديات، إلا أنها مكّنت قوميات كثيرة من التعبير عن هويتها، وإنشاء مؤسساتها، وكسر احتكار السلطة المركزية.
جاء من بعده قائد إداري هادئ، ثم أتى آبي أحمد، الحاصل على دراسات في السلام والسوسيولوجيا، والذي حاول الجمع بين خطاب وطني وحدوي وبين مؤسسات فيدرالية قائمة على الهوية القومية. لكن هذا التوازن كان هشًا، وفشله ساهم في تفجر الصراع الأهلي، خاصة في إقليم التغراي، ثم لاحقًا في أقاليم أخرى.
السودان: الحاجة إلى نموذج ثالث
بالنظر إلى السودان، يبدو أن النقاش حول الوحدة والانقسام، المركز والهامش، لا يزال مرهونًا بمفاهيم قديمة لم تنتج إلا الفشل والتفكك. تجربة السودان ظلت أسيرة تصور مركزي أحادي، يتجاهل التعدد الثقافي والقومي، ويعتمد على نخبة سلطوية تفرض تصورها للحكم والهوية بالقوة أو بالتضليل.
لكن ما بعد الثورة السودانية، وما كشفته من طموحات شعبية واسعة لبناء سودان جديد، يفرض علينا أن نستلهم من التجارب الإقليمية – لا لنقلدها، بل لنتعلّم منها. فكينيا تعلّمت من أزمتها، وأعادت توزيع السلطة في الداخل. وإثيوبيا – رغم فشل بعض جوانب تجربتها – واجهت المعضلة القومية بجرأة لا يمكن إنكارها.
ولعلّ السودان اليوم بحاجة إلى صياغة مشروع وطني جديد، يعترف بالتنوع لا كتهديد، بل كقيمة، ويعيد ترتيب العلاقة بين المركز والأطراف، ويمنح الأقاليم الحق في إدارة شؤونها عبر آليات ديمقراطية تضمن العدالة والتمثيل الحقيقي، لا الوعود الخاوية أو المحاصصات المغلقة.
في لحظة يتكثف فيها التاريخ السوداني بين الرماد والرؤية، يبرز تحالف تأسيس السودان (تأسيس) كإطار سياسي وفكري جديد، لا يكتفي بالشعارات أو ردود الأفعال، بل يستند إلى مؤتمر تأسيسي واسع، أفضى إلى التوقيع على ميثاق تأسيسي وطني ودستور انتقالي، يمثلان محاولة جادة لإعادة تعريف الدولة السودانية من الجذور.
التحالف لا يسعى إلى استبدال سلطة بسُلطة، بل إلى إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تتجاوز فكرة احتكار المركز، وتتجاوز الفكرة الأحادية للدولة، نحو دولة تعترف بالتعدد، وتفوض السلطة، وترد الكرامة للمواطن.
دروس من الجوار: لامركزية كينيا وفيدرالية إثيوبيا
في هذا السياق، لا يمكن للسودان أن يعيد اختراع العجلة. تجربة كينيا في تفويض السلطة بعد دستور 2010، تُظهر كيف يمكن لنظام لا مركزي أن يخفف التوتر السياسي، ويعيد توزيع الموارد، ويقرب القرار من المواطن.
في المقابل، تقدم إثيوبيا نموذجًا مختلفًا، حيث انتقل البلد من إمبراطورية مركزية إلى فيدرالية قائمة على القوميات، منحت الأقاليم حق التشريع وإدارة شؤونها، رغم ما شاب التجربة من تعقيدات.
يقرأ "تحالف تأسيس السودان" هذه التجارب بعين فاحصة: تفويض حقيقي لا شكلي، وتمثيل عادل لا محاصصة مدمّرة. فالهدف هو إعادة صياغة العلاقة بين المركز والهامش، وبناء توازن جديد يعكس واقع السودان وتنوعه.
الحوكمة: ما نتعلمه من رواندا وكينيا
لا معنى لحكم انتقالي ثوري بلا مؤسسات فعالة. وهنا تبرز رواندا كنموذج أفريقي صارم في مكافحة الفساد، بناء الإدارة الرقمية، وربط الأداء بالنتائج. كذلك فعلت كينيا بتعزيز دور المؤسسات الرقابية ومشاركة المجتمع المدني في صنع القرار.
"تحالف تأسيس السودان" يرى أن إعادة البناء لا تمر عبر التسويات فقط، بل عبر بناء نظام حوكمة عصري: مستقل، شفاف، ومفتوح للمساءلة. دولة لا تحرسها المليشيات، بل تحكمها مؤسسات وخدمات وكفاءة.
منظمةًIGAD والمناخ والزراعة: المصير المشترك
التحولات المناخية لم تعد مسألة بيئية فحسب، بل تهديد وجودي لمجتمعاتنا. وهنا تلعب منظمة إيقاد دورًا حيويًا في التنسيق الإقليمي لمواجهة الجفاف والتغير المناخي. من خلال برامج مثل الإنذار المبكر، الزراعة الذكية مناخيًا، وإطار الاستثمار الزراعي الإقليمي (RAIP)، يمكن للسودان أن يعيد تأهيل مشاريعه الزراعية الكبرى، ويضمن أمنًا غذائيًا حقيقيًا.
من المؤتمر إلى الحكم: ترميم ما دُمّر
مشروع تحالف التأسيس السوداني لا يقف عند التنظير. فبعد الميثاق والدستور، تأتي المرحلة العملية:
-* ترميم الخدمات الأساسية التي دمرتها الحرب والانهيار الإداري.
-* إعادة الأمن للمواطن، لا بالأجهزة القمعية، بل بمنظومة عدالة متوازنة.
-* تحريك عجلة الإنتاج الزراعي وخلق فرص عيش كريمة.
إن الحكم الثوري، كما يتصوره هذا التحالف، يبدأ بتأمين المواطن وحمايته من تغول العسكر والمليشيات العنصرية، وإصلاح ما دُمّر، ثم بناء ما هو ممكن، لا انتظار ما هو مثالي.
خاتمة: السودان الممكن
إن ما يطرحه "تحالف تأسيس السودان" ليس يوتوبيا، بل مشروع وطني واقعي نابع من قلب الأزمة. لا يخشى الاعتراف بالأخطاء، لكنه لا يهادن في المبادئ. يرى في تجربة كينيا وإثيوبيا ورواندا وIGAD أدوات إلهام، لا نماذج جامدة.
وإذا كان السودانيون قد فاجأوا العالم بثورة شعبية فريدة، فإن عليهم اليوم أن يدهشوه مرة أخرى بدولة جديدة، لا تُبنى على خطابات الخارج، بل على إرادة الداخل، وفكر لا يخاف من المستقبل.
نواصل
د. احمد التيجاني سيد احمد
٢١ مارس ٢٠٢٥ نيروبي كينيا
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: تفویض السلطة
إقرأ أيضاً:
الرئيس السيسي: المرأة المصرية ركيزة أساسية في بناء الدولة
أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن المرأة المصرية تلعب دورًا محوريًا في بناء الدولة والمساهمة الفعالة في تنميتها، مشيراً إلى تقدم المرأة في مختلف المجالات.
وتحدث الرئيس السيسي خلال مشاركته في لقاء تكريم المرأة المصرية والأم المثالية، عن تكريم أمهات مصر، مؤكدًا أنهن رمز للتضحية والإلهام، وقدمن الكثير لهذا الوطن، مشيرًا إلى أنهن يعكسن الصمود والقدرة على مواجهة التحديات.
المرأة المصرية شريكة في بناء الوطنوأكد الرئيس السيسي أن المرأة المصرية كانت دائمًا شريكًا حقيقيًا في بناء أمجاد الوطن، وشاركت في مختلف مراحل النمو والتقدم.
وأوضح الرئيس السيسي أن الأم المصرية ليست مجرد حاضنة لأبنائها، بل هي أيضًا حاضنة للهوية الثقافية والوطنية، تقوم بدور أساسي في الحفاظ على التراث.
وأشار الرئيس إلى أن الأم المصرية تزرع في نفوس الأجيال القادمة قيم الحب والتسامح والانتماء، مما يساعد على بناء جيل واعٍ وقادر على تحمل المسؤولية.
واختتم الرئيس السيسي حديثه مؤكدًا أن المرأة المصرية هي أساس الأسرة وأعمدة المجتمع، وأنها كانت دومًا العنصر الفاعل في بناء المجتمع المصري من خلال دورها في كل المجالات.