بقلم: تاج السر عثمان

1
تهل علينا بعد إيام معدودات الذكرى ال ٤٠ لانتفاضة مارس- أبريل 1985 التي انطلقت في ٢٦ مارس، واستمرت حتى الإطاحة بالديكتاتور النميري ، والتي تتزامن مع الذكرى السادسة لاعتصام القيادة العامة في أبريل 2019 الذي افضي للاطاحة بالبشير ، والبلاد تمر بظروف الحرب اللعينة الجارية حاليا التي دمرت البلاد والعباد، وتهدد بتقسيم البلاد، بتكوين حكومة موازية غير شرعية خارجة من رحم حكومة بورتسودان غير الشرعية.

فضلا عن هدف الحرب لتصفية الثورة، والتمكين في الأرض لنهب الطفيلية الاسلاموية في قيادة الجيش والدعم السريع وبقية المليشيات لنهب ثروات البلاد، بدعم من المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب.
إضافة لتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والإنسانية، ونزوح حوالي ١٢ مليون شخص داخل وخارج البلاد، وتهدد المجاعة حوالي ٢٦ مليون مواطن سوداني، وخطر الافلات من العقاب بمحاسبة كل الذين ارتكبوا جرائم الحرب وضد الانسانية، الذي يشجع على ارتكاب المزيد من الجرائم، ومصادرة حقوق الإنسان كما في حملات الاعتقالات والمحاكمات الكيدية، التعذيب الوحشي حتى الموت في سجون طرفي الحرب، والانتهاكات الفظيعة كما في الإبادة الجماعية وحالات الاغتصاب والانتهاكات الجنسية، التي وثقتها المنظمات الحقوقية وكما كشفت السجون للدعم السريع في سوبا وغيرها، فضلا عن خطر إطالة أمد الحرب وتحويلها إلى عرقية و قبلية تؤدي لتمزيق وحدة البلاد، وتهدد الاستقرار الإقليمي والدولي.
مما يتطلب تصعيد النضال الجماهيري في الداخل والخارج لوقف الحرب واسترداد الثورة، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات وجيوش الحركات من السياسة والاقتصاد.
2
كما أوضحنا في دراسات سابقة، لم تكن انتفاضة أبريل حدثا عفويا، بل كانت نتاج تراكم نضالي طويل خاضه شعب السودان ضد ديكتاتورية نظام النميري ، والذي اتخذ الأشكال الآتية : –
* المقاومة المسلحة في الجزيرة ابا والتي قمعها النظام عسكريا بوحشية ودموية، عبرت عن هلع وضعف الديكتاتورية العسكرية.
* مقاومة ضباط انقلاب 19 يوليو 1971م الذين اطاحوا بحكم الفرد ، وبعد الفشل ، استشهد العسكريون: الرائد هاشم العطا و المقدم بابكر النور والرائد فاروق عثمان حمدالله وغيرهم من العسكريين البواسل ، وقادة الحزب الشيوعي: عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ وجوزيف قرنق، واعتقال وتشريد الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين بعد يوليو 1971م.
*وبعد انقلاب 22 يوليو 1971م الدموي، تواصلت المقاومة الجماهيرية، وكانت مظاهرات واعتصامات طلاب المدارس الصناعية عام 1972، والمظاهرات ضد زيادات السكر في مايو 1973م ، والتي أجبرت النظام علي التراجع عنها، كما انفجرت انتفاضة اغسطس 1973م والتي قادها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وبعض النقابات. وفي العام 1974م كانت هناك مظاهرات طلاب كلية الطب في الاحتفال باليوبيل الفضي للكلية ضد السفاح نميري، واعتصام طلاب جامعة الخرطوم في ديسمبر 1973م، من أجل عودة الاتحاد الذي تم حله، واطلاق سراح المعتقلين وحرية النشاط السياسي والفكري في الجامعة، والمظاهرات التي اندلعت ضد الزيادات في السكر والأسعار، واضرابات ومظاهرات طلاب المدارس الثانوية في العاصمة والأقاليم عام 1974م من اجل انتزاع اتحاداتهم وضد اللوائح المدرسية التي تصادر حقهم في النشاط السياسي والفكري المستقل عن السلطة والإدارات المدرسية حتي نجحوا في انتزاع اتحاداتهم.
وفي دورة يناير 1974م، أجابت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني علي سؤال ما هو البديل؟: وأصدرت وثيقة بعنوان ” مع الجماهير في قضاياها وتساؤلاتها حول : البديل – القيادة – الأداة ” طرحت فيها شعار الإضراب السياسي العام والانتفاضة الشعبية كأداة للاطاحة بالسلطة.
– وفي سبتمبر 1975م، وقعت المحاولة الانقلابية التي قام بها المقدم حسن حسين، وتم اغلاق جامعة الخرطوم، وتقديم قادة الانقلاب لمحاكمات واستشهادهم في “وادي الحمار” بالقرب من مدينة عطبرة.
– وفي2 يوليو 1976م، كانت المقاومة المسلحة من الخارج التي نظمتها الجبهة الوطنية (الأمة ، الاتحادي، الإخوان المسلمون) ، وبعد فشل المحاولة تم اعدام قادتها العسكريين والمدنيين (العميد محمد نور سعد، ..الخ)، وتم التنكيل بالمعتقلين بوحشية، وتم وصف سودانيين معارضين( بالمرتزقة)!!!.
3
– وفي اغسطس 1977م، تمت المصالحة الوطنية والتي شارك بموجبها في السلطة التنفيذية والتشريعية أحزاب الأمة (الصادق المهدي) والاتحادي الديمقراطي (محمد عثمان الميرغني) والإخوان المسلمون (مجموعة د. حسن الترابي) ، ورفضت أحزاب الشيوعي والاتحادي (مجموعة الشريف الهندي) و البعث. الخ، المشاركة في السلطة، وتحت هيمنة نظام الحزب الواحد و”اجندة” نميري، وحكم الفرد الشمولي، والذي كان يهدف من المصالحة لشق صفوف المعارضة واطالة عمره والتقاط انفاسه التي انهكتها ضربات المعارضة المتواصلة.
– وبعد المصالحة الوطنية تواصلت الحركة الجماهيرية ، وكانت اضرابات المعلمين والفنيين وعمال السكة الحديد، وانتفاضات المدن (الفاشر، سنجة، سنار، الأبيض. الخ)، وانتفاضات الطلاب، واضرابات الأطباء والمهندسين والقضاء، والمزارعين، ومعارك المحامين من أجل الحقوق والحريات الديمقراطية، وندواتهم المتواصلة التي كانت في دار نقابة المحامين ضد القوانين المقيدة للحريات.
– وفي مايو 1983م وبعد خرق النميري لاتفاقية اديس ابابا بعد قرار تقسيم الجنوب، انفجر التمرد مرة اخري بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تزعمها جون قرنق، وزادت النيران اشتعالا بعد إعلان حالة الطوارئ وقوانين سبتمبر 1983م، والتي كان الهدف منها وقف مقاومة المعارضة الجماهيرية المتزايدة، ولكن المقاومة زادت تصاعدا بعد تطبيق تلك القوانين في ظروف ضربت فيها المجاعة البلاد، وتفاقم الفقر والبؤس بعد تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي منذ العام 1978 التي أدت لتخفيض العملة وانهيار الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي، والزيادات المتوالية في الأسعار وشح المواد البترولية، اضافة لفقدان البلاد لسيادتها الوطنية بعد اشتراك السودان في مناورات قوات النجم الصاعد ، ترحيل الفلاشا إلى اسرائيل، ديون السودان الخارجية التي بلغت 9 مليار دولار، تفاقم الفساد الذي كان يزكم الأنوف، تدهور مؤسسات السكة الحديد والنقل النهري ومشروع الجزيرة والتدهور المستمر في قيمة الجنية السوداني. وتواصلت المقاومة ضد قوانين سبتمبر ، وتم الاستنكار الجماهيري الواسع لإعدام الشهيد الأستاذ محمود محمد طه في 18 يناير 1985م. وبعد ذلك بدأت المقاومة تأخذ اشكالا اكثر اتساعا وتنظيما وتوحدا، وتم تكوين التجمع النقابي والقوي السياسية الذي قاد انتفاضة مارس – ابريل 1985م، بعد الزيادات في الأسعار التي أعلنها النظام في أول مارس 1985م، وتواصلت المظاهرات ضد الزيادات في بعض المدن مثل: عطبرة من أول مارس وحتى 6 ابريل، عندما أعلن التجمع النقابي الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي اوقف الإنتاج وشل جهاز الدولة وأخيرا انحياز المجلس العسكري والذي اعلن الاطاحة بالنظام.
كان من عوامل ضعف الحركة السياسية والجماهيرية هو تشتتها ، ولم تتوحد الا في أبريل 1985م، أي في اللحظات الأخيرة لنهاية نظام مايو في ميثاق التجمع الوطني لانقاذ الوطن.
4
من السرد أعلاه يتضح عمق وشمول المقاومة الجماهيرية والعسكرية للنظام التي كانت تتراكم يوميا حتي لحظة الانفجار الشامل ضد النظام، وان مظاهرات طلاب الجامعة الإسلامية الأخيرة كانت الشرارة التي فجرت الغضب المكنون ضد النظام، فقبل مظاهرة طلاب الجامعة الإسلامية قامت مظاهرات وانتفاضات جماهيرية كالتي أشرنا لها سابقا، فلماذا لم تقم الانتفاضة الشاملة ضد النظام؟
وتوضح تجربة الثورة المهدية وثورة اكتوبر 1964م وتجربة انتفاضة مارس – ابريل 1985، وثورة ديسمبر2018 في السودان أن الانتفاضة تقوم عندما تتوفر ظروفها الموضوعية والذاتية والتي تتلخص في :
الأزمة العميقة التي تشمل المجتمع باسره، ووصول الجماهير لحالة من السخط بحيث لا تطيق العيش تحت ظل النظام القديم.
الأزمة العميقة التي تشمل الطبقة أو الفئة الحاكمة والتي تؤدي الي الانقسام والصراع في صفوفها حول طريقة الخروج من الأزمة، وتشل اجهزة القمع عن أداء وظائفها في القهر، وأجهزة التضليل الأيديولوجي للجماهير.
– وأخيرا وجود القيادة الثورية التي تلهم الجماهير وتقودها حتي النصر.
وتلك كانت من أهم دروس انتفاضة مارس- ابريل 1985م، التي يجب استلهامها لوحدة الحركة الجماهيرية من أجل وقف الحرب واسترداد الثورة، وقيام الحكم المدني الديمقراطي، وعدم الإفلات من العقاب، وعدم إعادة التسوية والشراكة مع العسكر والدعم السريع التي تعيد إنتاج الحرب بشكل أوسع من السابق، وحل كل المليشيات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية،وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والأمنية وعودة النازحين لمنازلهم وقراهم ومدنهم، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وقيام المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية للتوافق على شكل الحكم ودستور ديمقراطي وقانون انتخابات يفضي لانتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية،وغير ذلك من أهداف الثورة ومهام الفترة الانتقالية.

alsirbabo@yahoo.co.uk  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

كشف تفاصيل تجارة النفط غير المشروعة التي تُبقي ليبيا منقسمة

قالت صحيفة "فايننشال تايمز" إن تهريب الوقود المدعوم إلى خارج ليبيا وبيعه في الخارج، يساعد على دعم الفصائل السياسية المتنافسة هناك، ويساهم في عرقلة جهود الأمم المتحدة لإجراء انتخابات، والحد من الفساد، وتوحيد البلاد تحت حكومة.

وأضافت في تقرير ترجمته "عربي21" إنه في أواخر آذار/ مارس 2024، اختفت سفينة "ماردي"، وهي ناقلة منتجات نفطية تبحر رافعة علم الكاميرون، تماما من قواعد بيانات تتبع السفن بعد أن قضت يومين تجوب البحر الأبيض المتوسط شرق مالطا. ثم عادت للظهور بعد شهر شمال ليبيا.

وتعد "ماردي" واحدة من 48 سفينة حددتها لجنة من خبراء الأمم المتحدة تُراقب الوضع في ليبيا. وذكروا في أحدث تقرير لهم في كانون الأول/ ديسمبر أنها قامت بـ 14 زيارة إلى ميناء بنغازي القديم وهربت أكثر من 13 ألف طن من الديزل بين آذار/ مارس 2022 وتشرين الأول/ أكتوبر 2024، في انتهاك لعقوبات الأمم المتحدة على ليبيا. ولا تملك المنظمة البحرية الدولية أي معلومات عن مالك "ماردي".



وفقا لخبراء الأمم المتحدة، يُمكّن التهريب من خلال نظام مقايضة مثير للجدل، تقوم بموجبه ليبيا - التي تفتقر إلى القدرة على تكرير الوقود على نطاق واسع - بمبادلة إنتاجها من النفط الخام بالوقود المكرر، بدلا من دفع ثمنه نقدا. يُباع الوقود محليا بأسعار مدعومة بشدة.

لكن بعض هذا الوقود المستورد الرخيص يُهرَّب إلى الخارج "ليُباع بأسعار السوق السوداء أو بأسعار السوق بوثائق مزورة"، وفقا لتقريرها. يُنتج هذا النظام "تدفقا ثابتا من الإيرادات" للجماعات المسلحة المرتبطة بالفصائل المتنافسة التي تُشرف على البلاد.

إحداهما هي حكومة رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس، والأخرى هي إدارة منافسة في الغرب يسيطر عليها المشير خليفة حفتر، والقوات المسلحة العربية الليبية، وهي الميليشيا التي يقودها.

ساهمت هذه الأموال المشبوهة في عرقلة جهود الأمم المتحدة لإجراء انتخابات، والحد من الفساد، وتوحيد البلاد تحت حكومة واحدة بعد الإطاحة بالدكتاتور معمر القذافي عام 2011.

كما عززت الإدارات المتعارضة والجماعات المسلحة التي تعتمد عليها، مما أدى إلى تعميق الانقسام في قلب رابع أكبر دولة في أفريقيا وسابع أكبر عضو في أوبك من حيث الاحتياطيات.

يقول تشارلز كاتر، مدير التحقيقات في "ذا سنتري"، وهي منظمة استقصائية تتعقب الفساد، إنه في حين تواجه مناطق بأكملها من البلاد نقصا متكررا في الوقود، فإن حكام ليبيا "يبدون راضين عن برنامج مبادلة الوقود الضخم".

أمر النائب العام الليبي، صديق الصور، مؤخرا بوقفه بعد تحقيق أجراه ديوان المحاسبة، الجهة الرقابية في البلاد.

لكن وقفه قد لا يعني نهاية إساءة استخدام ثروة ليبيا النفطية. يشير تقرير الأمم المتحدة إلى ظهور شركة جديدة، تُدعى "أركينو"، تُصدّر النفط الخام، وهي أول شركة ليبية خاصة تقوم بذلك. وتُعدّ المؤسسة الوطنية للنفط، وهي شركة النفط الحكومية في البلاد، الجهة الوحيدة المُصرّح لها بالتصدير. ويضيف التقرير أن "أركينو" مرتبطة بجماعات مسلحة في شرق البلاد.

تقول كلوديا غازيني، المحللة البارزة في الشؤون الليبية إن التهريب كان في البداية ضئيلا ثم أصبح تهريبا كبيرا، ثم أصبح القول: "يمكننا زيادة كميات الوقود". والآن، أصبح القول: "يمكننا تصدير النفط الخام مباشرة".

نصت قرارات مجلس الأمن على أن المؤسسة الوطنية للنفط وحدها هي المخولة بتصدير النفط، على أن تُودع العائدات في البنك المركزي الليبي.

خلص أحدث تقرير للأمم المتحدة إلى أن تهريب الوقود من ميناء بنغازي القديم أتاح لقوات حفتر "وصولا غير مباشر إلى الأموال العامة"، بينما سيطرت الجماعات المسلحة في طرابلس والزاوية "بشكل مباشر على القطاعات الاقتصادية الرئيسية والمؤسسات الحكومية ذات الصلة لتهريب كمية كبيرة من الديزل".

بدأ مخطط المقايضة في عام 2021 بعد أن اختارته الحكومة من بين ثلاثة خيارات قدمتها المؤسسة الوطنية للنفط لتخفيف نقص العملة الأجنبية، وفقا لمصطفى صنع الله، رئيس المؤسسة الوطنية للنفط آنذاك.

في رسالة إلى وزير النفط والغاز بتاريخ 13 نيسان/ أبريل 2021، اقترح صنع الله خيارات لاستيراد الوقود، قائلا إن عدم اتخاذ أي إجراء سيؤدي إلى أزمة وقود بحلول أيار/ مايو.

استُبدل صنع الله في عام 2022 بفرحات بن قدارة، الذي كان محافظا للبنك المركزي في عهد القذافي، وسرعان ما توسّع نطاق المخطط. ويقول منتقدون إن هذا المخطط مُبهم ويفتقر إلى الرقابة.

تضاعفت أحجام واردات المنتجات البترولية النظيفة تقريبا من 5.5 مليون طن في عام 2020، قبل بدء نظام المقايضة، إلى 10.35 مليون طن في عام 2024، وفقا لبيانات من شركة كبلر للاستشارات السلعية.

وفقا لتقرير الأمم المتحدة، يتم استيراد حوالي 70% من الديزل في ليبيا، وكل ذلك من خلال نظام المقايضة. تُظهر بيانات كبلر أنه في عامي 2023 و2024، جاء جزء كبير من واردات ليبيا من روسيا، التي تم استبعاد منتجاتها النفطية من الأسواق الأوروبية بسبب الحرب في أوكرانيا.

بمجرد استيرادها، تشتري المؤسسة الوطنية للنفط هذه الأنواع من الوقود، وتدفع قيمتها الكاملة بالنفط الخام. ثم يُعاد بيع الوقود بأسعار مدعومة بشدة للموزعين المحليين والمستهلكين الصناعيين. هذا الدعم يعني أن الليبيين يدفعون مبالغ زهيدة مقابل البنزين والديزل والكهرباء، ولكنه يخلق حافزا واضحا لتحويل المنتجات البترولية إلى السوق السوداء المحلية أو خارج البلاد حيث يمكن بيعها بقيمتها السوقية الكاملة.

وذكر تقرير الأمم المتحدة أنه "حدد 185 عملية تصدير غير مشروعة للديزل من [ميناء بنغازي القديم] منذ آذار/ مارس 2022، بما يعادل حجم تصدير يُقدر بـ 1.125 مليون طن من الديزل".

كما ذكرت أن الشركة العامة للكهرباء في ليبيا، وهي شركة مملوكة للدولة مسؤولة عن توليد ونقل وتوزيع الكهرباء، كانت "المصدر الرئيسي" للديزل الذي تم تهريبه خارج البلاد. ولم ترد الشركة على طلب "فاينانشال تايمز" للتعليق.

وقال البنك الدولي في تقرير صدر في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 إن ليبيا يُعتقد أنها تخسر أكثر من 5 مليارات دولار سنويا نتيجة للتجارة غير المشروعة. وذكر التقرير أن "تهريب الوقود من ميناء بنغازي يُقدر أنه قد زاد بشكل كبير منذ الحرب في أوكرانيا".

كما أدت الواردات المتزايدة إلى زيادة تكلفة الدعم للاقتصاد الليبي المتعثر. في رسالة إلى رئيس الوزراء الدبيبة في آذار/ مارس 2024، قال محافظ مصرف ليبيا المركزي آنذاك، صادق الكبير، إن التكلفة السنوية لواردات الوقود البالغة 8.5 مليار دولار "تفوق احتياجات البلاد"، وأشار إلى أن الدعم تضاعف ثلاث مرات ليصل إلى 12.5 مليار دولار بين عامي 2021 و2023. وبلغت حصة دعم الوقود 8.4 مليار دولار من هذا الإجمالي السنوي.

يقول الكبير، الذي أقاله الدبيبة في آب/ أغسطس: "كان اعتراضنا أن لتر الوقود يكلفنا دولارا واحدا، بينما يُباع بثلاثة سنتات".

ويضيف: "هذا يُكلف الدولة مبالغ طائلة، ويُهرَّب جزء كبير من هذا الوقود إلى الخارج".

بدأ ديوان المحاسبة الليبي تحقيقا في هذه العملية العام الماضي. من أهم نتائجه، الواردة في تقرير غير منشور حصلت عليه صحيفة "فاينانشال تايمز"، أن قيمة واردات البلاد من الوقود بموجب نظام المبادلة بلغت 8.5 مليار دولار أمريكي في عام 2023، منها ما يزيد عن 8 مليارات دولار أمريكي من النفط الخام المُصدّر لتغطية تكاليفه.



وقد تولّت ثماني شركات التداول، ليس من بينها شركات من الدرجة الأولى في إنتاج النفط أو مجموعات تجارة السلع. وذكر تقرير ديوان المحاسبة: "تبيّن أن جميع هذه الشركات كيانات حديثة التأسيس وليس لها تاريخ يُذكر في صناعة النفط العالمية"، زاعما أنها "لم تخضع لإجراءات التأهيل المسبق القياسية"، بل "قُبلت وسُجّلت مباشرة بناء على توصية من رئيس المؤسسة الوطنية للنفط".

معظم الشركات المدرجة في التقرير تتخذ من الإمارات مقرا لها، حيث يصعب الحصول على معلومات حول الملكية النهائية. وكانت شركة "غلف أبستريم أويل آند غاز كونسلتينغ"، التي تأسست عام ٢٠١٢، الشركة صاحبة أكبر حصة من واردات الوقود. ولم تستجب الشركة لطلبات "فاينانشال تايمز" للتعليق على الأمر. كما تأسست شركة "تيرا إنرجي دي إم سي سي"، وهي شركة مشاركة أخرى، عام ٢٠٢٣. ولم تتمكن "فاينانشال تايمز" من الوصول إلى "تيرا إنرجي" أو أحمد مصطفى الكريمي، المدرج كمدير في بعض قواعد بيانات الشركات، للتعليق.

يرى البعض أن هيمنة اللاعبين الإقليميين بدلا من اللاعبين العالميين تُشير إلى أن نظام المقايضة بشكله الحالي يُعتبر محفوفا بالمخاطر من ناحية السمعة في كثير من الأوساط. ويقول أحد المسؤولين التنفيذيين في صناعة النفط العاملة في البلاد إن الليبيين "اضطروا للبحث عن جهة مستعدة لأن تكون أقل تحفظا في المخاطرة".

الشركة الوحيدة المذكورة في تقرير ديوان المحاسبة والتي استجابت لاستفسارات "فاينانشال تايمز" بشأن نظام المقايضة هي شركة تجارة السلع التركية "BGN"، التي تديرها الرئيسة التنفيذية رويا بايغان.

انبثقت شركة "BGN" من مجموعة بايغان التركية العائلية، التي يبلغ عمرها 80 عاما، وبدأت بتجارة البتروكيماويات في التسعينيات قبل أن تتوسع لتشمل النفط وسلعا أخرى. ورغم قلة شهرتها خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد شهدت "BGN" نموا سريعا خلال العقد الماضي، حيث تداولت سلعا بقيمة تقارب 30 مليار دولار أمريكي في عام 2023.

ووفقا لتقرير ديوان المحاسبة، استلمت ثلاث شركات تابعة لـ "BGN" ما مجموعه 2.7 مليار دولار أمريكي من النفط الخام في عام 2023 بموجب نظام المبادلات، وهو ما يمثل 30% من حجم التجارة، وثاني أكبر حصة بعد شركة "غلف أبستريم".

وأعلنت "BGN" في بيان لها أنها "تعمل وفقا لأعلى معايير الامتثال لجميع اللوائح المنظمة لتجارة النفط في ليبيا، من خلال تعاون شفاف ورسمي مع المؤسسة الوطنية للنفط وجميع المشاركين في السوق والجهات المعنية".

كما أشارت إلى "مخالفات مؤسفة" في تقرير ديوان المحاسبة بشأن عملية التأهيل، وقالت إنها "مؤهلة تماما" للمشاركة في نظام المبادلة، كونها "واحدة من 12 شركة تم اختيارها في عام 2021 من خلال عملية مناقصة تنافسية شفافة شملت 20 شركة محلية ودولية مؤهلة".

تشير الدلائل الآن إلى أن نظام المبادلة قد يقترب من نهايته نتيجة للضغوط المحلية والدولية.

أمرت رسالة أرسلها النائب العام الليبي في منتصف كانون الثاني/ يناير، واطلعت عليها صحيفة "فاينانشيال تايمز"، المؤسسة الوطنية للنفط "بالتوقف فورا عن أسلوب مقايضة النفط الخام بالوقود، واعتماد آليات تعاقد تضمن الشفافية في اتفاقيات توريد الوقود".

وأشارت الرسالة أيضا إلى أن تهريب الوقود قد ارتفع بسبب نظام المبادلة، الذي زعمت أنه "لا يضمن الصالح العام".

في تشرين الثاني/ نوفمبر، دُعي رئيس المؤسسة الوطنية للنفط آنذاك، بن قدارة، من قبل النائب العام إلى اجتماع لمناقشة عمليات المبادلة، إلى جانب رئيس ديوان المحاسبة ومحافظ البنك المركزي الجديد، ناجي محمد عيسى بلقاسم.

ويقول مصدران مطلعان على ذلك الاجتماع إن بن قدارة "صُدم" من حجم التفاصيل التي جمعها النائب العام حول الفساد المزعوم، ووافق على إنهاء مخطط المقايضة مطلع عام 2025. لكنه ترك منصبه فجأة في منتصف كانون الثاني/ يناير، متعللا بأسباب صحية، ولم يستجب لطلبات التعليق.



أبلغ خلفه، مسعود سليمان، رئيس الوزراء في رسالة اطلعت عليها صحيفة "فاينانشيال تايمز" أن المؤسسة الوطنية للنفط ستوقف مخطط المقايضة اعتبارا من آذار/ مارس، لكنها لن تتحمل أي مسؤولية عن نقص الوقود إذا لم توفر السلطات أموالا كافية للواردات.

"أركينو"، شركة خدمات نفطية، كانت أول كيان ليبي خاص على الإطلاق تسمح له المؤسسة الوطنية للنفط بتصدير النفط الخام. وذكر تقرير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن الشركة، التي صدرت نفطا خاما بقيمة ٤٦٣ مليون دولار، تخضع "لسيطرة غير مباشرة" من قبل صدام حفتر، نجل خليفة حفتر.

مقالات مشابهة

  • أفق متجدد لإنهاء الحرب في أوكرانيا .. أجواء تفاؤلية تسبق اللقاء الأمريكي – الروسي بالسعودية
  • صحيفة الثورة الاحد 23 رمضان 1446 – 23 مارس 2025
  • السلطات السورية تلقي القبض على مطلوب مقرب من ماهر الأسد
  • تعرف على نوعية الأسلحة التي يستخدمها الجيش الأميركي في ضرباته ضد الحوثيين في اليمن؟
  • بعد معركة القصر والنصر الذي تم
  • كشف تفاصيل تجارة النفط غير المشروعة التي تُبقي ليبيا منقسمة
  • علي عبد الله صالح.. القائد الذي صنع تاريخ اليمن الحديث
  • صحيفة الثورة الجمعة 21 رمضان 1446 – 21 مارس 2025
  • طلاب السودان يدرسون على الأرض ويتقاسمون الفصول مع النازحين