الجزيرة:
2025-03-22@21:20:55 GMT

كيف ساهمت منصات التواصل في زيادة الهوس بالذات؟

تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT

كيف ساهمت منصات التواصل في زيادة الهوس بالذات؟

عند لحظة ما أثناء الإعداد لإطلاق أول منصة تواصل على الإطلاق، لا بد أن مؤسسيها اعتقدوا أنهم يمنحون البشرية هبة عظيمة.

إذ لا شيء يُسعد الإنسان بقدر حصوله على ما يريده؛ الأصدقاء القدامى الذين فقدهم في زحام الحياة، والصفحات التي تَعرِض ما يناسبه ويرغب في متابعته، والآراء التي توافق توجهاته وانحيازاته، والإحصائيات التي تُثبت مدى شعبيته، والمحادثات الانفرادية مع الفتاة التي تعجبه، والمؤثرات البصرية التي تُجمِّل صوره، والنوافذ السحرية التي تُظهر من عالمه ما يريده فقط، والحرية من القيود المجتمعية والأخلاقية، والسلطة المطلقة على العلاقات الشخصية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف يكون وصول النرجسي إلى السلطة مدمرا؟list 2 of 2إسرائيل تُظهر للعالم أقبح وجوه الذكاء الاصطناعيend of list

والأصدقاء الجدد المحتملون الذين يشاركونه كل ذلك وينسجمون معه، وتَعِد صور حساباتهم بالمزيد منه، طبعا بالإضافة إلى المنحة الأهم على الإطلاق؛ إمكانية هدم كل ذلك والبدء مجددا.

كونها "منحة" كذلك، فلم تكلف أحدا شيئا كما أكد شعار "فيسبوك" مرارا وتكرارا، جعلها أروع من أن تُصدق.

ولا أعلم كيف ينظر إلى نفسه مؤسس منصة تواصل يتجمع الناس عليها، بإغراء الخدمات والمآثر المختلفة، التي يألفونها وتصبح جزءا أصيلا من حياتهم، إلى أن تتحول إلى أكبر سوق عرفته البشرية، حيث تتراكم أرباحه من كل المارّين عبر وسيطه، وحتى لو لم يبتاعوا شيئا. لا بد أن هذا الإنسان حصل على ما يريده كذلك.

إعلان ما بعد المركز الأول

في اللحظة ذاتها، لا بد أنه لم يهتم أحد، لا المؤسسون ولا المستخدمون، بالتفكير فيما سيقع لاحقا؛ ماذا بعد أن يحصل الناس على ما يريدونه بلا عناء؟

الإجابة الواقعية هنا هي: أن يحصلوا على المزيد مما يريدونه طبعا! هذا بديهي؛ أن نستمر في منحهم ما يريدونه دائما، وبكثافة، وبلا توقف أو كلل أو ملل، وأن نُطمئنهم أن هناك مخزونا لا ينضب مما يريدونه، بل أن نُطوِّر على ما سبق، ونحاول منحهم ما يريدونه حتى قبل أن يريدوه، وربما حتى لو لم يريدوه.

على مواقع التواصل، نُفرج عن مكبوتاتنا دون مراجعة أو فحص، تحت ذريعة: نحن في عالم افتراضي، لا تؤخذ فيه الأمور بجدية (بيكساباي)

هذه واحدة من معضلات البشر منذ خلق الله آدم؛ لا أحد يسأل عمّا بعد الحصول والتحقق والشبع. لأسباب واضحة، يبدو هذا من قبيل الترف أغلب الوقت، ولأسباب واضحة أيضا، لا أحد يصدق العائدين من التجربة عندما يحكون عن الشعور المُمض بالفراغ بعد نيلهم ما أرادوه.

على سبيل المثال، عندما يقول "سام شِبرد"، الممثل والروائي والكاتب والمخرج الأميركي الراحل المعروف، إن الأمر المستغرب له أنه بعد حصوله على كل هذا النجاح في كل مجال طرقه هو شعور الخواء الذي يبطّن كل هذه الإنجازات. مثل تلك العبارات لا تقنع الكثير من الناس.

على الأقل لا تقنعهم بقدر وصف "كيفن كيغان" للخواء الهائل الذي شعر به عندما حلَّ ثانيا بالدوري الإنجليزي بعد منافسة طويلة مع "مانشستر يونايتد" طوال موسم 1995-1996.

لا تقنعهم لأن المعادلة بسيطة في الواقع؛ الكثيرون يحاولون، والقليلون ينجحون، والعديدون من المعسكرين يصفون الشعور ذاته، وأكثر منهم يختبرونه ويخجلون من الاعتراف، لذا يُفضِّل الناس أن يشعروا بالخواء بعد أن يشاركوا "ماثيو ماكوناهي" البطولة ويحصلون على "البوليتزر"، بدلا من أن يشعروا به بعد خسارة الدوري بفارق أربع نقاط.

إعلان

الأولى لا ولن تبدو بهذا السوء أبدا لأنها بعيدة مجهولة وغير مُحتَمَلة ومنزوعة الخطر، بينما مرت الغالبية بالثانية عند لحظة ما من حياتها، وتظل ذكراها طازجة مؤلمة، لذا تبدو أكثر خطورة وآنية وأوْلى بالرفض.

في باطنها، هذه حالة تقليدية جدا من "حسنا، سأشعر بالوحدة في مقصورة المرسيدس وأنا عائد لقصري الفخم"؛ الصورة الذهنية التي عنونت هذا الصراع الفلسفي بين القيمة المادية والروحية، ولكن صياغتها العبقرية التي أقنعت الجميع أن الوحدة في مقصورة "مرسيدس" مختلفة عن غيرها في هذا السياق، أهملت وجهها الآخر، حينما تصبح الوحدة أكثر إيلاما للأسباب ذاتها؛ "المرسيدس" والقصر الفخم.

هذه صورة ذهنية لا يريد أحد تخيلها لأنها أقبح من الأولى للمفارقة؛ أن تملك كل شيء ولا تحصل على ما تريده رغم ذلك. هذا هو الخلط التأسيسي الذي يقع في مثل هذه اللحظات بين بُعد الخطر وحجمه؛ فأر قريب سيبدو أكبر من أسد بعيد.

ما الذي نريده فعلا؟ الكثير من الأشياء طبعا، ولكن ربما يكون أهمها هو الشعور بالاتساق والانسجام بين ما يعتمل بأنفسنا وما يقع خارجها فعليا، أن يرانا الآخرون كما نرى أنفسنا، أن نتحرر من الخوف ونطلق حقيقتنا للعالم بلا مواربة. هذا هو ما منحنا إياه مؤسسو منصات التواصل في البداية على الأقل؛ ذريعة لكي نُفرج عن مكبوتاتنا دون مراجعة أو فحص، وهذه الذريعة كانت: نحن في عالم افتراضي، لا تؤخذ فيه الأمور بجدية.

لحظة إزالة الحواجز الاجتماعية والأخلاقية كانت كاشفة للغاية، وفوجئ الجميع بما هو معلوم بداهة عن الجميع؛ وهو أن الجميع يحبون أنفسهم، ويرونها أفضل وأرقى وأذكى وأقوى وأجمل وأعظم وأجدر بالحب وأكثر تواضعا مما يراها الآخرون، وكان كل ما يحتاجون إليه هو فراغ لمشاركة هذه الرؤية دون وجوه عابسة مُتأففة أو تنهيدات مُتحسرة، ودون محاضرات عن التقاليد أو عِظات عن التواضع، ودون حتى المخاطرة بالتعرض للإحراج أمام مَن هم أفضل وأرقى وأذكى وأقوى وأجمل فعلا، لأن الإحراج لا يؤتي مفعوله إن كانت هويتك مُجَهّلة، وفي البداية، كانت أغلب الهويات مُجَهّلة.

إعلان

في تلك اللحظة، تقرر أيضا أن نِسَب الطلاق ستصل إلى مستويات خيالية في خلال عشر سنوات على الأكثر، مُنذرةً بانهيار اجتماعي وشيك، لا يمكن تفسيره بأزمات المعيشة أو التغيرات الثقافية وإن ساهمت فيه، ولا يفسره إلا الشعور بالخواء ذاته الذي تحدث عنه "شِبرد".

واقعية الافتراضي

هذه حالة من الحالات النادرة التي تقود فيها الإحصائيات إلى حقيقة ساطعة يصعب إنكارها، خاصة أنها وقعت على مراحل، استبعدت كلٌّ منها احتمالا ما، حتى وضعتنا في النهاية أمام التفسير المنطقي الوحيد المتبقي.

فمَن كان يفسر شيوع الطلاق بأعداد ضخمة في مصر خلال العقد الأخير بالأزمات المعيشية وانخفاض سعر العملة وتراجع النشاط السياحي مثلا، صُدم من نِسَب الطلاق في دولة مثل الكويت، التي يصل متوسط دخل الفرد فيها شهريا إلى 125% من دخله السنوي في مصر، ومَن كان يعتقد أن الأزمة إقليمية أو ثقافية أو حتى دينية، صُدم من خريطة نِسَب الطلاق في العالم، التي لم تميز بين روسي وأميركي وأوكراني وعراقي وموريتاني وصيني.

لا بد أن كل هؤلاء شعروا بالأزمة قبل أن تخرج أي إحصائيات أو رسومات بيانية من أي جهة رسمية، استنادا إلى ظواهر مثل زيادة ذكر الطلاق في الأحاديث اليومية، وعدد حالات الطلاق في معارفهم خلال الفترة ذاتها.

 

الشاهد الأول هنا طبعا هو الدرس القديم الجديد عن الأشياء التي تقود إلى نقيضها أحيانا بلا تدخُّل منّا وبمجرد امتدادها في مساراتها الطبيعية؛ الإثارة والحماس يتحولان إلى ملل وأُلفة بمجرد أن نطلب منهما المزيد وتعتادهما مشاعرنا، والافتراضي يتحول إلى واقعي بالطريقة ذاتها.

في العقد الأخير الذي شهد التحول، نشأ الجيل الذي عايش التواصل الافتراضي بالتوازي مع الواقعي، وفي بعض الحالات سبق الأول الثاني كذلك، وبالتالي، كان حتميا عند لحظة ما أن يصبح الافتراضي مرجعية الواقعي، لا العكس.

إعلان

هكذا تحول الفراغ الهزلي الهارب من الحقيقة إلى آخر جاد تماما يقررها ويتحكم فيها، وبالطبع يمكنك تخيل ما ألحقه ذلك من تغييرات بسلوكنا وعلاقاتنا الاجتماعية، أو يمكنك قراءة كتاب دكتور "جين توينجي" المُقبِض عن المسألة إن لم تكن في مزاج يسمح بالخيال.

نظرية "توينجي" في جوهرها بسيطة؛ كلٌّ منّا يحمل بذرة النرجسية بداخله، لأن كلًّا منا يحب نفسه بدرجة ما، غالبا ما تفوق حبه للآخرين، وبدلا من مصارعة هذه البذرة أملا في مجتمعات أكثر تسامحا ورحمة وقدرة على التعايش، عملت منصات التواصل على تنميتها، ومنحتها الأدوات لكي تسيطر على باقي مناحي سلوكنا، وتدريجيا، تغيرت الطريقة التي نعيش بها.

كان هذا بديهيا من البداية، ببساطة لأن الواقع كان وما زال وسيظل المصدر الأول للمحتوى الذي نشاركه على تلك المنصات، ولكن رغم بداهته، فضّلنا جميعا أن نشعر بالوحدة في مقصورة "المرسيدس" في الطريق إلى قصورنا الفخمة، ما لا يختلف كثيرا عن الشعور بالوحدة على حسابات مليئة بالصور والإعجابات والأصدقاء.

في كتابَيْها، "وباء النرجسية" (The Narcissism Epidemic) و"الجيل أنا" (Generation Me)، تسأل "توينجي" سؤالا بالغ السهولة لا تحتاج إجابته إلا إلى قليل من التجرد: هل يمكنك تحمُّل صديق يحدّثك عن نفسه طوال الوقت؟

تخيل السيناريو لدقائق؛ تقابل صديقا ما على المقهى أملا في جلسة ممتعة أو لعبة طاولة أو قصص مثيرة أو دردشة شخصية، فيُخبرك عن الصعوبات التي واجهها أثناء اختيار ملابسه، ثم عن الكماليات المذهلة في سيارته الجديدة، ثم يريك الصور التي التقطها لنفسه مصحوبة بعبارات سطحية مبتذلة عن النجاح والحسد وحقد الحاقدين والخصوم، وبمجرد أن يُحضر النادل مشروبه، يقضي ربع ساعة في تصويره لمشاركته مع متابعيه على "إنستغرام"، بعد أن يسألك عن تصفيفة شعره ومدى توافق الأزرق مع لون عينيه.

إعلان

هذه صورة متطرفة طبعا، ولكنها تصبح شديدة الواقعية عندما تحاول اختصار سيل يومي من التحديثات والصور والترويج الذاتي عبر سنوات في جلسة مقهى واحدة، والإجابة عن سؤال "توينجي" في 99% من الحالات ستكون: لا، لن أُطيق دقيقة واحدة مع شخص كهذا، وعلى الأغلب ستقودني تلك الجلسة إلى تساؤلات جادة عن سبب ذهابي لها من الأصل، ومنهجية اختيار أصدقائي.

صورة تعبيرية عن تضخم الذات (بيكساباي) كيف روَّضتنا وسائل التواصل الاجتماعي؟

هذا هو ما يحدث على منصات التواصل على مدار الساعة؛ طوفان من الاستغراق الضحل في الذات وهوس بالترويج لها، لن يكونا مقبولين أبدا في أي سياق اجتماعي عاقل متحضر. في الحياة الواقعية، سلوكيات مشابهة لن تثير الإعجاب والمشاركة، بل الغيرة والحقد والحسد، أو الشفقة والأسف، وفق أي معسكر تقف فيه.

رغم ذلك، لاقت تلك الفكرة استحساننا جميعا لأسباب واضحة؛ أولها أن الذريعة كانت مقنعة فعلا، وفي البداية لم يبدُ وكأن ما يحدث على منصات التواصل بهذه الجدية. ثانيها أن التعامل مع أرقام مُجَهّلة في خانة الإعجابات والمشاركات أسهل -وأقل إنسانية في الوقت ذاته- من التعامل مع وجوه حقيقية تحمل تعبيرات ومشاعر وانطباعات وردود أفعال.

ثالثها هو أن أقوى الرسائل الضمنية هي تلك التي تخاطب فينا نوازع الكسل والاستسلام؛ لا تصارع ذاتك، استسلم لرغباتك، تقبلها وانشرها وطبِّع معها، حتى لو كانت الرغبة في إخبار العالم كم أنت رائع ومتواضع وغير مُقدَّر بما يكفي.

كل ذلك يحمل قوة كاسحة تحتاج إلى شخصية استثنائية لمقاومتها، خاصة عندما تأتي تلك الرسائل من سلطة اعتبارية؛ قد تكون سلطة المُبرمج الشاب الذي سيغير العالم بالتقنية، أو سلطة الخوف من أن يفوتنا شيء ما (FOMO: Fear of Missing Out)، أو سلطة الجموع (Bandwagon Effect) التي اعتنقت التقنية على اعتبار أننا جميعا نرجسيون فلا داعي للتظاهر بغير ذلك.

إعلان

طبعا لا داعي لإخبارك أن كل المصطلحات الإنجليزية السابقة تصف ظواهر نفسية غير حميدة، لأنها تقودنا إلى الظاهرة الأخطر على الإطلاق في كل ذلك؛ الشبع والامتلاء وتدليل الذات.

لا شيء أجمل من أن يحصل الإنسان على ما يريده بلا عناء، ولا شيء أخطر من أن يعتاد ذلك، لأنه ينزع عنه أدوات المقاومة والصراع مع نفسه، وقدرته على تهذيبها وكبح جماحها، لأنه مع الوقت، الخوارزميات التي تُدللنا وتجيب طلباتنا وتحبسنا في غرف مغلقة لا نسمع فيها إلا صدى أصواتنا، تسلبنا القدرة على الشك والخيال والفضول، وتعوّدنا على معايير غير موضوعية وغير واقعية تجعل الحياة الفعلية أصعب وأشق.

الدليل على ذلك يتضح عندما تطرح سؤال "توينجي" من زاوية معاكسة؛ هل يمكنك تحمُّل صديق لا يتحمل حديثك عن نفسك طوال الوقت؟ ماذا عن رفيق؟ أخ؟ زوج أو زوجة؟

بصيغة أخرى؛ هل هناك علاقة إنسانية بلا عناء في الواقع؟ نملك سلطة شبه مطلقة على مجرياتها، ويمكننا إنهاؤها بضغطة زر دون أية عواقب اجتماعية أو أخلاقية تُذكر؟ ما الذي يدفعنا الآن -بعد ما يقارب عقدين من شيوع منصات التواصل- لتحمُّل شخص حقيقي لن يُدلل شخصياتنا النرجسية الجديدة؟ لماذا نتحرك ونحاول ونسعى ونُجرب لو كان السكون بهذه المتعة؟

الآن تبدو المسألة أبسط من أن تحتاج إلى كل الكلام السابق لشرحها؛ الإنسان بطبعه لا يختار العناء طواعية إلا إذا آمن أن المكاسب المُحتملة ستفوقه، وتلك معادلة لا يمكن أن تَعِد بها الحياة الواقعية أغلب الوقت إلا لو كذبت، فلِمَ العناء فعلا؟

من هذه الزاوية، تعتقد "توينجي" أن منصات التواصل تجعلنا أكثر نرجسية فعلا؛ لا تزرع فينا البذرة، ولكنها تساعدها على النمو، وتكافئها بالوصول والنفاذ والشهرة والشعبية، وبالطبع الظاهرة متفشية إلى حدٍّ غير مسبوق في الأجيال الصغيرة الجديدة التي لم تعرف العالم إلا بهذا الشكل، ولهذا السبب تحديدا أغلبهم لا يدرك الأمر أصلا.

إعلان

هذه مصيبة من أي زاوية تنظر من خلالها إلى المسألة، ولكن الاستدراك المهم هنا هو ما يعتقده دكتور "توماس شامورو-بريموزيك"، بروفيسور علم نفس الأعمال في جامعتَيْ "لندن" الإنجليزية و"كولومبيا" الأميركية، الذي يرى أن احتياجنا إلى التفرد والتمايز عن أقراننا وإثبات أنفسنا لمجتمعاتنا قد يكون شعورا صحيا ومفيدا، فلولاه لم يكن البشر ليكتبوا أية روايات عظيمة، ولم يكونوا ليشيّدوا أي مبانٍ عظيمة، أو يمتهنوا أي حِرف عظيمة، ولم يكونوا ليدرسوا ويبحثوا ويكتشفوا ويخترعوا ويتقنوا، والمسؤولون عن هذه الإنجازات عادة يتحولون إلى مشاهير لاحقا، ننظر لهم بعين الإعجاب والإلهام.

المشكلة تقع عندما تقرأ الإحصائية المرعبة التي أنتجتها واحدة من الدراسات الطولية (Longitudinal Study) التي تكرر الاختبار ذاته عبر فترة طويلة من الزمن (قرن كامل في هذه الحالة)؛ في العشرينيات من القرن العشرين كان 20% فقط من الشباب يطمحون إلى الشهرة بداية حياتهم، ثم في الخمسينيات ارتفعت النسبة إلى 50% مع توفر التلفاز، ثم وصلت إلى -تخيل- 80% في العصر الحالي.

مع الوقت، فإن الخوارزميات التي تُدللنا وتجيب طلباتنا وتحبسنا في غرف مغلقة لا نسمع فيها إلا صدى أصواتنا، تسلبنا القدرة على الشك والخيال والفضول (مواقع التواصل) إلى الشهرة وما بعدها

"بريموزيك" ليس معاديا للطموح بحد ذاته، ولكنه فقط يُذكِّرنا بمعادلة الواقع البسيطة؛ الكثيرون يحاولون والقليلون ينجحون، وبالتالي لو كان 80% يطمحون، فهناك سؤالان مهمان يجب أن نطرحهما: أولا، من أين سيأتي المتابعون لو كان 80% سيحققون طموحاتهم؟ وثانيا، كلنا نعلم أن غالبية الـ80% لن تحقق هذا الطموح تحديدا، فأي مجتمع سيُوجده ذلك؟

الإجابة بسيطة لأنك تلاحظها كل يوم؛ مجتمع محبط يشعر بالنبذ والرفض والغبن، أو مجتمع منفصل عن الواقع، يتخيل في ذاته ما ليس فيها، ويتباهى أفراده بمواهب لا يملكونها، وإنجازات لم يحققوها، وانتصارات لا يراها غيرهم. بعبارة أخرى؛ مجتمع نرجسي.

إعلان

الأهم أنه مجتمع لا يؤمن أن سبيل الشهرة هي الروايات العظيمة أو المباني العظيمة أو الحِرف العظيمة أو الدراسة أو البحث أو الاختراع أو الاكتشاف أو الإتقان، أولا لأنه لا يشعر أنه بحاجة إلى ذلك، فعلى حد علمه لم تُنجز "كيم كارداشيان" أيًّا من ذلك، وثانيا لأنها لو كانت قد فعلت فلم تكن لتصبح "كيم كارداشيان"، فمنصات التواصل، التي يجري كل ذلك وفق قواعدها، لا تكافئ الناس إلا على مهارة واحدة فقط لا غير؛ القدرة على جذب الانتباه.

"بريموزيك" يسميها ظاهرة "كيم-كارداشية النجاح" (The Kim-Kardashianization of Success)، والمعنى لا يحتاج إلى شرح طبعا. هل رأيت "الميم" الذي يشرح الفارق بين إنجازات مشاهير الماضي والحاضر؟ الذي يتحدث عن الفارق بين "مايكل أنجلو" و"الفارابي" من جهة، و"كيم كارداشيان" و"كانيي وِست" من جهة أخرى؟ هذا "الميم" ليس دقيقا كليا وليس خاطئا كليا كذلك. هل وُجدت "كيم كارداشيان" و"كانيي وِست" وأمثالهم من العدم؟ بالطبع لا، ولكن منصات التواصل كانت "أداة التمكين" الفتاكة كما تعتقد "توينجي".

هذه هي الخلاصة ذاتها التي وصلت إليها ورقة بحثية أخرى؛ النرجسيون يستخدمون "تويتر" -"إكس" حاليا- كمذياع عملاق للترويج لنظرتهم الفوقية للآخرين، بينما يرون "فيسبوك" كـ"مرآة مُحَسَّنة تقنيا" لذواتهم، لذا يلجأ لها كل مَن يشعرون بالإحباط نتيجة "صفعة معنوية" في الواقع.

هذا يُنتج مجتمعا قَلِقا مضغوطا كذلك، يستخدم منصات التواصل وسيلةً للتأقلم مع صعوبات الحياة أو الهروب منها، أيهما أقرب، كما خلصت دراسة حديثة أُجريت في "ألمانيا" على 327 مستخدما بسن الثالثة والعشرين، ولكن كل ذلك لا يعني أنه مجتمع نرجسي بالمعنى المَرَضي أو الإكلينيكي، أو أن أفراده مصابون باضطراب الشخصية النرجسية (NPD: Narcissistic Personality Disorder)، بل نشير إلى النرجسية هنا بوصفها سِمَة.

إعلان

وفي أسوأ الأحوال، قد تتحول الثانية إلى الأولى عندما تدفعنا ميولنا النرجسية إلى فقدان القدرة على التعاطف مع الآخرين أو تقمُّص معاناتهم، عندما نستغرق في ذواتنا لدرجة فقد السعة للاستغراق في الآخرين. في تلك اللحظة؛ تسقط كل المرجعيات الأخلاقية والقيود القِيَمية التي تحكم تصرفاتنا عادة، ويتحول الآخرون إلى مجرد أدوات نستخدمها للوصول إلى أهدافنا.

أنا؟

منصات التواصل شريرة إذن؟ ليس بالضبط. اسمح لنا أن نكرر القاعدة ذاتها على مسامعك للمرة المليون؛ يصعب على التقنية ذاتها أن تُوصف أخلاقيا، ليس مستحيلا ولكنه صعب، وفي الوقت ذاته، يسهل على التقنية أن تُصعِّب أو تُسهِّل حياة البشر بناءً على اختيارات البشر ذاتهم. لا تنسَ أن مَن منحوا "كيم" و"كانيي" شهرتهما وثروتهما الطائلة المستمرة المتجددة كانوا بشرا أيضا، ولعل بعضهم نرجسي بالمعنى الاجتماعي أو المَرَضي.

عندما نستغرق في ذواتنا لدرجة فقد السعة للاستغراق في الآخرين، تسقط كل المرجعيات الأخلاقية والقيود القِيَمية التي تحكم تصرفاتنا عادة، ويتحول الآخرون إلى مجرد أدوات نستخدمها للوصول إلى أهدافنا. (غيتي إيميجز)

المسألة برُمَّتها مُحيرة وشديدة الإرباك. لا أدل على ذلك سوى حقيقة أن أدق أوصافها أتت من رجل تُوفي قبل أول منصة تواصل بنحو نصف قرن:

"السعادة التي تغمرني عندما أسمع صوت ابني على الهاتف لا يفسدها سوى التفكير في أنه لو لم تكن هناك قطارات لما غادر طفلي مدينته، ولما احتجت للهاتف لكي أسمع صوته".

"سِغموند فرويد" – 1930

الآن تفهم لماذا ينتابك الشعوران في الوقت ذاته؛ أنك متصل بالعالم والآخرين ومنعزل عنهم في اللحظة نفسها، وهذه الدائرة المفرغة تقودنا إلى كون الحل ليس في التقنية ذاتها، بل في ذواتنا نحن، في قرارنا الواعي بالتزام التواضع والسعي الجاد لإدراك حقيقتنا الفعلية قبل عرضها على الآخرين، وفي التمسك بالصراع مع أنفسنا ومقاومة نزعاتها.

إعلان

هل نحن أرقى وأجمل وأذكى وأفضل وأجدر بالحب وأكثر تواضعا فعلا؟ هل هي مصيبة لو لم نكن؟ على عكس ما نتخيل، فالتواضع ليس هبة إلهية يولد بها أو بدونها الإنسان، بل هو تدريب مستمر وتساؤل وشك وتفكير؛ عناء حقيقي لا يُغري الكثيرين، خاصة أنه لا يَعِد بإجابات قاطعة، ولكن المفارقة الكبرى هنا أن تلك الحالة من الشد والجذب مع الذات هي الطريق الوحيد للسلام النفسي، سواء اختبرته في مقصورة "مرسيدس" أو بفارق أربع نقاط عن مانشستر يونايتد.

خبراء "هارفرد بِزنس رِفيو" أصدروا مسألة (Questionnaire) عما يعتبرونه "اختبارا واقعيا لدرجة النرجسية عند الأفراد"، تحتوي على أسئلة مرعبة لأي قارئ، ليس لأنها مرعبة فعلا، ولكن لأنها ستجعله يدرك أي شوط قطعناه في التطبيع مع النرجسية حتى اللحظة. تشمل الاستبانة 10 عبارات يمكنك إجابتها بـ"صحيح" أو "خاطئ":

1- "أحب أن أكون مركز الاهتمام".

2- "أُفضِّل أن أكون ثريا ومشهورا على أن أكون إنسانا جيدا".

3- "كثيرا ما أشعر بالغيرة من نجاحات الآخرين".

4- "أتضايق بسهولة عندما أتعرض للانتقاد".

5- "هؤلاء الذين يعرفونني يقدّرون مواهبي".

6- "أعتقد أنني أفضل مما يظن الآخرون عني".

7- "أحب أن أُحيط نفسي بأناس معجبين بي".

8- "أشعر بالحاجة إلى الحصول على موافقة الآخرين على تصرفاتي".

9- "أشعر أن قدري أن أصبح عظيما".

10- "أجد صعوبة في ادّعاء التواضع".

هذه الأسئلة مرعبة لعدة أسباب؛ أولا لأن بعضها يبدو بريئا فعلا، مثل "هؤلاء الذين يعرفونني يقدّرون مواهبي"، وثانيا لأن بعضها يقف في منتصف المسافة مثل "أشعر بالحاجة إلى الحصول على موافقة الآخرين على تصرفاتي"، وثالثا لأن بعضها تسمعه كل يوم من مشاهير منصات التواصل والحياة الواقعية على حد السواء، وهو المطلوب إثباته بالضبط.

لهذا السبب تحديدا تُكافأ كل إجابة بـ"صحيح" بنقطة واحدة، ولا تكفي نقطة واحدة للتدليل على نرجسيتك؛ في الواقع، لو كان رصيدك ما بين 0 و3 فهذا يجعلك ما يعتبره "بريموزيك" آخر متواضع على سطح الكرة الأرضية، من 4 إلى 6 تضعك في خانة "المتوسط" (Average)، وهي لفظة منتقاة بعناية من قِبَل مُعدّي المسألة، لأنها لو أشعرتك بإهانة بالغة فهذا دليل على أنك تنتمي إلى الفئة الأخيرة ما بين 7 و10 نقاط، وهي الفئة التي تعمّد "بريموزيك" وصف أفرادها بكونهم "الزبائن المثاليين لمنصات التواصل"، وهو وصف مثير جدا للتأمل.

إعلان

تلك الدرجة الأخيرة يصعب تخيلها طرفا في أي علاقة بشرية واقعية مستدامة ناهيك بشكلها، سواء كانت زمالة أو صداقة أو زواجا، فتخيل للحظة أن الكثير من تلك العلاقات تبدأ وطرفاها ينتميان إلى الفئة ذاتها، غالبا دون إدراك.

صورة قاتمة فعلا، ولا يُضيئها سوى الاحتمال أنه عند لحظة ما، أثناء العصر الحالي، هناك مَن سيتساءل إن كان منح البشرية ما تريده بلا عناء فكرة حسنة فعلا، ولعل هناك مَن سيُدرك حينها أن المشترك الوحيد بين البشر والخوارزميات هو القدرة على الهدم والبدء مجددا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد منصات التواصل کیم کارداشیان القدرة على الطلاق فی فی مقصورة فی الواقع ما یریده لا بد أن على ما التی ت لو کان کل ذلک

إقرأ أيضاً:

النائب محمد إسماعيل: قرارات المجلس الأعلى للإعلام حائط صد ضد فوضى البرامج

أكد النائب محمد إسماعيل، عضو مجلس النواب السابق، أن الإعلام الموازي، الذي تمثله منصات مثل "تيك توك"، أصبح يشكل تهديدًا كبيرًا للقيم المجتمعية، مشيرًا إلى ضرورة سن تشريعات برلمانية أكثر صرامة لضبط المحتوى الرقمي ومنع انتشار الظواهر اللاأخلاقية التي تهدد الهوية المصرية.
وأشار إسماعيل خلال مشاركته في برنامج "خط أحمر" الذي يقدمه الإعلامي محمد موسى على قناة الحدث اليوم، إلى أن برامج التوك شو ساهمت في توضيح أهمية المشروعات القومية الكبرى، وتسليح الجيش المصري كأحد ركائز الأمن القومي، مما عزز من وعي المواطن بأهمية تلك الجهود الوطنية.
وفيما يتعلق ببعض البرامج الاجتماعية التي أثارت جدلًا واسعًا خلال السنوات الأخيرة، أكد النائب أن بعضها يحمل تأثيرًا سلبيًا على المجتمع، حيث يروج لأفكار تساهم في تفكيك الأسرة المصرية، عبر التحريض المبطن بين الأزواج والزوجات. 
وأوضح أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام واجه هذه الظاهرة بقرارات صارمة، تضمنت إيقاف بعض البرامج وفرض غرامات كبيرة على المخالفين.
كما أشاد إسماعيل بدور الأكاديمية الوطنية للتدريب، بقيادة الدكتورة رشا راغب، في إعداد كوادر إعلامية واعية بقضايا الأمن القومي، لمواجهة الفوضى الإعلامية الناجمة عن منصات التواصل الاجتماعي غير المنضبطة.

مقالات مشابهة

  • بعد قصف إسرائيل..لبنان يفكك 3 منصات صواريخ في شمال نهر الليطاني
  • الجيش اللبناني يعثر على 3 منصات صواريخ بدائية الصنع شمالي نهر الليطاني
  • أعظم إبداعات البشر.. كيف ساهمت الرياضيات في فهم التعقيد المذهل للكون؟
  • الحكومة: كمية الأمطار التي عرفها المغرب تمثل زيادة بنسبة 88,1% مقارنة بالسنة الماضية
  • إحالة 8 مخالفين لنظام الآثار للنيابة العامة
  • هيئة التراث ترصد عددًا من مخالفات نظام الآثار في منصات التواصل الاجتماعي
  • رصد عددًا من مخالفات نظام الآثار في منصات التواصل الاجتماعي
  • النائب محمد إسماعيل: قرارات المجلس الأعلى للإعلام حائط صد ضد فوضى البرامج
  • رئيس الفيدرالي الأمريكي: الرسوم الجمركية ساهمت في ارتفاع التضخم