يمانيون/ صنعاء نص المحاضرة الرمضانية الـ 19 لقائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، 21 رمضان 1446هـ/21 مارس 2025م

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في الاستكمال للحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى؛ للاستفادة مما فيها من الدروس والعبر، ولحاجتنا إلى استذكار سيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، الذي هو لنا الأسوة والقدوة، ونحن في مرحلة تاريخية مصيرية وحساسة لِأُمَّتنا فيما تواجهه من التحديات والأخطار، فنحن كأُّمةٍ مسلمة أحوج ما نكون إلى الاستفادة من سيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”؛ تحدثنا عن سياق غزوة بدرٍ، والمُقَدِّمات المهمة لذلك، ووصلنا إلى تَحَرُّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” من المدينة، عندما اتَّخذ قراراً بالتحرُّك، وفق توجيهات الله وأوامره “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، القائل في القرآن الكريم: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال:5].

الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي وجَّه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” بالتحرُّك، فتحرَّك بأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالرغم أن البعض من المؤمنين كان لديهم وجهة نظر أخرى، وفق الحسابات المتعلقة بالإمكانات، والعدد، والعُدَّة، والظروف المحيطة؛ فكانوا متخوفين، في أن تكون النتائج خطيرة جدًّا، ألَّا تكون لصالح المسلمين، وانتصار المسلمين؛ ولـذلك قال الله عنهم: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:6]؛ لأنه أحياناً في الوسط الإيماني نفسه، في الأُمَّة المؤمنة، مع الإقرار من الجميع بأن الموقف حقٌّ، تأتي لدى البعض الحسابات السياسية، المخاوف، المخاطر، النتائج، ردود الأفعال: [ماذا سيحدث؟]، تبعات الموقف: [ماذا سيترتب عليه؟ إن كان مناسباً في هذه المرحلة أم لا؟].

ولكنَّ مثل هذه الحسابات قد تصل أحياناً إلى مستوى سلبي، في تأثيرها الخطير في تجميد الأُمَّة، وتكبيلها عن التحرُّك في المراحل الحساسة والخطرة، فأن يكون الموقف حقاً، هذه مسألة في غاية الأهمية، ثم أن يكون هناك أيضاً هداية من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإدراك لأهمية الموقف، من خلال هذه الرؤية العميقة، الهادية في القرآن الكريم، التي تُرَبِّينا على أن نكون أُمَّةً سَبَّاقة، تتحرَّك لمواجهة المخاطر، قبل أن تدهمها وأن تصل إلى مستوى الانهيار.

ولذلك نجد- مثلاً- في حسابات البعض ورؤاهم، عادةً ما تكون خياراتهم- بالنسبة لوضع الأُمَّة وموقف الأُمَّة- أن يُترك المجال للعدو حتى يصل إلى المحطة الأخيرة، وإلى النقطة الأخيرة، حتى تتحرَّك الأُمَّة.

فمثلاً: ما يهدد بلداننا من جانب الخطر الأمريكي والإسرائيلي، رؤية البعض: أن يُترك المجال لأمريكا وإسرائيل حتى تَحْتَل الأوطان، وتُسيطر، وتستحكم سيطرتها على بلدان أُمَّتنا، وتُجَرِّد أُمَّتنا من كل عناصر القوة، ثم- في نهاية المطاف- تُدرك الأُمَّة وتقتنع بأنه بات ضرورياً أن تتحرك، وهذه النظرة هي نظرة خاطئة: نظرة تمكين العدو أولاً، ثم التحرك ما بعد تَمَكُّنِهِ واستحكام سيطرته ثانياً.

القرآن الكريم هو كتاب هداية من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” هو القدوة والأسوة، كيف تحرَّك بشكلٍ استباقي، دون الانتظار حتى يتمكَّن العدو، وتستحكم سيطرته، ثم يأتي القرار بضرورة التَّحَرُّك آنذاك، في مثل تلك الأحوال تكون الأُمَّة قد فقدت الكثير الكثير من عناصر قُوَّتها المعنوية، وحتى على مستوى الظروف، تكون قد فقدت الكثير من الظروف المُهَيِّئَة لموقفٍ أقوى، وتحرُّكٍ فعَّال، وتحقيق نجاحٍ أكبر، وهذه مسألة مهمة؛ لأن الظروف- نفسها- لها تأثير كبير في واقع الأُمَّة.

مثلاً: في قصة فلسطين، لو أن المسلمين أدركوا جيداً، وبالاهتداء بالقرآن الكريم، أن تخاذلهم في البداية، في بداية تَدَفُّقِ اليهود الصهاينة برعاية بريطانية إلى فلسطين، سيترتب عليه: أن يتمكن أولئك الأعداء من السيطرة التامة، وبناء واقعٍ قوي، ثم تكون مواجهتهم فيما بعد أصعب من مواجهتهم آنذاك، ومواجهتهم آنذاك وهم عصابات صهيونية، بأسلحة متوسطة وخفيفة، وبشكل لا يزالون في بداية أمرهم بشكل ضعيف، فارقٌ كبير بين واقعهم آنذاك وفيما بعد؛ بعد أن استحكمت سيطرتهم، وتنظَّموا أكثر، وشكَّلوا جيشاً كبيراً، قوياً، متمكناً، مسلحاً بأعتى السلاح، ثم- فيما بعد ذلك- عزَّزوا من سيطرتهم من خلال جرائمهم الكبيرة، التي كان لها تأثير سلبي في كسر الروح المعنوية لدى السكان، ولدى المجتمع العربي.

لو كانت النظرة القرآنية، والرؤية القرآنية، والاهتداء بالقرآن، وبسيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، هو الذي يحكم التفكير، والتدبير، والتَّوجُّهات، وتحرَّك المسلمون، والمرحلة- من تلك اللحظة، من ذلك الظرف- هي مرحلة نفير، أن ينفروا خِفَافاً وَثِقَالاً، وأن يستشعروا الخطر الكبير، حتى في تقييم مستوى الخطر، مستوى الخطر اليهودي الصهيوني، لو كانت لديهم رؤية القرآن الكريم، والاهتداء بها، في تقييم مستوى ذلك الخطر على الأُمَّة بكلها، على المنطقة بأجمعها، على شعوب هذه البلدان بِرُمَّتِها؛ لكانت المسألة مختلفة تماماً.

فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حينما يذكر لنا حال بعض المؤمنين، والذين انطلقوا- في نفس الوقت- مع رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، لكنهم كانوا يحاولون أن يُقْنِعوا رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بأن يُغَيِّر موقفه، وأن يؤخِّر التحرُّك في مواجهة قريش، لم يكن لديهم أملٌ بالنصر، بحسب الحسابات آنذاك، وموازين القوى، الحسابات المادية وموازين القوى، ما بين واقع المسلمين وهم في حالة استضعاف تام، لم يخوضوا قبل ذلك معركة عسكرية كبيرة؛ إنما اشتباكات محدودة، من خلال سرايا كان يرسلها رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”.

فالله يقول عنهم: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}[الأنفال:6]، قد تَبَيَّنَ الحق والموقف الحق، لكنَّ العامل النفسي، والرؤية المحدودة القاصرة، كانت مؤثِّرةً على موقفهم، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:6]، يعني: لم يكن عندهم أملٌ بِالنَّصر.

تَحَرُّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” بمن استجاب له من المسلمين، ودعا المسلمين إلى أن يتحرَّكوا معه، استجاب له منهم (ثلاثمائة)، وفي بعض الأخبار يقولون: (وأربعة عشر شخصاً)، منذ بداية التحرُّك كان هناك حملة في المدينة المنورة للإرجاف، والتهويل، والتثبيط، من قِبَل المنافقين والذين في قلوبهم مرض.

فئة المنافقين، وفئة الذين في قلوبهم مرض، من أبرز ما يميزها- وهذا تكرر كثيراً في القرآن، وهذا درسٌ مُهِمٌ جدًّا لِأُمَّتنا في هذه المرحلة- من أبرز ما يُمَيِّزها، ويكشفها، ويُوَضِّحها، ومن أبرز علاماتها: أنَّها تُثبِّط الأُمَّة عن مواجهة الأعداء من الكافرين، وتخلخل في واقع الأُمَّة من الداخل، وتتحرَّك بالإرجاف والتهويل والتثبيط، هذه العلامة بارزة جدًّا لها في القرآن الكريم، وتحدث عنها القرآن الكريم بوضوحٍ كبير في (سورة آل عمران)، وفي (سورة الأنفال)، وفي (سورة التوبة)، وفي (سورة الأحزاب)، وفي (سورة الفتح)… وفي سورٍ أخرى في القرآن الكريم.

وهذه مسألة مهمة؛ لأن من أهم ما تحتاج إليه أُمَّتنا: أن تمتلك الوعي الكافي القرآني عن المنافقين:

– من هم؟

– ما هي علاماتهم؟

– ما هي أعمالهم؟

– ما الذي يشكِّلونه من خطورةٍ على الأُمَّة؟

– كيف هو ارتباطهم بالكافرين؟

– ما هو دورهم في إطار استهداف الكافرين لأمتنا؟

هذه من أهم الأمور التي تحتاج إليها الأُمَّة، وأن يتعمم هذا الوعي في أوساط الأُمَّة؛ لأن أكبر دورٍ خطيرٍ على أُمَّتنا من الداخل هو دور المنافقين؛ لأنهم يقدِّمون خدمةً كبيرةً للكافرين، يوالون الكافرين؛ لأن هذا هو المشكلة الكبرى، التي جعلت منهم منافقين، يعني: كان بالإمكان أن يكونوا فَجَرَة، أو فَسَقَة… أو أي عنوان من العناوين السيئة الأخرى، لكنَّ عنوان النفاق فيه: أن يكون الإنسان منتمياً للمسلمين، موالياً لأعداء الإسلام والمسلمين، هذه حقيقة النفاق؛ لأنه ضُرِب حتى تفسير معنى المنافق (ما هو النفاق؟ ومن هو المنافق؟).

المنافق: هو الذي ينتمي للإسلام، لكن ولاءه لأعداء الإسلام، هو مع أعداء الإسلام، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}[البقرة:14]، فهذه المعيَّة (مَعِيَّتهُم مع الكافرين) هم مع الكافرين أعداء الأُمَّة، وفي نفس الوقت يقول عنهم في (سورة النساء): {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:139]، فهو يُعَرِّفهُم، بأنهم هم هكذا: هم {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء:138-139].

من يتأمل في القرآن الكريم في (سورة البقرة)، في (سورة آل عمران)، في (سورة النساء)، في (سورة الأنفال) في (سورة التوبة)، في (سورة الفتح)… في غيرها من السور القرآنية، في (سورة المنافقون)، يجد أن هذه علامة بارزة جدًّا للمنافقين: هم يعملون على خلخلة وإضعاف الأُمَّة في موقفها من أعدائها من الكافرين، ويحاولون أن يُعِيقُوا تحرُّك المؤمنين ضد الكافرين، وينشطون ضد المؤمنين، وضد الموقف الإيماني، فيما يتعلق بمسألة الجهاد في سبيل الله، إقامة القسط… كل ما فيه الخير للأُمَّة، والقوة للأُمَّة، والعِزَّة للأُمَّة، يحاولون أن يخلخلوا من الداخل.

ولـذلك عندما تحرَّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، ومن استجاب لهم من المسلمين، بدأت على الفور حملة في داخل المسلمين، في المدينة المنورة؛ للإرجاف، للتهويل، للتثبيط، للتيئيس، أنه: [لا جدوى من هذا الموقف، لا فائدة، لا يمكن لكم أن تنتصروا، لا يمكن لكم أن تهزموا الأعداء ولا أن تغلبوهم، ليس هناك لموقفكم هذا أي فائدة؛ إنما هو انتحار، إنما هو خطر… وهكذا]، {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:49]؛ فهم يعتبرون المؤمنين مغرورين، وَمُغَرَّرٌ بهم، وأن اعتمادهم على مبادئ الإسلام، والثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومبدأ التوكل على الله، كل هذه المبادئ بنظرهم: [مبادئ فارغة، لا معنى لها، لا قيمة لها، ليست واقعية، لا يمكن الاستناد إليها في مواجهة واقع كبير، وتحديات خطيرة قائمة]؛ فلـذلك هم يَسْخَرون من المؤمنين، يعتبرونهم لا يمتلكون الواقعية، والرؤية الصحيحة تجاه الواقع، وتجاه حجم وتأثير الأعداء.

حينما تحرَّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” من المدينة، وصل الخبر إلى قريش في مكة، واستنفرهم أيضاً أبو سفيان، من خلال رسول أرسله إليهم؛ ليستنفرهم بالطريقة التي كانت- آنذاك- معروفةً عندهم في الاستنفار، والاستنجاد، والاستغاثة، في أسلوب يساعد على أن يُهَيِّجهم للقتال، وأن يُحَرِّكهم على الفور وبشكلٍ عاجل، وهم تحرَّكوا، قريش تحرَّكوا بشكلٍ عاجل، ولكن مع إعداد العُدَّة، ومع النفير العام في أوساطهم، حشدوا إمكانات ضخمة؛ بحكم أنهم متمكنون مالياً، اقتصادياً، عسكرياً، لديهم العُدَّة والعدد، وتحرَّكوا بقوة عسكرية قريباً من (ألف مقاتل)، بإمكانات ضخمة، البعض خرج ومعه درعين، وسيفين… وهكذا، تحرَّكوا بإمكاناتهم، معهم العدد الكبير من الإبل، التي ينحرون منها في كل يوم، يأكلون اللحوم، ويشربون الخمور، وبعروض لإمكاناتهم؛ في مقابل ظروف المسلمين الصعبة، حتى عندما تحرَّكوا من المدينة.

قريش قرَّروا أن يجعلوا من الموقف فرصةً:

– للقضاء على النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”؛ لأنهم- أصلاً- كانوا يريدون أن يقوموا بعملية عسكرية كبيرة؛ لاستهداف النبي والمسلمين والقضاء عليهم؛ وبالتـالي يعتبرون الفرصة قد حانت وأتت، ويعتبرون الظروف مهيأةً بالنسبة لهم، من حيث الإمكانات، من حيث العدد، من حيث العُدَّة، أن لديهم الإمكانية الكافية واللازمة لإنجاز ذلك، فهم كانوا يطمئنون إلى أن المسألة متاحة وممكنة؛ وإنما يتحرَّكون لتنفيذ ذلك.

– وفي نفس الوقت مع هذا الهدف- مع التحرُّك للقضاء على النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وعلى المسلمين، وإنهاء أمر الإسلام- أن يعزِّزوا من نفوذهم وهيبتهم في الجزيرة العربية، أمام بقية القبائل والقوى، بحيث يكون للموقف صداه في هيبتهم، في نفوذهم، في قوَّتهم، فأرادوا من ذلك أن يُعَزِّزوا من مكانتهم وهيبتهم لدى القبائل العربية الأخرى، والقوى الأخرى في الساحة، على المستوى الإقليمي والدولي، فأرادوا أن يجعلوا من ذلك فرصةً لذلك.

ركَّزوا على استعراض إمكاناتهم؛ ليسمع بها الناس، أنهم خرجوا بذلك العدد، بتلك الإمكانات الضخمة، كما قال الله عنهم في خروجهم: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال:47]، مهمتهم الأساسية- بالنسبة لهم- كانت هي: الصدّ عن سبيل الله، والعمل على إنهاء أمر الإسلام، (بَطَراً) بما هم فيه من النعمة والإمكانات، لم يشكروا نعمة الله عليهم، (رِئَاءَ النَّاسِ) قالوا: أنهم أرادوا أن يسمع بهم العرب جميعاً، بخروجهم ذلك، وبما كان معهم فيه من إمكانات ضخمة.

رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وهو يتحرَّك قد خرج من المدينة، عرف أيضاً بخروجهم، أنَّهم قد تحرَّكوا عسكرياً، رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” مع أنه كان يأتيه الخبر من السماء، في الوحي من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكنه أيضاً كان يهتم جدًّا بمسألة رصد تحركات الأعداء، وكان له نشاط استطلاعي، وجهاز معلوماتي، (جهاز معلوماتي) يعني: عناصر، أفراد، كانوا يسمونهم بـ(العيون) آنذاك، يرصدون له التَّحرُّكات، يُبَلِّغونه بالأخبار، فأتاه الخبر عن تحرُّك قريش، وخروجها بتلك القوة العسكرية، مع ذلك لم يتراجع رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، صَمَّم على مواصلة السير نحو القافلة لاستهدافها، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وعده ووعد المؤمنين معه بالتمكين من إحدى الطائفتين:

– إمَّا من القافلة، وعلى رأسها أبو سفيان ومن معه.

– وإمَّا من القوة العسكرية، التي خرجت للقتال من قريش.

بالنصر عليهم، والله يقول: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال:7]، هذا وعد بالنصر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال:7]، ما يرغب به المسلمون كان هو: السيطرة على القافلة التجارية، وليس الاصطدام بالقوة العسكرية، وإن كان في ذلك نصراً عليها، لكنَّهم كانوا يوَّدون الغنيمة.

لكن تدبير الله لما هو أهم: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:7]، أراد الله من خلال أن يكون الظَفَر والنصر العسكري، الذي هو أهم من الغنيمة وتلك القافلة؛ لأنه الأكثر أهميةً لخدمة الموقف ودعم القضية، لإحقاق الحق، وإبطال الباطل.

وهذا درسٌ مهمٌ في الخيارات بالنسبة للمسلمين، عندما تُدْرَس الخيارات في إطار الموقف نفسه، في إطار التوجُّه ضد العدو نفسه، بين الخيارات: الخيار الذي هو أكثر تأثيراً على العدو، وأكثر خدمةً للقضية.

رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” واصل في حركته، ومسيره بمن معه من المسلمين، يريد الوصول إلى الطريق التي تَعْبُر منها القافلة، ووصل إلى أطراف (بدر)، على بُعد (مائة وخمسةٍ وخمسين كيلو) عن المدينة تقريباً، يعني: مسافة بعيدة عن المدينة؛ بينما أيضاً كان الجيش الذي يتحرُّك من مكة (جيش قريش) قد وصل أيضاً قريباً من (بدر)، ووصل الطرفان، يعني: في وقتٍ متزامن، وفي إطار التدبير الإلهي فاتت القافلة، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ}[الأنفال:42]، القافلة فاتت، وحوَّل أبو سفيان مسارها من الطريق المعتاد، والذي كان رسول الله يسعى للوصول إليه، للوصول إلى القافلة فيه، فالقافلة حوَّل أبو سفيان مسارها، واتَّجهت من طريقٍ آخر، والتفَّت عن الطريق الذي هو معتادٌ للمرور والعبور فيه، وبقي الجيش، على مَقْرُبَةٍ من جيش المسلمين.

ما قبل المواجهة كان هناك تدبيرٌ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وما قبل أن يتراءى الجمعان، وأن يلتقيا، وأن تبدأ المعركة، كان هناك جملة من التدابير، والرعاية الإلهية التي كانت أيضاً مع الوعد السابق: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال:7]، كان هناك أيضاً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مُبَشِّرات من رعايته، تُعَزِّز حالة الاطمئنان لدى المؤمنين.

الليلة الأولى، ما قبل صبيحة يوم المواجهة، بات فيها المسلمون في (بدر)، في مَقْرُبَةٍ من جيش المشركين، وقد بات من الواضح أن المعركة العسكرية حتمية، ستأتي المعركة العسكرية، ففيما هم فيه من ظروف صعبة، من معاناة، حتى من أعباء السفر ومتاعبه، مع الخوف، مع الخطر، مع التوتر؛ التجأوا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}[الأنفال:9]، وهذه مسألة مهمة جدًّا.

التحرك في سبيل الله قائمٌ أساساً على أساس: الالتجاء إلى الله، الاستعانة بالله، الاعتماد كلياً على الله، التَّوَكُّل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الثقة بالله “جَلَّ شَأنُهُ”، لا يعيش الإنسان حالة غرور، أو اتِّكال على نفسه، أو حالة إحباط ويأس، وهذا مصدر قوة مهم جدًّا:

– على المستوى المعنوي.

– وعلى مستوى ما يحظى به المؤمنون من رعاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومعونته، وتيسيره، ومدده الواسع والمتنوع.

فالاستغاثة مسألة مهمة، نحن عبيدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو رَبُّنا، ولي رعايتنا، والمربِّي لنا، والمالك لنا، والمنعم لنا، نلتجئ إليه هو، نتوكل عليه هو، هو الذي ينفعنا، المسلمون في هذا العصر لم تنفعهم أي قوة أخرى من القوى العالمية، البعض- مثلاً- يعوِّل على الصين، أو يُعَوِّل على روسيا، أو قوة هنا أو هناك، الكل لن ينفعهم بشيء.

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}[الأنفال:9]، فمن الأشياء المهمة للأُمَّة المؤمنة المجاهدة: أن تكون مستغيثةً بالله، ملتجئةً إلى الله، كثيرة الدعاء، والالتجاء، والاستغاثة… هذه مسألة مهمة، في الميدان أيضاً، في ميدان المواجهة، في العمليات والتحرُّك لأداء المهام الجهادية، من المهم التركيز على الإكثار من ذكر الله، على الاستغاثة والالتجاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال:9]، تأتي من الله الاستجابة؛ هو أرحم الراحمين، هو خير الناصرين، هو مولى المؤمنين، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” القائل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}[محمد:11]، يتولَّاهم برعايته، بمعونته، بنصره، برحمته، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى}[الأنفال:9-10]، استجاب لكم، يستجيب برحمته، بفضله، يُعين، يؤيِّد، ينصر، يُسَدِّد، يُيَسِّر.

فدعمهم بعدد كبير من الملائكة، مثل عددهم أضعافاً، أكثر من ثلاثة أضعاف، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}[الأنفال:9-10]، فالله يمنح الدعم المعنوي، وأكبر وأهم ما يحتاج إليه من يتحرَّكون في سبيل الله، وأهم المؤثرات في الموقف العسكري، هو: الحالة المعنوية، والروح المعنوية، بالروح المعنوية يمكن الثبات، الصمود، مقياس قوة الموقف والتحمُّل يتعلق بالروح المعنوية.

{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:10]، هذا مبدأٌ عظيم: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ فلـذلك يبقى التجاؤنا إلى الله، اعتمادنا على الله، ثقتنا بالله، تَوَكُّلنا على الله، استعانتنا بالله، يقيننا بأنه القادر على أن يُنْجز وعده بالنصر، مهما كانت التحديات، ومهما كان العدو، ومهما كان يمتلكه العدو، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:160]؛ لـذلك أتى هذا المدد والدعم.

هذه البشارة كان لها تأثيرها الكبير في نفوس المسلمين، إيمان المؤمنين بالملائكة، وأنَّهم من جنود الله، وأنَّهم من مدد الله، الذي يُمِدُّ به المؤمنين في ميدان المواجهة، وأن لهم تأثير كبير في الحالة المعنوية والنفسية، بحضورهم مع المؤمنين يؤدون هذا الدور المعنوي، يستمرون حتى أثناء المعركة، أثناء المواجهة، في التأثير النفسي والمعنوي الإيجابي العظيم، الذي تكون من نتائجه:

– السكينة.

– والطمأنينة في القلوب والنفوس.

– والثقة.

– والإحساس بالقوة.

وهذه أمور مهمة للغاية في ميدان المواجهة.

مع ذلك أيضاً، ومن مظاهر الرعاية، والرحمة، والمعونة، والمُبَشِّرات التي منَّ الله بها على المؤمنين، قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}[الأنفال:11]، (النُّعاس): النوم الخفيف، تلك الليلة الأولى ما قبل صبيحة يوم المواجهة، وكان هذا مهماً للمسلمين؛ لأن له إيجابية كبيرة في الهدوء من التوتر العصبي والنفسي، وحتى الذهني، وهذه أمور مهمة للمواجهة، كلما كان الإنسان أكثر اطمئناناً، وأقل توتراً، وأقل اضطراباً على المستوى النفسي، العصبي، الذهني؛ كلما كان أقدر على الثبات، وأقوى في الموقف، وأقوى أيضاً على مستوى الفعل؛ فالنعاس كان مريحاً لهم، مريحاً لأبدانهم، لأعصابهم، واستفادوا من ذلك، ولم يكن نوماً شديداً؛ حتى لا يغتنم الأعداء الفرصة عليهم، وهم في حالة نوم، يَغُطُّون في النوم، بعد السفر الطويل، بعد التعب، كان لهذا أيضاً تأثير إيجابي، وفي إطار هذه السكينة التي نزلت عليهم: {أَمَنَةً مِنْهُ}[الأنفال:11].

{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}[الأنفال:11]، كذلك نزول الماء من السماء، يعني: المطر (الغيث)، كان من تلك المُبَشِّرات والمقدمات التي بَشَّرَهُم الله بها، والتي يلمسون من خلالها رعاية الله بهم، وكانوا بحاجة كبيرة إلى الماء:

– للشرب، وهذه مسألة أساسية بالنسبة لهم.

– للطهارة، وهذه مسألة مهمة بالنسبة لهم.

– للنظافة.

– للانتعاش على المستوى البدني والنشاط.

– وأيضاً للتخلُّص من وساوس الشيطان، بما فيها حول موضوع الماء: [كيف سيتوفر لكم الماء؟ ستتعبون من العطش، ستموتون من العطش، لن تستطيعوا الصمود، قد غلب الأعداء على آبار المياه المهمة…إلخ.].

كذلك كانت هذه الرعاية الملموسة من رعاية الله من المُبَشِّرات لهم.

– ولتهيئة ميدان المعركة، المنطقة التي هي رملية أو شبه رملية، تَلَبَّدت وتماسكت مع المطر؛ مما يهيئ القتال عليها براحة، هيأ الله لهم حتى الميدان، رعاية فيما لا يمكن لأحد أن يفعله أصلاً، رعاية عجيبة.

نكتفي بهذا المقدار.

وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: فی القرآن الکریم على المستوى بالنسبة لهم ک رسول الله من المدینة ع ل ى آل ه أبو سفیان سبیل الله الأنفال 7 س ب ح ان ه الأنفال 9 ت ع ال ى إلى الله على الله کان هناک أن یکون من خلال الذی هو لا یمکن فی إطار هو الذی کبیر فی من الله من الم ما قبل الذی ی ة الله ما بعد الذی ه ى الله من ذلک

إقرأ أيضاً:

(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد القائد 1446هـ

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نستكمل ما كنا قد ابتدأنا الحديث عنه، فيما يتعلق بغزوة بدرٍ الكبرى، وعن أهميتها في التاريخ الإسلامي، وفي سيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وعن امتداد تأثيرها عبر الأجيال، فآثارها ممتدةٌ إلى عصرنا، وإلى ما بعد عصرنا، وهي آثار ونتائج، في غاية الأهمية.

في الحديث عن ذكرى غزوة بدرٍ، وعن أهميتها، وعن مجرياتها، وعن بعض الدروس والعبر منها، نبتدئ أولاً بالحديث عن العنوان المهم، الذي سمَّاها الله به في القرآن الكريم، وسمَّى غزوة بدرٍ الكبرى، سمَّى يومها (يوم الفرقان)،       وهذه تسمية لها دلالتها المهمة، التي ينبغي أن نستوعبها جيداً؛ لأن الله قال في القرآن الكريم: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}[الأنفال:41]، في الآية التي تحدثت عن مسألة (الخُمُس)، فسمَّاه يوم الفرقان، لماذا؟ لأنه يومٌ مهمٌ فارقٌ، فارقٌ في جوانب متعددة، فارقٌ في التاريخ، ليس بعده كما قبله، هناك فارق، وهذا الفارق المهم هو: في إحقاق الحق، وفي إبطال الباطل وإزهاق الباطل، هو أيضاً في حالة المسلمين، في واقعهم، وفي واقع أعدائهم، ولكن ذلك الفارق هو لصالح المسلمين المستضعفين، الذين كانوا في غاية الاستضعاف، هو فارقٌ لمصلحة الحق، والخير، والعدل؛ في مواجهة الباطل، والشر، والظلم، والطغيان، والفساد.

وهذا درسٌ مهمٌ جدًّا لنا نحن، في أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يصنع المتغيرات الكبيرة، في إطار هدايته لعباده المؤمنين، وما يحققه على أيديهم، حينما يستجيبون له في النهوض بمسؤولياتهم المقدَّسة والعظيمة والمهمة.

البعض من الناس، حينما يرى واقعاً معيناً، تستحكم فيه قوى الطاغوت، والاستكبار، والظلم، والكفر، بإمكاناتها الهائلة والضخمة، ونفوذها الكبير، واستحكام سيطرتها على الناس، وتَحَكُّمِها في الواقع، وحضورها الكبير في الساحة، يتصوَّر أن ذلك الحال سيستمر، ولا يمكن تغييره، وبالذات عندما تكون المسألة أن يتحرَّك المستضعفون في إطار الحقِّ، والخير، والعدل، والتعليمات الإلهية، يتحرَّك المسلمون بواجباتهم المقدَّسة والعظيمة، وهم في ظروف استضعاف شديدة، وفي نُدْرَةٍ من الإمكانات، ويكون واقع الحال وصورة الوضع كما أنه لو كان من المستحيل إحداث تغييرٍ كبير في واقعٍ كذلك.

لكنَّ المسألة أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي يتولَّى صنع المتغيرات؛ إِنَّما تكون المسألة فيما يتعلق بالمسلمين والمؤمنين، عندما يستجيبون لله، ويتحرَّكون وفق تعليماته وهديه، أنَّهم يأخذون بالأسباب؛ أمَّا الذي يصنع المتغيرات فهو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو القائل في القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:26].

فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مثلما هو يصنع المتغيرات الكونية، في تدبير حركة الكون، في الليل والنهار، فيولج الليل في النهار؛ ويتغير الحال تماماً، ويولج النهار في الليل؛ فيتغير الحال بعد ذلك بشكلٍ تام، من ظلمة الليل إلى ضوء النهار، وإلى دفء النهار أيضاً، فأيضاً يخرج الحيَّ من الميِّت، من البذرة الميِّتة، ومن النواه الميِّتة يُخْرِج النبتة التي قد جعل فيها الحياة وتنبت، وهكذا يخرج الميِّت من الحي؛ فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قادرٌ على خلق المتغيرات وصُنع المتغيرات، فيبدل من كانوا في عِزَّة، وقوة، وتمكُّن، وسيطرة، ونفوذ، واستحكام، يبدل حالهم ذلك إلى ذِلَّة؛ لبغيهم، لطغيانهم، لإفسادهم، لإجرامهم؛ أو لمخالفتهم لهديه، وتعليماته، وانحرافهم عن نهجه، وإخلالهم بالتزاماتهم الإيمانية والدينية، مثل ما هو في واقع المسلمين، هو قادرٌ على أن يصنع المتغيرات، هو المُدَبِّر لأمور عباده، وهو الذي رسم السُّنَن في هذه الحياة، في الأسباب ونتائجها، ويتدخل مع ذلك، ليست مسألةً متروكةً هكذا في واقع الحياة، دون تَدَخُّلٍ منه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا؛ لأن البعض من الناس ينسى الله وييأس، وبالذات في واقع المستضعفين.

النقلات التي تَحَقَّقت في واقع المسلمين في بداية عصر الإسلام، كانت من هذا القبيل: الواقع القائم، كانت تسيطر فيه قوى الطاغوت والكفر والضلال والباطل، في الجزيرة العربية معروفٌ كيف كان هو الحال، وفي- أيضاً- في خارج الجزيرة العربية، حيث كانت امبراطورية الرومان الامبراطورية الكبرى آنذاك، وكانت امبراطورية الفرس أيضاً مُنَافِسَة لها ومناوئة لها، وكانت هناك قوى إقليمية ودوليَّة أخرى، فالحال الغالب والحال السائد في الساحة هو: سيطرة قوى الشرك، قوى الكفر، قوى الباطل، قوى الضلال، قوى الطغيان، واستحكام نفوذها.

وتلك الحالة في نظرة الكثير من الناس آنذاك، في مسألة أن يتغير واقع المسلمين، المستضعفين، الذين بدأوا من ظروف صعبة، وهم قلةٌ قليلة، بإمكانيات محدودة جدًّا، معظمهم من الفقراء المُعْدِمِين، كانت مسألة أن تتحقَّق نقلات في الواقع، وأن يتحوَّلوا هم يومٍ من الأيام إلى القوة الكبرى في هذه الساحة، والقوة المسيطرة والمتمكنة، كانت نقلة كهذه في حساب وتقديرات الكثير من الناس في قائمة المستحيلات، يعني: ينظرون إلى واقع الآخرين، إلى واقع المسلمين، إلى الظروف المحيطة بهم، فيعتبرون مسألة أن يتحوَّل أولئك المستضعفون، القلة، القلة القليلة، الذين لديهم ظروف بالغة الصعوبة، هم القوة الكبرى المؤثِّرة في الساحة، وأن تتغير في الواقع تلك: المفاهيم، العقائد، الثقافة السائدة، الكثير من العادات والتقاليد الباطلة، التغيير الكبير جدًّا؛ لأن مسار الإسلام هو إحداث تغيير كبير وشامل، تغيير جذري بما تعنيه الكلمة؛ فلـذلك كانت التقديرات لدى الكثير أن هذا في قائمة المستحيلات.

ثم حينما تَحَقَّقت النقلات العظيمة، يعني: في الصراع مع قريش، وفي الساحة العربية، وما بعد ذلك فيما يتعلق بالصراع مع اليهود، والتَّمَكُّن من القضاء عليهم في الساحة، وفي المناطق التي كانوا منتشرين فيها، ثم فيما بعد ذلك في الصراع مع الرومان، وصولاً إلى انتصارات المسلمين الكبرى على دولة الروم وامبراطورية الروم… وغير ذلك، تلك النقلات التي تَحَقَّقت كانت آيةً من آيات الله، وكانت تَدُلُّ بشكلٍ واضح على أن منهجية الإسلام، التي تحرَّك فيها رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، منهجية صحيحة، تُمثِّل صلةً عظيمةً بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، برعايته، بنصره، بتأييده، ويصنع الله المتغيرات.

أمَّا بالنظر إلى ظروف المسلمين في قلتهم، وضعف إمكاناتهم، وغربتهم؛ وبالنظر إلى أعدائهم، وإمكانات أعدائهم، وقوتهم، ونفوذهم؛ وبالنظر إلى محيطهم المجتمعي المُتَرَبِّص بهم، والمنتظر ماذا سيكون عليه حال هؤلاء، وكيف ستكون عاقبتهم، فكانت التقديرات أنَّ التغيرات الكبيرة التي تَحَقَّقت فيما بعد هي في قائمة المستحيلات.

في بداية أمر الإسلام في مكة، ما قبل هجرة النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” والمسلمين معه إلى المدينة، كانت وضعية المسلمين في مكة صعبة للغاية: استضعاف كبير، كانوا قلةً قليلة، بين مجتمع قريش، الذي أبى أكثره أن يؤمن، ووصل إلى درجةٍ قال الله عنه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[يس:7]، وكانوا يشعرون بالغربة في ذلك المجتمع، كما في الحديث النبوي: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأ، فَطُوبَى لِلغُرَبَاء))، قِيْلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُوْلَ اللَّه؟ قَال: ((الَّذِينَ يَصْلَحُون عِنْدَ فَسَادِ النَّاس))، أو كما في الحديث.

الحالة تلك في مكة كان البعض فيها من المسلمين في حالة اضطهاد، وتعذيب، حالة صعبة؛ ولهـذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الأنفال:26]، هذه الآية المباركة هي تَحْكِي لنا تلك الأحوال، كيف كانت في بداية الأمر، ثم ما صنعه الله من تغييرٍ لذلك الحال، وهي درسٌ لهم ولكل المؤمنين، على مدى التاريخ إلى قيام الساعة، كيف يمكن أن تكون هذه الآية حالةً قائمة في واقع المؤمنين، الذين يتحركون في واقع استضعاف، وقِلة قليلة، ثم تتغير أحوالهم بتوفيقٍ من الله، ونصرٍ من الله، ورعايةٍ من الله، إلى عِزّ، إلى نصر، إلى تمكين، إلى نفوذ، إلى سَعة… إلى غير ذلك.

بعد هجرة النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” إلى المدينة تحسَّنت أحوال المسلمين بدايةً، فكانت نقلةً في وضعهم، وكانت فرجاً من الحالة التي كانوا فيها من الاضطهاد، والتعذيب، والظلم، فيما توفر لهم في المدينة من حالةٍ جيدة: بيئة حاضنة، واستقبال، واستقرار، وتحسنٌ في أحوالهم، بعدما كانوا يعانونه في مجتمعهم في قريش من: التكذيب، والاضطهاد، والإذلال، أصبحوا عند إخوةٍ لهم هم الأنصار، احتضنوهم، فهيَّأ الله لهم المأوى، {فَآوَاكُمْ}[الأنفال:26]،  هذا كان هو من أول المتطلبات لتغيير أحوالهم، ومن أول المتطلبات لبناء أُمَّة مُسْلِمَة، تحتاج أولاً إلى حاضنة اجتماعية، ونطاق جغرافي تنهض منه هذه الأُمَّة، ويقوم فيه أمر الإسلام، {فَآوَاكُمْ}[الأنفال:26].

مع ذلك كان لا يزال محيطهم في المدينة نفسها، في محيط المدينة، وفي الجزيرة العربية، محيطاً متغيراً عنهم، يُشكِّل تهديداً لهم، يعني:

هناك في الجزيرة العربية أعداء أَشِدَّاء أَلِدَّاء لهم. وهناك اليهود- كذلك- يعادون الرسالة الإسلامية والمسلمين، ويعادون رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”. وهناك على المستوى الدولي قوى دولية ضخمة: امبراطورية الرومان… وغيرها.

فلـذلك كانوا في ظل ذلك الوضع لا يزالون يواجهون التحديات الكبيرة؛ بدأ الفرج، بدأ تَحَسُّن الحال بالإيواء لهم في المدينة، بالبيئة الحاضنة هناك، لكن التهديد واسع من حولهم؛ فهم بحاجة انتصارات، وبحاجة إلى ما يُعَزِّز ثقتهم هم بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بانتصار أمر الإسلام، وكذلك نظرة الكثير من المُتَرَبِّصِين، فالبعض منهم عندما يشاهد- مثلاً- أنه تَحَقَّق للمسلمين انتصارات، وَثَبْتَ أمر الإسلام، قد يُقبِل إلى الإسلام، ممن هم في ما يسمى (في المنطقة الرمادية) كما يقال في التعبيرات، يعني: فئة مترددين، مُتَرَبِّصِين، منتظرين إلى ما ستؤول إليه الأمور: هل سينتصر الإسلام؟ هل سيتقوَّى المسلمون؟ كيف سيكون الحال إذا واجهوا تهديداً عسكرياً، إذا شُنَّت عليهم حرب، هل سيتمكن أعداؤهم من القضاء عليهم، وإنهاء أمر الإسلام، أم لا؟ كثيرٌ من الناس ينتظرون هذه النتائج، فهم في حالة تَرَبُّص، ماذا ستؤول إليه الأمور، لِيُقَرِّرُوا فيما بعد.

البعض من الناس– مثلاً- كانوا مستحسنين للإسلام، دعوة الإسلام، مبادئه؛ جذَّابة، وعظيمة، ومنسجمة مع الفطرة، حقٌّ واضح، لكن الكثير من الناس يتصوَّر: [كيف سينتصر هذا الحق الواضح!]، يعني: الإسلام بنظره: [جيد، ورائع، وشيء عظيم، لكن هل هناك فرصة لأن يَتَحَقَّق في واقع الناس، وأن يقوم له أمر في واقع الناس؟!]، يرى ما عليه أعداؤه من إمكانات، وقوة، وشدة، وحقد في نفس الوقت؛ فيتردد.

فكــان المسلمــون بحاجــة إلى نقلــة:

تُعَزِّز من ثقتهم بثبات أمر الإسلام. وتُخَفِّف من حالة المخاوف لدى البعض من فئة المُتَرَبِّصِين، إذا لمسوا هناك دلائل مطمئنة، قد يُقْبِلون على الإسلام، البعض من المُتَرَبِّصِين. وفي نفس الوقت نقلة تكسر من شَرَهِ الأعداء وأطماعهم، تُخَفِّف من أطماعهم؛ لأن الأعداء حينما ينظرون إلى ظروف المسلمين، قِلَّتِهِم، ضعف إمكاناتهم المادية، فهم يطمعون، ويتصوَّرون أنَّه من الممكن القضاء على المسلمين.

فما قبل أن يكون هناك مواجهة عسكرية، الطمع كبير عند الأعداء، ولديهم أمل كبير في أنَّه من الممكن استئصال المسلمين، والقضاء على أمر الإسلام، والقضاء على رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وإنهاء هذه المسألة بالكامل؛ لأنهم يرونها مشكلةً عليهم.

لماذا يرونها مشكلةً عليهم؟! قوى الكفر والطاغوت والشَّرّ والإجرام ترى نفسها متناقضة مع الإسلام؛ الإسلام هو دين الحق، دين العدل، دين الرَّحمة، دين الخير، الدين الذي يرتقي بالمستضعفين، ويعيد للناس اعتبارهم وكرامتهم الإنسانية، وينقذهم من الاستعباد والاستغلال من قِبَلِ الطغاة والمجرمين والظالمين؛ فهم يعتبرونه يهدد مصالحهم، ونفوذهم القائم على الجور، والظلم، والطغيان، والاستعباد، والاستغلال؛ ولـذلك يرون فيه خطراً، فيتَّجهون لمحاربته بشكلٍ شرس، ويحاولون القضاء عليه.

قوى الكفر، الموجودة في الساحة العربية آنذاك، وفي الجزيرة العربية، قوى متعددة، وعبارة عن مجتمعات قَبَلِيَّة، وتَجَمُّعات قَبَلِيَّة، وهناك اليهود من جهة أخرى، وهناك قوى دوليَّة، وقوى إقليمية، كلها ليست مرحِّبةً بالإسلام، ولا بالنبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” والمسلمين، كلها لها موقفٌ عدائيٌ تجاه المسلمين.

وهناك فئات من المجتمع– كما قلنا- فئات مُتَرَبِّصة، يعني: لم تتحرَّك عملياً لمحاربة المسلمين، وفي نفس الوقت بَقِيَت تراقب الأوضاع إلى ماذا ستتجه وتؤل إليه الأمور.

بين قوى الكفر في الساحة، القوة الأبرز في الجزيرة العربية وهي قريش. قريش هم قوم النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وهم من نسل نبي الله إسماعيل “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ولهم نفوذهم وأهميتهم الكبيرة في الجزيرة العربية، وتأثيرهم الكبير؛ لأنهم المسيطرون على مكة آنذاك، وهم القائمون على أمور بيت الله الحرام، وإدارة شؤون الحج، وكان العرب لا يزالون يَحُجُّون، وَمُتَمَسِّكِين بالحَجّ، ولا يزال عندهم من المُقَدَّسات، وكذلك الكعبة لها قُدْسِيَّتها وعظمتها في نفوسهم، يُعَظِّمونها، ويَحُجُّون إليها؛ فلقريش المكانة الكبيرة في أوساط الناس، وأوساط بقيَّة القبائل في الجزيرة العربية، فهم كانوا القوة الأبرز- آنذاك- في العداء للإسلام، بدلاً من أن يشكروا الله على نعمته عليهم، وما منحهم ببركة بيته الحرام من سعةٍ في معيشتهم، وحياتهم، ووضعهم الاقتصادي، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، كانوا في سَعَة، ورفاهية في معيشتهم، أحسن حالاً من بقية القبائل العربية، وكانوا في مأمن أكثر من غيرهم، واطمئنان؛ بفعل البركة الكبيرة، والأمن العظيم، الذي جعله الله لبيته الحرام، فهكذا كان حالهم، لكن لم يشكروا نعمة الله عليهم، وتصدروا هم- قبل غيرهم- العداء للنبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” وللإسلام والمسلمين، واتَّجهوا هم لمحاربة الإسلام قبل غيرهم.

فالنبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” هاجر عن مكة إلى المدينة، إلى الأنصار، إلى (الأوس، والخزرج) الذين هم من أصول يمنيَّة، وتوفَّقوا هم بتوفيق الله لهم، فكانوا هم البديل، وكانوا هم البيئة الحاضنة للرسالة الإسلامية، والمؤوين لرسول الله والمسلمين، الذين آووا ونصروا، وسمَّاهم الله بـ (الأنصار)، فكانوا هم ركيزة عظيمة لقيام أمر الإسلام، ودورهم عظيم ومهم.

حينما هاجر النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” إلى المدينة، كتبت قُريشٌ رسالة إلى الأنصار، إلى (الأوس، والخزرج)، فيها إعلان للحرب، وتهديدٌ صريح، عن أنَّ قريشاً ستهاجمهم إلى المدينة، وستعمل على القضاء على الإسلام والمسلمين هناك، وهذا كان يوضِّح التَّوجُّه لقريش، وماذا ستسعى له، وما تريده.

ثم عملت قريش على إنشاء تحالفات في الساحة العربية لدى الكثير من القبائل، وبالذات القبائل ما بين مكة والمدينة، وفي مناطق أخرى من الجزيرة العربية، هذه التحالفات وهذه التنسيقات على أساس المضايقة الاقتصادية للمسلمين، فتلك القبائل التي تحالفت، والتي نسَّقت- يعني: البعض في مستوى تحالف، البعض في مستوى تنسيق وتعاون بينهم وبين قريش- اتَّفقوا على منع المسلمين من أسواقهم، من الحركة في مناطقهم، من المرور والعبور في مناطقهم، يريدون أن يفرضوا حصاراً وتضييقاً على المسلمين في المدينة؛ حتى لا يتمكَّنوا من الحركة، لا على المستوى الاقتصادي في البيع والشراء، والذهاب إلى الأسواق الأخرى، وكذلك في حركتهم في الجزيرة العربية، وعبورهم ومرورهم.

ثم بدأت قريش بالتحضير فعلياً، لما هددت به في رسالتها إلى (الأوس، والخزرج) الأنصار، من غزو المدينة، بدأت التحضير لعملية عسكرية كبيرة، ولكن المسألة تحتاج إلى تمويل كبير؛ لأنهم يريدون عملية كبيرة، وغزواً عسكرياً فعلياً وحقيقياً للمدينة؛ فلـذلك أرسلت قريشٌ قافلةً تجاريةً ضخمة إلى الشام، وكانت من أضخم القوافل التي قد بعثتها إلى الشام؛ بهدف أن يكون منها عائدات مالية ضخمة، وساهم فيها الكل في مكة، يعني: جعلوا كل القُرَشِيِّين، كل الناس هناك، جعلوهم أن يساهموا، وفرضوا عليهم أن يساهموا مالياً في تلك القافلة؛ ليكون الكل مساهم فيها، بحيث تكون قافلة ضخمة، وتكون عائداتها المالية- كما اتَّفقوا على ذلك وقَرَّرُوا- عائداتها المالية مُخَصَّصَةً، لماذا؟ للعملية العسكرية ضد رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” والمسلمين معه في المدينة.

وذهبت تلك القافلة إلى الشام، ولأهمية تلك القافلة، كان على رأسها، والقائم بأمرها: أبو سفيان، القائد الأبرز بين قادة المشركين في قريش، فخرجت تلك القافلة إلى الشام، وأتى الخبر إلى النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”.

رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، ما بعد الهجرة إلى المدينة، هو يدرك طبيعة الظروف القائمة، وردَّة فعل قريش، والمعادين للإسلام، ومتطلبات تلك المرحلة، في ضرورة الاستعداد العسكري، والتحرُّك الجهادي، وأتاه من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الإذن والأمر بذلك: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، فبدأ يتحرك في الاستعداد؛ ليكـون واقع المسلمين بمستوى مواجهة كل التحديات:

أنشأ معسكراً للتدريب القتالي في المدينة. بدأ يُحُثُّ الناس على الاستعداد، بما في ذلك: في التدريب وفي الإعداد العسكري، توفير السلاح، والسعي لتوفيره، بحسب إمكاناتهم وظروفهم. وبدأ يُحرِّك المسلمين في سرايا، يعني: تشكيلات عسكرية صغيرة، لم تكن كبيرة الحجم، (سرايا)، أحياناً يكون عدد السَّرِيَّة (عشرين، أحياناً أربعين، أحياناً ثلاثين، أحياناً خمسين، أحياناً سبعين، أحياناً عشرة، أحياناً…)، وهكذا، وفق المهام التي يرسلهم إليها، وفي إطار- أيضاً- ما يواجهونه من تهديدات في مهامهم، يَبُثُّ السرايا الاستطلاعية تلك، وهذه كانت عملية مهمة جدًّا: منها: تساعد في تنشيط المسلمين، في تهيئتهم نفسياً وذهنياً للمواجهة والجهاد. ومنها كذلك: الرصد وجمع المعلومات. ومنها كذلك: الفرض لحالة تَحَرُّك المسلمين، وكسر ما تسعى له قريشٌ في عدائها للإسلام والمسلمين من العزلة، تريد أن تفرض عزلةً مُحْكَمَةً على المسلمين في داخل المدينة، فرسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” بتلك السرايا كان يكسر تلك العزلة، يُحَرِّك المسلمين في تلك السرايا، فتذهب إلى مناطق متعددة، وفي مهام- أيضاً- محدودة، كانت تلك المهام بحسب ما تقتضيه تلك المرحلة.

رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” كان يرصد تحركات الأعداء، ولم يكن غافلاً عنهم، وكان يسعى إلى إعداد المسلمين للتَّصدِّي لهم، حرَّك تلك السرايا، كسر حالة العزلة، لم يسمح بأن يكون واقع المسلمين في حالة انكماش في المدينة؛ حتى لا تتحول الساحة من حولهم إلى ساحة مغلقة في وجوههم؛ فَعَلِم بموضوع القافلة، وبأمرٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وجَّهه الله لاستهداف تلك القافلة، التي هي مُخَصَّصَة في عائداتها المالية لعملٍ عدواني يستهدف المسلمين، وقَرَّر الاستهداف لها أثناء عودتها من الشام.

نكتفي بهذا المقدار، ونستكمل البقية فيما يتعلق بهذه الغزوة المباركة في المحاضرات القادمة إن شاء الله.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 19 رمضان 1446هـ 19 مارس 2025م pic.twitter.com/xcMbjtloqh

— الإعلام الحربي اليمني (@MMY1444) March 19, 2025

 

مقالات مشابهة

  • في محاضرته الرمضانية التاسعة عشرة قائد الثورة : التحرك في سبيل الله قائمٌ على أساس الالتجاء إلى الله والاستعانة به
  • المحاضرة الرمضانية الـ 19 لقائد الثورة السيد عبدالملك(نص+ فيديو)
  • شاهد| المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • نص المحاضرة الرمضانية الـ 19 للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 21 رمضان 1446هـ
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (19) للسيد القائد 1446
  • المحاضرة الرمضانية الثامنة عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)
  • (نص) المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • شاهد| المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد القائد 1446هـ