ابن الفارض سلطان العاشقين وشاعر التصوف أنشودة حب لاتنتهى.. زهد الدنيا واعتزل الناس وتماهى مع المحبوب وعاش قيد الروح
تاريخ النشر: 21st, March 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
" يا قلبُ أنتَ وعدَتنى فى حُبّهمْ صَبراً
فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ صَبّاً
فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا"
عذوبة الروح؛ وسمو المعاني؛ وإجلال المواقف؛ وفياض المحبة؛ والتماهى مع المحبوب.. بعض أوصاف من سيرة عشق لاتنتهى فى مسيرة ابن الفارض؛ الذى يعد أحد أعظم شعراء التصوف فى التاريخ الإسلامي؛ حتى لقب بسلطان العاشقين؛ حيث امتازت أشعاره بالعذوبة الروحية والعشق الإلهى العميق، وقدّم رؤية صوفية تقوم على الفناء فى المحبوب والتجلى الإلهى فى الكون.
النشأة والتكوين
ولد عمر بن على بن الفارض (٥٧٦هـ/١١٨١م - ٦٣٢هـ/١٢٣٥م) فى القاهرة لأسرة ذات مكانة علمية واجتماعية مرموقة. كان والده يعمل كاتبًا للوثائق الشرعية، وهى وظيفة تتطلب إلمامًا واسعًا بعلوم الشريعة، مما أتاح لابن الفارض بيئة علمية غنية منذ طفولته. نشأ فى أجواء علمية راقية، حيث تلقّى تعليمه الأولى فى المساجد الكبرى، واطلع على علوم الفقه والحديث، ما مكّنه من اكتساب معرفة شرعية متينة. ورغم اهتمامه المبكر بالدراسات الشرعية، إلا أن ابن الفارض لم يجد فى الفقه التقليدى ما يُلبى احتياجاته الروحية العميقة. كان يميل بطبيعته إلى التأمل والتفكر، ولم يقتنع بالاقتصار على الأحكام الظاهرة، بل كان يبحث عن أبعاد أعمق للوجود والحقيقة الإلهية. ومع مرور الوقت، بدأ يتجه تدريجيًا نحو التصوف، مقتنعًا بأن المعرفة الحقيقية لا تأتى من الاستدلال العقلى وحده، بل من التجربة الروحية المباشرة.
لم يكن تحول ابن الفارض إلى التصوف مجرد اختيار فكري، بل كان تجربة وجدانية عميقة دفعته إلى العزلة والتأمل. انقطع لفترات طويلة عن الحياة العامة، مفضّلًا الخلوة فى أماكن نائية مثل جبل المقطم، حيث كان يقضى وقته فى العبادة والتأمل الصوفي. فى هذه المرحلة، بدأت تتشكل ملامح رؤيته العشقية لله، التى ستصبح فيما بعد السمة الأبرز فى أشعاره. ورغم انعزاله، لم يكن ابن الفارض بعيدًا تمامًا عن المشهد الثقافى والدينى فى عصره، فقد كان على اتصال ببعض العلماء والمتصوفة الذين أثروا فى مسيرته الروحية. لكنّه فضّل الابتعاد عن المناصب والوظائف الرسمية، رغم أن مكانته العلمية كانت تؤهله لتولى مناصب مرموقة. بهذا الاختيار، كرّس حياته للتجربة الصوفية الخالصة، وهو ما جعله أحد أعظم شعراء التصوف فى الإسلام.
تِهْ دَلاَلاً فأَنْتَ أهْلٌ لِذَاكا
وتحَكّمْ فالحُسْنُ قد أعطاكا
ولكَ الأمرُ فاقضِ ما أنتَ قاض
فَعَلَيَّ الجَمَالُ قد وَلاّكَا
وتَلافى إن كان فه ائتلافي
بكَ عَجّلْ به جُعِلْتُ فِداكا
وبِمَا شِئْتَ فى هَواكَ اختَبِرْنِي
فاختيارى ما كان فيِه رِضَاكَا
فعلى كُلّ حالَةٍ أنتَ مِنّي
بيَ أَوْلى إذ لم أَكنْ لولالكا
وكَفَانى عِزّاً بحُبّكَ ذُلّي
وخُضوعى ولستُ من أكْفاكا
التجربة الصوفية والاعتزال
لم يكن اختيار ابن الفارض للعزلة مجرد ابتعاد عن الناس، بل كان سعيًا صادقًا نحو صفاء روحى أعمق. قرر أن يترك الحياة العامة، متخليًا عن كل ما قد يشغله عن رحلته الروحية، واتجه إلى أماكن نائية حيث يمكنه أن ينغمس فى التأمل والتعبد بعيدًا عن ضجيج الدنيا. كان جبل المقطم فى القاهرة ملاذه المفضل، حيث وجد فى هدوئه بيئة مناسبة للخلوة، وهى إحدى أهم مراحل السلوك الصوفى (الصفدي، الوافى بالوفيات، ج٦، ص١٦٣). هناك، كان يقضى أيامه فى الصيام والذكر والتفكر فى المعانى العرفانية، مجتهدًا فى مجاهدة النفس للوصول إلى حالات روحية أعلى.
عاش ابن الفارض فى حال من الفناء الروحي، وهى مرحلة صوفية يصل فيها العارف إلى ذوبان ذاته فى محبة الله، فلا يرى سوى الحق المطلق. هذا الشعور بالفناء كان حاضرًا بقوة فى أشعاره، حيث عبّر عن تجربة صوفية تقوم على العشق الإلهى والانجذاب الكامل نحو الذات الإلهية (نيكلسون، التصوف الإسلامى وتطوره، ص١٨٥). لم يكن حبّه لله تقليديًا أو قائمًا على المعرفة العقلية فقط، بل كان وجدانيًا عميقًا، جعله يرى فى كل شيء من حوله إشارات ودلائل على وجود الله وجماله (ابن الفارض، ديوان ابن الفارض، قصيدة التائية الكبرى، الأبيات ٥٠-٦٠).
لم تكن عزلة ابن الفارض مجرد انعزال جسدى عن الناس، بل كانت تحررًا داخليًا من كل ما قد يُشغل القلب عن الحق. كان يرى أن الوصول إلى الله لا يتم إلا بتجريد النفس من كل ارتباط مادي، وأن العاشق الحقيقى هو من يفقد نفسه تمامًا فى حضرة المحبوب الأزلى (العفيفي، التصوف: الثورة الروحية فى الإسلام، ص٢١١). ومن هنا، جاءت تجربته الصوفية مختلفة عن غيره من المتصوفة، إذ لم يكن زاهدًا بمعنى النفور من الدنيا فحسب، بل كان زاهدًا حتى فى ذاته، مستغرقًا فى محبة الله التى لا يرى لها حدودًا.
أثمرت هذه التجربة الروحية العميقة ديوانًا شعريًا فريدًا، أصبح نموذجًا للتصوف العشقي، حيث صاغ من خلاله مشاعره وأحواله الروحية بلغة رمزية مليئة بالإشارات الصوفية. كانت قصائده تعبيرًا عن حالاته الروحية المختلفة، من الفناء إلى البقاء، ومن العشق إلى المعرفة، ومن الحيرة إلى اليقين (شوقى ضيف، تاريخ الأدب العربي: العصر الإسلامي، ص٤٠٠). وقد أثّرت أشعاره فى أجيال من المتصوفة بعده، حتى صار يُلقّب بـ"سلطان العاشقين"، تعبيرًا عن تفرده فى تصوير المحبة الإلهية بأعمق صورها.
شعره وفلسفة الحب الإلهي
ترك ابن الفارض الذى يعد أحد أعظم شعراء التصوف فى العالم الإسلامي، إرثًا شعريًا فريدًا تمحور حول العشق الإلهى والفناء فى الله. كانت قصائده انعكاسًا لتجربته الروحية العميقة، حيث يرى أن الحب هو الوسيلة الأسمى للوصول إلى الله، وأنه جوهر التجربة الصوفية. ومن أبرز أعماله "التائية الكبرى"، وهى قصيدة طويلة تُعد من أهم الملاحم الصوفية فى الشعر العربي، وصف فيها معاناته فى طريق العشق الإلهي، والصراع الروحى بين الجسد والروح، والسعى إلى الفناء فى ذات الله (ابن الفارض، ديوان ابن الفارض، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ص٢١٥).
فى هذه القصيدة، يصور ابن الفارض تجربة العشق على أنها طريق للتحرر الروحي، حيث يرى أن النفس البشرية لا تذوق حقيقة الوجود إلا من خلال الحب الإلهي، فيقول:
"ولولا الهوى ما ذُلّتِ النفسُ للحبِّ"
(ابن الفارض، التائية الكبرى، البيت ١٥٠).
هنا، يؤكد أن الحب ليس مجرد انفعال بشري، بل هو قوة كونية تُخضع النفس وتعيد تشكيلها، بحيث تتلاشى تمامًا فى المحبوب الأزلي. وهذه الفكرة قريبة من مفهوم الفناء الصوفي، حيث يختفى العاشق فى محبوبه، فلا يرى وجودًا منفصلًا عن الله، بل يرى الكون كله تجليًا للحقيقة الإلهية (نيكلسون، التصوف الإسلامى وتطوره، ص١٩٠).
لم يكن الحب عند ابن الفارض مجرد وسيلة للوصول إلى الله، بل كان هو عين التوحيد، أى أن العاشق الحقيقى لا يرى فى الكون إلا تجليًا للألوهية، ولا يشعر بأى انفصال بين الخالق والمخلوق. ولذلك، كانت أشعاره تحمل رموزًا صوفية عميقة، مثل الخمر والسكر والنشوة، والتى لم يقصد بها المعانى الحسية، بل أراد بها التعبير عن حالة الوجد الصوفي، وهو الانجذاب الروحى الكامل نحو الذات الإلهية (العفيفي، التصوف: الثورة الروحية فى الإسلام، ص٢٢٥). ولهذا، فإن كثيرًا من الباحثين يعتبرون شعره نموذجًا للتصوف العشقي، حيث امتزجت فيه المشاعر العاطفية بالمعانى الفلسفية العميقة.
أثّرت فلسفة الحب الإلهى عند ابن الفارض فى كثير من المتصوفة اللاحقين، خاصة فى الطريقة المولوية التى أسسها جلال الدين الرومي، حيث نجد تقاطعًا واضحًا بين رؤيتهما للعشق كطريق إلى الله. وحتى اليوم، تُقرأ قصائده فى حلقات الذكر الصوفية، وتُستخدم كمصدر إلهام للباحثين عن الحقيقة الصوفية (شوقى ضيف، تاريخ الأدب العربي: العصر الإسلامي، ص٤١٠). ومن هنا، يظل ابن الفارض رمزًا خالدًا للعشق الإلهي، وصاحب رؤية صوفية فريدة جعلته يستحق لقب "سلطان العاشقين".
هو الحُبّ فاسلم بالحشا ما الهَوى سهلَ
فما اختارَهُ مُضْنى به وله عقْلُ
وعِشْ خالياً فالحُبّ راحتُهُ عَناً
وأَوّلُهُ سُقْمٌ وآخرُهُ قَتْلُ
ولكنْ لديّ الموتُ فيه صَبابةً
حياةٌ لمَن أهوى عليّ بها الفضل
نصحْتُك عِلماً بالهَوَى والذى أرى
مخالَفَتى فاختر لنفسكَ ما يحلو
فإن شئتَ أن تحيا سعيداً فمُتْ بِهِ
شهيداً وإلاّ فالغرامُ لهُ أهْل
فمن لم يمُتْ فى حُبّه لم يَعِشْ به
ودون اجتناءِ النّحل ما جنتِ النّحل
الرمزية فى شعر ابن الفارض
تميّز شعر ابن الفارض بطابع رمزى عميق، حيث استخدم ألفاظ العشق والخمر والسُكر كاستعارات صوفية للتعبير عن حالاته الروحية، وهو ما جعل شعره مختلفًا عن الشعر التقليدى الذى كان سائدًا فى عصره. فالمعانى الحسية التى استخدمها لم تكن تشير إلى ملذات دنيوية، بل كانت تعبيرًا عن تجربة روحية عميقة، يعبّر فيها عن حالة الوجد الصوفى والانجذاب المطلق نحو الذات الإلهية (ابن الفارض، ديوان ابن الفارض، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ص١٨٤). ولعلّ هذا النمط الرمزى فى شعره يعكس مفهوم "السكر الصوفي"، حيث يصف العارف حالته حين ينغمس فى محبة الله حتى يفقد الشعور بوجوده الذاتي، وهو ما نجده واضحًا فى قوله:
"شربنا على ذكر الحبيب مدامةً ... سكِرنا بها من قبل أن يُخلق الكرمُ"
(ابن الفارض، ديوان ابن الفارض، ص٢٠٢).
لكن هذا التوظيف الرمزى جعل شعر ابن الفارض محل جدل كبير بين الفقهاء والمتصوفة. فقد اعتبره بعض الفقهاء مبالغًا فى الغموض، بل ورأى بعضهم أن ألفاظه قد توحى بمعانٍ غير متوافقة مع العقيدة الإسلامية. فالشعر الصوفى كان دائمًا موضع شك من قبل الاتجاهات السلفية التى رفضت استخدام المصطلحات المجازية للتعبير عن العلاقة بين العبد والخالق (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج١١، ص٤٣٠). فى المقابل، دافع عنه المتصوفة، معتبرين أن الغموض فى شعره مقصود، لأن التجربة الصوفية نفسها لا يمكن التعبير عنها بالكلمات العادية، بل تحتاج إلى رموز واستعارات تفوق الإدراك الحسى العادى (نيكلسون، الصوفية فى الإسلام، ص١٣٢).
مكانته وتأثيره فى التصوف والشعر
أصبح ابن الفارض رمزًا خالدًا للعشق الصوفي، حيث لم يقتصر تأثيره على عصره، بل امتد إلى أجيال من الشعراء والمتصوفة بعده. كان عبد الكريم الجيلى من أبرز المتأثرين به، حيث طوّر مفاهيمه الصوفية فى كتابه "الإنسان الكامل"، معتمدًا على رؤية ابن الفارض للعشق الإلهى (الجيلي، الإنسان الكامل، ص٨٨). كما تأثر به جلال الدين الرومي، الذى تبنّى فكرة أن الحب هو الوسيلة الأسمى للوصول إلى الله، وهو ما يظهر فى أشعاره التى تمزج بين العشق الصوفى والموسيقى والرقص الصوفى (الرومي، المثنوى المعنوي، ج٢، ص١٥٦).
لم يتوقف تأثير ابن الفارض عند المتصوفة فقط، بل استمر فى التأثير على الأدب العربى والفارسي، حيث اقتبس العديد من الشعراء صوره الرمزية ومعانيه العرفانية. كما أن ديوانه ما زال يدرَس ويُحلَّل حتى اليوم، سواء من قبل الباحثين فى التصوف أو الأدب. فقصائده لا تزال تُقرأ فى حلقات الذكر الصوفية، حيث يرى أتباع الطرق الصوفية أن كلماته تحمل "أسرارًا روحية" لا يفهمها إلا من خاض التجربة الصوفية بصدق (شوقى ضيف، تاريخ الأدب العربي: العصر الإسلامي، ص٤١٥).
تأثيره فى العصر الحديث
حتى فى العصر الحديث، ما زال ابن الفارض موضع اهتمام الباحثين فى الفلسفة والتصوف، حيث تُجرى العديد من الدراسات حول شعره ورموزه الصوفية. وقد تُرجم بعض أعماله إلى لغات مختلفة، مما زاد من شهرته العالمية. كما أن المفاهيم التى قدّمها حول الحب الإلهى ما زالت تلهم الكثير من المفكرين الذين يبحثون عن أبعاد روحية أعمق فى الدين والتصوف (العفيفي، التصوف: الثورة الروحية فى الإسلام، ص٢٣٢).
من هنا، يبقى ابن الفارض أحد أعظم شعراء التصوف، وشخصية محورية فى التاريخ الروحى للإسلام، حيث جمع بين الرمزية العميقة، والعشق الإلهي، والتجربة الصوفية الخالصة، مما جعله يستحق لقب "سلطان العاشقين" بجدارة.
قلبى يُحَدّثنى بأَنّكَ مُتْلِفِي
روحى فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي
لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي
ما لى سِوَى روحى وباذِلُ نفسِهِ
فى حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف
فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني
يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
يا مانِعى طيبَ المَنامِ ومانِحي
ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْدِى المُتْلِفِ
عَطفاً على رَمقى وما أبقَيتَ لي
منْ جسميَ المُضْنى وقلبى المُدَنَفِ
فالوَجْدُ باقٍ والوِصَالُ مُماطلي
والصّبْرُ فانٍ واللّقاء مُسَوّفي
لم أَخلُ من حَسَدٍ عليك فلا تُضِعْ
سَهَرى بتَشْنِيع الخَيالِ المُرجِفِ
واسأَلْ نجومَ اللّيلِ هل زارَ الكَرَى
جَفنى وكيف يزورُ مَن لم يَعْرِفِ
لا غَرْوَ إن شَحّتْ بغُمْضِ جُفُونها
عينى وسَحّتْ بالدّموعِ الذّرّفِ
وبما جرَى فى موقفِ التوديعِ مِنْ
ألمِ النّوَى شاهدتُ هَولَ الموقفِ
إن لم يكن وْصلٌ لدَيْكَ فعِدْ به
أَمَلى وَمَاطِلْ إنْ وَعَدْتَ ولا تفي
فالمَطْلُ منكَ لدَيّ إنْ عزّ الوفا
يحلو كوَصَلٍ من حبيبٍ مُسْعِفِ
أهْفُو لأنفاسِ النّسِيمِ تَعِلّةً
ولوَجْه مَن نقَلَتْ شَذَاهُ تشوّفي
فلَعَلّ نارَ جوانحى بهُبُوبِها
أن تنطَفى وأوَدّ أن لا تنطَفي
يا أهلَ وُدّى أنتم أَمَلى ومَن
نَادَاكُمُ يا أَهْلَ وُدّى قد كُفي
عُودوا لِما كُنْتُم عليه من الوفا
كَرَماً فإنّى ذَلِكَ الخِلّ الوَفي
جدل العلماء حول عقيدة ابن الفارض
أثار شعر ابن الفارض، وخاصة منظومته الشهيرة "التائية الكبرى"، جدلًا واسعًا بين العلماء، حيث رأى البعض أن أفكاره تعكس مفاهيم وحدة الوجود التى قد تتعارض مع العقيدة الإسلامية عند تأويلها بشكل خاطئ. فقد تضمن شعره رموزًا صوفية عميقة استخدم فيها تعابير مثل "الاتحاد" و"الفناء فى الذات الإلهية"، وهى تعابير فسّرها بعض الفقهاء بأنها تشير إلى حلول الله فى الإنسان أو الاتحاد بين الخالق والمخلوق، وهو ما اعتُبر خروجًا عن مبدأ التوحيد الإسلامى (ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية، ج١، ص١٥٠). ومن هنا، اتّهمه بعض العلماء بالإلحاد والزندقة، بينما رأى آخرون أن هذه المفاهيم نابعة من تجربة صوفية روحية بحتة لا يمكن قياسها بمعايير الفقه الظاهري.
كان ابن تيمية من أشد المنتقدين لأفكار وحدة الوجود عند الصوفية، ورأى أن هذه العقيدة تؤدى إلى نفى الفارق بين الخالق والمخلوق، مما يجعلها مخالفة صريحة لعقيدة التوحيد. وقد تناول ابن تيمية فى كتاباته التائية الكبرى لابن الفارض، معتبرًا أن ما ورد فيها من تعبيرات عن العشق الإلهى قد يؤدى إلى مفاهيم خاطئة، إذ قال:
"وكلام صاحب التائية وأمثاله هو من جنس كلام أهل الإلحاد الذين يجعلون الوجود واحدًا، ولا يميزون بين الخالق والمخلوق، وهو من أعظم الضلال" (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج٢، ص٣٦٦).
لكن رغم هذه الانتقادات، لم يُكفّر ابن تيمية ابن الفارض شخصيًا، بل اكتفى بوصف أقواله بأنها قد تؤدى إلى الضلال، مشيرًا إلى أن الحكم على الأشخاص يتطلب معرفة نواياهم وما إذا كانت الحجة قد قامت عليهم أم لا، وهو موقف يتوافق مع مذهب أهل السنة والجماعة فى عدم الجزم بكفر شخص معين إلا إذا ثبتت عليه الحجة الشرعية القاطعة (ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، ج٦، ص٣٥٦).
فى المقابل، دافع عنه المتصوفة، مثل عبد الكريم الجيلى وجلال الدين الرومي، الذين اعتبروا أن شعر ابن الفارض ليس تعبيرًا عن الكفر، بل عن تجربة روحانية عالية، لا يمكن إدراكها إلا لمن خاض تجربة الفناء الصوفي. فقد كان ابن الفارض يعبر عن مفاهيم مثل "الحب الإلهى المطلق" و**"التجلى الإلهي"**، والتى تتطلب تفسيرًا وفق المنهج الصوفي، وليس المنهج الفقهى الظاهري. وقد أكد العفيفى أن تجربة ابن الفارض ليست سوى امتداد للفكر الصوفى الذى يسعى لفناء العابد فى معبوده بالمحبة، لا بالحلول الحقيقى (العفيفي، التصوف: الثورة الروحية فى الإسلام، ص١٧٨).
بناءً على هذا الجدل، فإن موقف أهل السنة والجماعة من ابن الفارض هو التوقف فى تكفيره شخصيًا، مع التحذير من بعض مضامين شعره إذا فُهمت بطريقة تتنافى مع العقيدة. وقد أكد العلماء أن الحكم على الأشخاص يحتاج إلى معرفة ظروفهم ونواياهم ومدى قيام الحجة عليهم، وهو ما يجعلهم يحذرون من التسرع فى تكفير أهل التصوف، خاصة أن كثيرًا من أقوالهم قد تكون مجرد تعبيرات رمزية عن تجاربهم الروحية. لذا، فإن مناقشة فكر ابن الفارض يجب أن تتم بعقلية نقدية منصفة، تأخذ فى الاعتبار سياقه الصوفى وعدم قياسه على معايير الفقه التقليدى وحده (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج٢٢، ص٢٨٨).
ولم يكن ابن الفارض مجرد شاعر نظم أبياتًا فى العشق الإلهي، بل كان فيلسوفًا روحانيًا صاغ تجربته الصوفية فى لغة شعرية ترمز إلى رحلة العارف نحو المطلق. شكّلت أشعاره، وخاصة "التائية الكبرى"، دستورًا للحب الإلهي، حيث عبّر عن فكرة الفناء فى الله، والتى أصبحت محور التصوف العشقى فى الإسلام. ورغم أن شعره أثار جدلًا واسعًا بين العلماء، بين متهم له بالغموض أو التجاوز العقدي، ومدافع يرى فيه تعبيرًا عن تجربة روحية لا تُفسّر بالمنطق التقليدي، فإن تأثيره ظل حاضرًا بقوة فى الفكر الصوفي، حيث اعتمد عليه متصوفة كبار مثل جلال الدين الرومى وعبد الكريم الجيلى فى صياغة مفاهيمهم حول المحبة الإلهية والتجلى الروحي. وإن القيمة الحقيقية لشعر ابن الفارض لا تكمن فقط فى ألفاظه الرقيقة ومعانيه العميقة، بل فى قدرته على مخاطبة القلوب التوّاقة للمعرفة الروحية. لقد كان شعره بوابةً لفهم فلسفة التصوف العشقي، حيث جسّد تجربة العاشق الذى يذوب فى محبوبه حتى لا يرى غيره. وبينما كانت بعض تعبيراته موضع انتقاد فقهي، إلا أنها فى عالم التصوف تحمل دلالات رمزية تعبّر عن حالات الوجد والتجلى التى يعيشها الصوفى خلال رحلته نحو الحق. لهذا، ظل شعره ميدانًا خصبًا للتفسير والتأويل، حيث أعاد شُرّاح التصوف قراءته وفق مناهج روحية وفلسفية متنوعة.
ورغم مرور قرون على رحيله، لا يزال ديوان ابن الفارض ينبض بالحياة، ملهمًا لكل من يسعى إلى تجربة روحية خالصة وفهم أعمق للحقيقة الصوفية. لم يكن ابن الفارض شاعرًا بالمعنى التقليدي، بل كان متصوفًا ارتقى بالكلمات إلى أسمى درجات العشق الإلهي، حيث تحولت قصائده إلى نصوص خالدة فى الأدب الروحي، يقرؤها المتصوفة والباحثون، ليس فقط باعتبارها أبياتًا شعرية جميلة، بل كنصوص تعبر عن تجربة صوفية عالمية، تتجاوز الزمان والمكان، وتخاطب الإنسان فى رحلته الأبدية نحو المطلق.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: ابن الفارض الذات الإلهیة للوصول إلى الصوفیة فى تعبیر ا عن ابن تیمیة إلى الله عن تجربة دیوان ا لم یکن لا یرى وهو ما من هنا بل کان
إقرأ أيضاً:
عمر العلماء: الإمارات ترسخ مسيرة زايد ونهج العمل الإنساني
دبي (الاتحاد)
أخبار ذات صلةأكد معالي عمر سلطان العلماء، وزير دولة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بُعد، مدير عام مكتب رئاسة مجلس الوزراء، أن يوم زايد للعمل الإنساني يجسد الإرث العظيم الذي تركه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ويعكس رسالة دولة الإمارات العالمية، بترسيخ مسيرة الشيخ زايد، رحمه الله، ومواصلة تعزيز نهج العمل الإنساني المستدام الهادف لإحداث أثر إيجابي في الدول والمجتمعات حول العالم.
وقال معالي عمر سلطان العلماء: «بفضل الله، وبقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، ترسخ دولة الإمارات نهجاً عنوانه العطاء، ومضمونه الخير والتعاون مع المجتمعات من مختلف الخلفيات والثقافات، لأننا في وطن يؤمن بأن الأعمال الإنسانية هي أسمى صور الحضارة، وهي جوهر رسالة الإمارات للعالم».
وأضاف معاليه: «نستذكر في هذه المناسبة العزيزة، ما قدمته دولة الإمارات منذ تأسسيها حتى اليوم، من أعمال ومساهمات إنسانية غطت مختلف أنحاء العالم، معاهدين قيادتنا الرشيدة بمواصلة العمل لتعزيز الخير والعطاء سمة لمجتمع الإمارات، وثقافة أصيلة نتناقلها عبر الأجيال».