مصارعة الطواحين: من الدُّمية فلّة إلى اللباس الأفغاني
تاريخ النشر: 21st, March 2025 GMT
في المدة الأخيرة، تعرّض لاعبا الفريق الوطني التونسي لكرة القدم عيسى عيدوني ونعيم السليتي إلى حملة "تنمّر" كبيرة بسبب ما تسميه النخب "الحداثية" في تونس بـ"اللباس الطائفي"، أي ذلك اللباس الوافد من المشرق وغير المعبّر عن "الهوية التونسية"، بل ذلك اللباس المهدد عند بعضهم "للنمط المجتمعي التونسي" مثلما هدّده سابقا "الحجاب" قبل أن تُطبّع الدولة ونخبها "الحداثية" معه عند فقدانه لدلالاته السياسية.
وسنحاول في هذا المقال أن نفهم أسباب هذه المخاوف المَرضية على "الهوية التونسية" من كل خيار فكري أو سلوكي لا يخالف القانون؛ ولكنه يُشيطَن بصورة ممنهجة لمجرد عدم مطابقته للانحيازات التأكيدية للنخب "الحداثية" من جهة أطروحاتها حول بعض القضايا مثل "الهوية الجماعية" وحول دور الدين في بناء المشترك الوطني، ودور "الإسلاميين" في هندسة الفضاء العام بعيدا عن منطق التنافي والصراع الوجودي بينهم وبين العلمانيين.
لفهم الجذر الأعمق للفزع "الحداثي" مما يسمّونه "اللباس الطائفي" للاّعبَين المذكورَين أعلاه، قد يكون علينا ألا نعود فقط إلى اللحظة التي مثلت فيها "الدمية فلة" -أو باربي المحجبة- قضية وطنية تجنّد لها الحداثيون والحداثيات دفاعا عن "النمط المجتمعي التونسي"
لفهم الجذر الأعمق للفزع "الحداثي" مما يسمّونه "اللباس الطائفي" للاّعبَين المذكورَين أعلاه، قد يكون علينا ألا نعود فقط إلى اللحظة التي مثلت فيها "الدمية فلة" -أو باربي المحجبة- قضية وطنية تجنّد لها الحداثيون والحداثيات دفاعا عن "النمط المجتمعي التونسي". فرغم أهمية هذه اللحظة المعبّرة عن التعامد الوظيفي بين السلطة والنخب "الحداثية" بما في ذلك تلك التي تدعي الاستقلالية (مثل تحريض المنظمات النسوية وغيرها على الدمية فلّة بالتوازي مع تحريض الكثير من الأصوات الحداثية المعارضة للنظام على المحجبات وتبرير قمعهن)، فإنها لا تمثل لحظة البدء لما يمكن تسميته بـ"العنصرية الثقافية" أو "العنصرية التفاضلية" في تونس بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا. وهو ما يعني أننا نعتبر أنّ ميلاد العنصرية الثقافية بالمعنى السائد عند النخب الحداثية لا ينفصل عن ميلاد الدولة-الأمة وأساطيرها التأسيسية.
يدلّ مصطلح العنصرية الثقافية على "التحيز والتمييز على أساس الاختلافات الثقافية بين المجموعات الإثنية" وكذلك على "أنّ بعض الثقافات تتفوق على غيرها"، ولكنّ ما يعنينا هنا هو مصادرة العنصرية الثقافية على "أنّ الثقافات المتنوعة غير متوافقة بشكل أساسي ويجب ألا تتعايش في نفس المجتمع أو الدولة". فالدولة-الأمة التي أراد بورقيبة بناءها -أو بالأحرى أوكلت له مهمة بنائها في مرحلة الاستعمار غير المباشر- هي دولة تقوم على استبطان دونية الأشكال الثقافية الأهلية، بل دونية الهوية الجماعية وجذورها الدينية الإسلامية، وبالتالي ضرورة التحديث بمنطق الوصاية والقرارات الفوقية. وهو ما يعني أن الهندسة الاجتماعية والسياسية والثقافية الخ للمجتمع التونسي لم تعد مسألة تهم "المجتمع الأهلي"، بل أصبحت مسألة تهم الدولة وملحقها الوظيفي الذي سيتكرس تحت اسم "المجتمع المدني".
في سياق استعماري غير مباشر، كانت "تَونسة" النموذج اللائكي اليعقوبي الفرنسي تعني أن تصبح عملية التحديث مرادفة لتبنّي "العنصرية الثقافية" باعتبارها سياسة دولة. فبناء الدولة-الأمة على النمط الحديث كان يعني القضاء التدريجي على كل تعبيرات الهوية ما قبل الاستعمارية -بما في ذلك التعبيرات المرئية مثل البرقع و"السفساري" وبعض أشكال اللباس التقليدي الريفي.. الخ- التي لا تتوافق مع مشروع "الزعيم" لتحديث الفضاء العام. ولن ندخل هنا في قضايا تتعلق بدور الهندسة الاجتماعية "البورقيبية" -أو ما يسمى بالنمط المجتمعي- في بناء منظومة الاستعمار الداخلي ونواتها الصلبة (المركّب الجهوي-المالي-الأمني)، كما لن نطرح قضية تحوّل "التحديث" في بلد لا يملك مقوّمات السيادة إلى مجرد "مجاز" يخفي حقيقة التبعية في كل مستوياتها وبكل أشكالها، فكل ما يعنينا هو التذكير بأن "العنصرية الثقافية" تصلح أن تكون مدخلا من مداخل إعادة كتابة تاريخ "الدولة الوطنية" في مرحلة الاستعمار غير المباشر. فما يُسمى بعملية "التحديث" هو في جوهره "عنصرية ثقافية" مورست بمنطق جهوي وأيديولوجي تخفى تحت استعارة بناء "الدولة" حينا، وتجلّى في سرديات الخوف على "الدولة" ومكتسباتها حينا آخر.
رغم كل الادعاءات الذاتية للنخب "الحداثية"، فإن أغلبهم قد أكّدوا أنهم عاجزون -بحكم خلفيتهم اللائكية المعادية للدين من جهة، وبحكم سردياتهم الكبرى ذات الجوهر اللا ديمقراطي فكرا وممارسة من جهة أخرى- على بلوغ مرحلة "التسامح"، فما بالك بتجسيد قيمة "الاحترام" أو "التوقير" لمن لا يشبهونهم، أي لأولئك الذين من الاختلاف خارج دائرة التجانس. فمن ضاقت صدورهم بـ"دمية محجّبة" وبـ"قميص لاعب"، سيكون من الصعب علينا أن نصدّق أنهم يدافعون عن أي منظومة قيمية أو عن أي قضايا تتجاوز قضاياهم الصغيرة، إذا كان "الحداثي" يرفض التكفير لأنه "عنف رمزي" يحرّض على العنف المادي ضد المخالفين ويسلبهم حقهم في التفكير والاعتقاد، فلماذا يمارس هذا الحداثي "ذاته" "العنف الرمزي" أو "التكفير المُعلمن" على من يخالفونه ويحرّض عليهم قبل الثورة وبعدها؟كما سيكون من العسير علينا أن نرى لهم أية دور يتجاوز دورهم في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها راعية "النمط المجتمعي التونسي" (أي نمط الخيارات الجهوية والريعية والزبونية والتغريبية) في مرحلة الاستعمار غير المباشر.
ختاما، قد يكون على الكثير من المتصدرين للتوقيع عن "النمط المجتمعي" أن يطرحوا على أنفسهم بعض الأسئلة لملء مكانهم/مكانتهم بعيدا عن شبكات الفهم والقراءة المفوّتة: إذا كان جوهر التنوير هو رفض وصاية الآخرين على العقل، فبأي حق يريد "الحداثي" أن يمارس وصايته على غيري؟ إذا كان "الحداثي" يرفض التكفير لأنه "عنف رمزي" يحرّض على العنف المادي ضد المخالفين ويسلبهم حقهم في التفكير والاعتقاد، فلماذا يمارس هذا الحداثي "ذاته" "العنف الرمزي" أو "التكفير المُعلمن" على من يخالفونه ويحرّض عليهم قبل الثورة وبعدها؟ إذا كان "النمط المجتمعي التونسي" صلبا وذا شرعية جماعية -أي معبّرا عن خيارات فئات المجتمع التونسي ومصالحهم الرمزية والمادية، وليس فقط عن خيارات نخبه وقضاياهم الصغيرة- فلماذا تضيق صدور "الحداثيين" بكل تعبيرة لا تجسد نماذجهم الفكرية والسلوكية، ولماذا يفزعون من أي دعوة لاستئناف التفاوض الجماعي في شأن المشترك الوطني بمشاركة "الإسلاميين" أو حتى عموم المواطنين من المحافظين والمهمشين؟
إنها بعض الأسئلة التي قد يكون على النخبة "الحداثية" -إذا ما أرادت تجاوز عطالتها النظرية والميدانية- أن تتدبرها بعيدا عن الصور/التمثلات النمطية للذات وللآخر في مرحلة الاستعمار غير المباشر.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسي الهوية تونس اسلام هوية حداثة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة صحافة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العنصریة الثقافیة قد یکون إذا کان
إقرأ أيضاً:
مدرب "السامبا" يفتح النار على مروجي العنصرية
دعا مدرب منتخب البرازيل دوريفال جونيور، اتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم (كونميبول) إلى معاقبة العنصرية في كرة القدم "بشكل حقيقي"، وذلك في أعقاب التصريح "المؤسف" لرئيس الاتحاد، والذي قارن فيه الفرق البرازيلية بالقرود.
وقال دوريفال في المؤتمر الصحافي الذي يسبق مباراة تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لكأس العالم 2026 بين البرازيل وكولومبيا على ملعب ماني جارينشا في برازيليا: "كان هذا تصريحاً مؤسفًا للغاية من رئيس" اتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم أليخاندرو دومينجيز.
شبه الفرق البرازيلية بـ"القرد".. رئيس الكونميبول يعتذر عن تصريح "غير مقصود" - موقع 24اعتذر أليخاندرو دومينغيز رئيس اتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم (الكونميبول) عن قول إن كأس ليبرتادوريس من غير الفرق البرازيلية ستشبه "طرازن من دون شيتا"، وذلك بعد تلميح مسؤولة في أحد الأندية بأن بعض الفرق قد تنسحب بسبب العنصرية.
ووسط الضجة التي أثارها تعليق دومينجيز، دعا المدرب البرازيلي الاتحادات المحلية لبلدان أمريكا الجنوبية واتحاد القارة إلى توحيد الجهود من أجل "معاقبة جميع أولئك الذين يخالفون القوانين ويجرؤون على مهاجمة زملائهم من البشر بشكل حقيقي ومباشر".
وأشار دوريفال إلى أن مكافحة العنصرية وغيرها من السلوكيات التمييزية في الملاعب هي مهمة "كل المجتمع"، وهو ما يجب أن يتطلب بدوره اتخاذ إجراءات من قبل السلطات المعنية.
وأكد أن "أي شخص يظهر عدم الاحترام سوف يتعين معاقبته بأقصى عقوبة ينص عليها القانون".
وقال دومينجيز لمجموعة من الصحافيين، الإثنين، رداً على انسحاب الأندية البرازيلية من المسابقات بسبب الإساءات العنصرية ضد الرياضيين السود: "سيكون هذا مثل طرزان بدون شيتا. مستحيل".
واعتذر القيادي بعد يوم واحد في بيان تمت مشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي لاستخدامه "عبارة شائعة" أكد أنه لم يقصد بها التقليل من شأن أي شخص أو التقليل من شأنه.
لكن هذا لم يمنع الإدانة الشديدة من جانب قطاع كرة القدم البرازيلية وحتى من جانب حكومة البلاد، التي أدانت في بيان رسمي "بأشد العبارات" تصريح رئيس الكونمبيول، الذي تضمن دلالات عنصرية.