عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.
قبل القاء الاتفاق في سلة المهملات

كان مصير الاتفاق بعد توقيعه، وبدء تنفيذه، موضوع نقاش انتهى ببعض الجماعات إلى المطالبة بإلغائه.

وصعب القبول بالطبع بشطبة بجرة قلم لأن مثل هذا المطلب سآمة اشتهر بها الجيل السياسي الذي لا يكابد السهر على النصوص، وتحريرها، ونقد مفرداتها فيسارع ليتخلص من مثل اتفاق جوبا بتلويحه يد. خلافاً لذلك ترى الورقة أن يخضع الاتفاق لتحرير جذري. وبغير النهوض بمسؤولية الحفاظ على الاتفاق بمسؤولية تهد الحيل سينتهي إلى واحدة من تلك الاتفاقات التي استحالت وتمادت في الاستحالة فنقضت غزلها بنفسها.

وكانت قحت عقدت بعد الإطاحة بحكومتها في أكتوبر 2022 ورشة لمناقشة سياستها حول الاتفاقية في شرطها الجديد. ولم يكن واضحاً من الورشة إن أراد أهلها النظر للاتفاقية كعثرة حوكمية لتشخيصها، والكشف عن عللها، وأسباب علاجها، أم أنهم بصدد محاكمتها ناظرين إلى سوءة طرف الحركات المسلحة المتهم عندهم بخذلان الثورة حين رمى بثقل مع العسكريين بما في ذلك الوقوف مع انقلاب 25 أكتوبر 2022.

وسيكون ضمن جدول أعمال مراجعة اتفاق جوبا بالطبع إلغاء المسارات، “الزائدة الدودية” في الاتفاق، لشمولها أقاليم لم تخض حرباً على أن لها قضايا تاريخية مع المركز حول التنمية والموارد. ومن المبشر أن أطراف جوبا قبلت في ميثاق أخير لها بتجميد مسار الشرق وأن تكون نظارات البجا والعموديات المستقلة طرفاً لا غنى عنه في أي مفاوضات تجري لإعادة النظر في المسار. لقد تأخرت هذه الأطراف طويلاً في النزول على إرادة جماعات الشرق الشرعية في ألا يُفتى في أمرها في غيابها. ووقع ضرر كثير من تأخرها. والخير في أن تأتي متأخراً لا ألا تأتي. وقد لا نحتاج لاتفاق جوبا للسلام لتفاوض حول قضايا الشرق وغيره من الأقاليم. سيغنينا مؤتمر قومي نعرض عليه قضايا التنمية والحكم لكل السودان بما في ذلك الأقاليم التي تمثلها حركات مسلحة.

وربما شمل التفكير عند مراجعة اتفاق جوبا “خارج الصندوق”، في قول ياسر عرمان، استصحاب الحركة الشعبية لتحرير السودان (عبد العزيز الحلو) وحركة تحرير السودان (عبد الواحد محمد نور) في مبادرة السلام. فصعب حقاً أن نتكلم عن سلام في السودان وقد اعتزلته الحركتان. فمتى قَدِمت الحركتان لمائدة التفاوض للسلام لن تصمد نسب السلطة ومحاصصتاها بين المركز والأقاليم التي نالتها أطراف اتفاق جوبا الحالي. فأوزان الحركتين المرموقة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ربما استدعت تعديلاً جذرياً في تلك النسب والمواقع.

ستسلس هذه المراجعة الجذرية لاتفاق جوبا إذا لم ترها أطرافه الدارفورية مجرد إملاء عليها هي عازفة عنه. فمن الصعب على هذه الأطراف نفسها بعد أربعة أعوام من توقيع الاتفاق أن تزعم أنه أحسن إلى دارفور سوى في أنه “طبعة سودنة” جديدة في أحسن الأحوال. وهي طبعة بدأت تستثير صفوات من دارفور نفسها مثل الهيئة العليا للحكم الذاتي لجنوب دارفور. فتصدر منها بيانات تحتج على استئثار الحركات المسلحة، والإثنيات التي خرجت منها بثمار هذه الطبعة دونهم.

الخاتمة
بدا من نقدنا لاتفاقية السلام في جوبا عوار بنيوي في الاتفاقات التي تعقدها حركات الهامش المسلحة مع نظم المركز الديكتاتورية، أو الطامعة فيها، انحجب عنا لتركيزنا على سوءة المركز لا عن سوءة المتعاقدين معه من الهامش أيضاً. فليس بعد أن يكون المركز ديكتاتورياً سوءة. ومن أمن له فكمن أوقف ذئباً حرساً على أغنامه.

فصح، إذا كانت الأمة، في قول المؤرخ الفرنسي أرنست رينان، هي إرادة العيش معاً، أن نخضع فكر حركات الهامش وممارستها لمعيار امتثالها لهذه الإرادة. وسنجد أنه اعتور إرادة هذه الحركات في إرادة الأمة عارضان أبطلا كثيراً من فاعليتها. أما العارض الأول فهو قيامها من فوق سياسات الهوية العرقية أو المناطقية. فالقضايا التي دفعت بها مناطقية، دارفور مثلاً، أو عرقية، عرب وزرقة (أفارقة)، أو قبائلية في مثل نزاعات الحواكير (ملكية الأرض). وجعل هذا من المركز خصماً عرقياً قبائلياً بأكثر مما هو سياسي. وتصبح الزهادة فيه واعتزاله خياراً مفتوحاً.
وأما العارض الأخير فهو حملها السلاح لتحصل على مطلبها بفوهة البندقية في مواجهة نظم ديكتاتورية عسكرية حكمت مركز الخرطوم لأكثر من 50 عاماً في عهده المستقل منذ 1956. ولم تكن المواثيق التي مهرها الهامش مع المركز بالنتيجة عهوداً استراتيجية طويلة المدى في بناء الأمة، بل أشبه بالصفقات اشتهرت بنقضها أكثر من حملها إلى غاياتها.

ورغماً عن نفع نظرية العرق النقدية لهذه الجماعات المغلوبة، مما جرى وصفه بـ”الآخر” أي آخر الجماعات الغالبة، فإنها كرست لهذا الآخر على حساب التاريخ المشترك والرغبة في العيش معاً التي من وراء أي أمة. وهي نفس شكوى الفيلسوف ليلا في نعيه الليبرالية الأميركية. فقال إنه لا دونالد ترمب ولا شيعته مما يسؤوه فيسهد به. فما يحز في نفسه حقاً أن النظرية العرقية النقدية وغيرها منعت الليبراليين من تنشئة رؤية طموحة لأميركا ومستقبلها تلهم سائر المواطنين. فما عجز الليبراليون عن الإتيان به، في قوله، هو صورة لما سيكون عليه عيشنا المشترك. فتنكبوا طريق هذه الرؤية الجامعة هرعاً إلى سياسات الهوية فخسروا، كما تقدم، رهان الأمة لتراجعهم ” إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم فيما كان جبلاً عظيماً”، أي في أمة كبيرة.
فاتفاق سلام جوبا بين غالب حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية شاهد عيان على استعصامه، بتركيزه على الهوية المناطقية، بالكهف دون الجبل. ومن الدلائل على كهفية اتفاق جوبا أنه قضى، وهو المستمد من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (2019-2021)، بأنه إذا تعارضت مادة منه مع الوثيقة الدستورية الحاكمة لفترة الحكم الانتقالي صحت تلك المادة وأزيل نقيضها الذي في الوثيقة. فمن علو العين على الحاجب، والكهف على الجبل، خضوع الدستور لنوازل اتفاق للسلام كان قد أخذ شرعيته منه.

بل جر الاتفاق باصطناعه مفهوم المسارات إلى الكهوفيه أقاليم لم تأت إلى مائدة التفاوض للسلام من ساحة وغى مما جعلنا نصفها بأنه جاءت في “صحبة مسلح” هي الجبهة الثورية. وأصلح حالها برغم عنها بوصاية خرقت حقهم الديمقراطي في أن يكون لهم صوت في تدبير أمرهم.

ولا يسفر الاتفاق عن كهوفيته في مثل إلغائه المركز نفسه في مسعى قوى الهامش اقتسام الثروة الوطنية مع المركز. فانتهى الاتفاق إلى إلغاء المركز في حين كان يكفيه تفكيك قبضته على الثروة بما يأذن لها بتلك القسمة. فألغى الاتفاق وزارة المالية فالجمعية التشريعية فالدولة نفسها. فبعد استبعاد وزارة المالية والمؤسسة التشريعية من اختصاصاتهما المالية صارت المفوضية ولية المال عن الدولة نفسها تنفق عليها. وهكذا انتهى من أراد اقتسام الثروة مع المركز القابض إلى إلغائه.
الختام

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: اتفاق جوبا مع المرکز

إقرأ أيضاً:

ستارمر: يجب أن نستعد للتحرك سريعا حال توصل أوكرانيا وروسيا لاتفاق سلام

سرايا - شدد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الخميس، على أهمية أن تتمكن بريطانيا وحلفاؤها من التحرك بشكل فوري حال توصل روسيا وأوكرانيا إلى اتفاق سلام.

أدلى ستارمر بهذه التعليقات خلال زيارته لمنشأة غواصات نووية وبالتزامن مع اجتماع قادة جيوش عشرات الدول في بريطانيا لمناقشة خطط وجود قوة حفظ سلام محتملة في أوكرانيا.

وقال ستارمر للصحفيين "خططنا تركز على إبقاء السماء آمنة، والبحر آمن، والحدود آمنة، والأمن في أوكرانيا، والعمل مع الأوكرانيين".

وأضاف "نعمل بوتيرة سريعة لأننا لا نعرف ما إذا كان سيتم التوصل إلى اتفاق. أتمنى بالطبع ذلك، لكن من الأهمية بمكان أن نتمكن من التحرك فورا في حالة التوصل إلى اتفاق".





تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا


طباعة المشاهدات: 1432  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 20-03-2025 06:02 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
المغرب .. العثور على رضيع أمام مسجدٍ! في مكب للنفايات .. شركة توصيل أميركية تلقي بأحافير عمرها 380 مليون سنة اتهام رجل بالقتل بعدما صدم طفله امرأة مسنّة بدراجته! رحلة تجديف مرعبة .. العثور على فتاتين تاهتا في البحر أكثر من 16 ساعة! بالفيديو .. الباشا حسين الحواتمة في لقاء حصري مع... الداعية السعودي عائض القرني يعتذر عن تعزيته للحويني بالفيديو .. مواطن أردني لأمين عام جبهة العمل... من المكتب مع هاشم الخالدي .. احتيال خطير في الأردن... بعد نشر "سرايا" بدعم من اهل الخير :... السفارة الإسرائيلية تثير غضب المصريين بمنشور كاذب...صحيفة إسرائيليّة: التنسيق من أحمد الشرع ضروريّ لهذه...الاحتجاجات في تركيا تتصاعد بعد اعتقال أوغلو المتهم...انخفاض طلبات اللجوء لأول مرة في الاتحاد الأوروبي...القبض على قائد مجموعات الاقتحام بالفرقة 25 بشار...خلال مظاهرة أمام منزل نتنياهو .. الشرطة تعتدي على...مصدر قضائي: لبنان مستعدّ لتسليم 700 سجين سوري لدمشققطر ومصر تؤكدان ضرورة تعزيز جهود تنفيذ المرحلة...85 شهيداً في غزة منذ الفجر بعد الانفصال والعودة .. أحمد سعد يهدي زوجته سيارة... بينها ريا وسكينة والواد سيد الشغال .. أشهر خروج عن... المخرج محمد ساميّ يُعلن اعتزال الدراما... سلاف فواخرجي: "بعض مشاهد صيدنايا مفبركة" رحمة رياض نادمة على تصرفها القاسي مع شقيقتها الراحلة عُمان تفرض التعادل على كوريا الجنوبية تعديل مواعيد مباريات الأسبوع السابع عشر من الدوري الأردني للمحترفين CFI اليابان أول المتأهلين رسميا إلى كأس العالم 2026 بعد أقل من شهر .. راموس يواجه الإيقاف 15 مباراة نجم يفجرها: زملاء صلاح "أسقطوه" وحرموه من الكرة الذهبية عصابة نسائية في مصر تستهدف الراغبين في السفر وفاة طفلين خلال درس خصوصي في مصر .. وضبط المعلمة تحذير للآباء .. رموز غامضة وكلمات خطيرة في محادثات المراهقين عبر الإنترنت الشرطة التركية تحبط محاولة بيع مومياء أثرية "مرعبة" بمليون دولار شركة توصيل أميركية تلقي بأحافير عمرها 380 مليون سنة قصة "الفيل" الذي كان يعرف اللغتين البرتغالية والهندية! "عصابة حوامل" .. 3 نساء يتورطن بجريمة سرقة غريبة! إحباط محاولة بيع مومياء أثرية "مرعبة" بمليون دولار! اكتشاف أقدم ديناصور بالعالم في المغرب بجراحة معقدة .. إنقاذ مصري ابتلع مواد معدنية غريبة

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • تصميم بريطاني على نشر قوات برية في أوكرانيا
  • واشنطن: اتفاق إستراتيجي مع أوكرانيا لاستغلال المعادن النادرة
  • أميركا تسعى لإعادة التفاوض لتوسيع نطاق اتفاقية المعادن الأوكرانية
  • سؤال موجّه للسيد عبدالفتاح البرهان
  • مجلس الحكومة يطلع على اتفاق بشأن نقل المحكوم عليهم بين المغرب ومالاوي
  • ستارمر: يجب أن نستعد للتحرك سريعا حال توصل أوكرانيا وروسيا لاتفاق سلام
  • أستاذ علوم سياسية: نتنياهو لم يكن جادًا في اتفاق غزة.. وعودة الحرب كانت متوقعة
  • انعكاسات رفض جهات كردية الإعلان الدستوري على اتفاق قسد ودمشق
  • مسؤول أممي: جنوب السودان على شفا حرب أهلية