The Grievous Political Economy
of Port Sudan and Nairobi Governments

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
????رغم مرور عامين على تصاعد الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإن كلا التحالفين (تحالف بورتسودان المدعوم من الجيش، وتحالف نيروبي المدعوم من الدعم السريع) لم يتمكنا من إعلان حكومة موثوقة تدير البلاد.

ويعود هذا التأخير إلى مجموعة من العوامل المتعلقة بالاقتصاد السياسي الذي تجسده العلاقة التفاعلية بين الاقتصاد والسياسة، بتأثير القوى السياسية على الأداء الاقتصادي وتأثير الواقع الاقتصادي على الوضع السياسي. ففي حالة حكومتي بورتسودان ونيروبي المعلن عنهما، فإن الأزمة تشمل تعقيدات مركبة تؤثر على الاقتصاد السياسي وتشمل غياب الشرعية، والتناقضات الداخلية في حواضن الحكومتين، والتحالفات غير المستقرة، وعدم الاعتراف والمقاطعة الدولية، وفشل طرفي الحرب في تحقيق سيطرة كاملة على السودان، مما خلق تحديات معقدة فرضت تباطؤ التحالفين في تشكيل الحكومتين.
1. تحديات الاقتصاد السياسي لحكومة بورتسودان
????حكومة بورتسودان لا تحظى بشرعية محلية أو دولية، مما يجعلها غير قادرة على توقيع اتفاقيات دولية أو جذب الاستثمارات المحلية والدولية، خاصة وأن الاقتصاد السوداني يعتمد بشكل كبير على التعاون الدولي والإقليمي (المساعدات، التجارة، الاستثمار)، وبدون اعتراف عالمي، تبقى الحكومة معزولة اقتصادياً.
???? تحالف قيادة الجيش مع الإسلامويين أفرز شراكة غير مستقرة إذ لكل منهما مصالح اقتصادية متضاربة. فالإسلامويون يسيطرون على شبكات اقتصادية موازية (شركات الأمن، الذهب، العقارات)، مما يقلل من سيطرة الدولة التي يقودها الجيش على الموارد. كما يوجد صراع داخلي بين ضباط الجيش غير الإسلامويين والتيار الإسلاموي، مما خلق بيئة غير مستقرة للاستثمارات والقرارات الاقتصادية.
???? حكومة بورتسودان تعتمد على الريع المتمثل في عائدات الموانئ والجمارك، لكنها لا تملك سيطرة على القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، حيث تراجع الإنتاج الزراعي بسبب الحرب وانعدام الأمن، مما زاد من الاعتماد على الاستيراد ورفع معدلات التضخم.
???? نظراً لتوجس الحلفاء الإقليميين من النفوذ الإسلاموي على حكومة بورتسودان فقد ظلوا مترددين في ضخ استثمارات مؤثرة بسبب دور الإسلامويين في تأجيج الحرب وإشاعة عدم الاستقرار. وعليه فإن حكومة بورتسودان ربما تواجهها ضغوط اقتصادية من الحلفاء الإقليميين لدفعها نحو تسوية سياسية قد لا تتناسب مع مصالح الإسلامويين.
????يستهلك تمويل الحرب والإنفاق العسكري جزءاً كبيراً من الميزانية في تمويل الحرب ضد الدعم السريع، ما يستنزف الموارد المخصصة للخدمات والتنمية، الأمر الذي يصعد عُزْلَة حكومة بورتسودان عن الشعب. وذلك فضلاً عن أن استمرار الحرب يجعل حكومة بورتسودان غير قادرة على التخطيط لاقتصاد مستدام في ظل إعطائها الأولوية للإنفاق العسكري.
2. تحديات الاقتصاد السياسي لحكومة نيروبي
???? تعاني حكومة نيروبي من فقدان السيطرة المؤسسية على الاقتصاد، حيث تفتقر إلى مؤسسات اقتصادية منظمة مما أدى لاعتماد الدعم السريع على الاقتصاد الموازي (تهريب الذهب، الجبايات غير القانونية، الابتزاز المالي). كما يعيق حكومة نيروبي غياب مؤسسات مالية رسمية تجعل من المستحيل إدارة اقتصاد متكامل، مما يؤدي إلى انهيار أي محاولات للاستقرار المالي.
???? تكابد حكومة نيروبي من تكوينها من تحالف غير متجانس اقتصادياً، إذ يضم الدعم السريع، والحركات المسلحة، والأحزاب السياسية، والإدارات الأهلية ذات المصالح الاقتصادية المتضاربة. فالدعم السريع يعتمد على نهب الموارد وتهريب الذهب، ولا يهتم ببناء اقتصاد مستدام. والحركات المسلحة تحتاج إلى مصادر تمويل مستمرة، مما يدفعها نحو فرض الضرائب العشوائية في مناطق سيطرتها. أما الأحزاب السياسية مثل جناح حزب الأمة القومي وجناح الاتحادي الديمقراطي الأصل فتعاني من عدم القدرة على فرض رؤيتها ولعب أي دور في الاقتصاد الرسمي بسبب ضعفها أمام مكونات التحالف الأخرى.
????المؤثرات الخارجية على حكومة نيروبي تحد من استقلالها الاقتصادي، حيث يعتمد الدعم السريع على دعم خارجي من بعض الدول الإقليمية ويفتقر إلى مصادر تمويل مشروعة ومستدامة داخل السودان. ذلك أن توقف الدعم الإقليمي بسبب الضغوط الدولية المحتملة سيدفع حكومة نيروبي نحو أزمة مالية خانقة.
???? تعاني حكومة نيروبي من فقدان التأثير على القطاعات الاستراتيجية مثل عدم السيطرة على البنوك، والتجارة الخارجية، والمؤسسات الاقتصادية الوطنية، مما يحد من قدرتها على تنفيذ أي سياسات اقتصادية فعالة. كما أن الاقتصاد في المناطق التي سيطر عليها تحالف نيروبي مدمر تماماً بسبب الحرب، مما يعني عدم وجود قاعدة اقتصادية يمكن البناء عليها.
3. تحديات الاقتصاد السياسي المشتركة بين الحكومتين
????تكابد حكومتا بورتسودان ونيروبي من التفاعل الطردي السالب بين الاضطراب السياسي وتردي الاقتصاد حيث لا يمكن لأي من الحكومتين تنفيذ سياسات اقتصادية طويلة المدى في ظل حالة عدم الاستقرار العسكري والسياسي. كما أن استمرار الحرب يؤدي لاستمرار هروب رؤوس الأموال، وتوقف الاستثمارات، وانخفاض الإنتاج.
????تعاني الحكومتان من انهيار الإيرادات العامة بسبب فقدان سيطرة أي منهما على القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الذهب، والصادرات الزراعية، والنفط، مما أدى إلى انخفاض حاد في الإيرادات الحكومية. كما ستواجهان تراجع الإيرادات الضريبية والجمركية بسبب انخفاض النشاط الاقتصادي وعدم قدرتهما على فرض الجباية في المناطق غير الخاضعة للسيطرة. وسيدفع ذلك الحكومتين للاعتماد على الضرائب غير المباشرة ورفع أسعار الخدمات العامة الأمر الذي يزيد من معاناة المواطنين ويؤدي لتَوَرُّم الاقتصاد الموازي.
????تواجه حكومتا بورتسودان ونيروبي تحديات جسيمة في تفعيل السياسة النقدية بسبب فقدان كليهما السيطرة على النظام المصرفي. فبرغم سيطرة حكومة بورتسودان على بنك السودان المركزي، إلا أن النظام المصرفي منقسم وغير قادر على تنفيذ سياسات نقدية فعالة. ويؤدي ذلك إلى تواصل ضعف الثقة في البنوك المحلية مما يقود لنزوح الودائع إلى الخارج أو الاكتناز خارج النظام المصرفي. وفي المقابل فإن عدم سيطرة حكومة نيروبي على البنك المركزي قد يدفعها لتأسيس بنك مركزي موازي مما يضاعف من الفوضى المصرفية والتوسع غير المسبوق في طباعة النقود وانفلات التضحم وانهيار قيمة الجنيه السوداني، حيث بدأت بعض المناطق في "دَوْلَرَة" و "دِرْهَمًة" اقتصاداتها بالتعامل بالدولار أو الدرهم الإماراتي بدلًا من الجنيه السوداني. وهذا يجعل من المستحيل على الحكومتين إدارة السياسة النقدية أو فرض سيطرتهما على الاقتصاد.
????تخضع حكومتا بورتسودان ونيروبي لضغوط متزايدة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي بسبب تزايد جرائم الحرب من الجانبين، مما يؤدي إلى فرض عقوبات إضافية من المجتمع الدولي قد تقود لتلاشي فرصة صمود أي من الحكومتين أمام تبعاتها الوخيمة.
????أدت الحرب لمعاناة السودان من أسوأ أزمة إنسانية في العالم أثرت سلباً على الاقتصاد السياسي إذ نزح نحو 9 ملايين شخص داخل السودان، ونزح أكثر من 3 ملايين إلى الدول المجاورة كلاجئين. ويواجه نحو 26 مليون شخص (أكثر من نصف السكان) جوعاً حاداً، ويعاني 18 مليون شخص من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي. كما أثرت الحرب على الرعاية الصحية والخدمات الأساسية، حيث إن 80% من المرافق الصحية في المناطق المتضررة من النزاع إما متوقفة عن العمل أو مُدمَّرة. وتنتشر الأمراض الفتاكة، بما في ذلك الكوليرا وحمى الضنك والملاريا، حيث يفتقر الملايين إلى مياه شرب آمنة. ويقابل هذه الكارثة الإنسانية عجز كامل من تحالفي بورتسودان ونيروبي عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، مما يزيد من فقدان شرعيتهما الشعبية.
????تعاني الحكومتان من ضعف النظام المصرفي وانهيار النظام المالي، حيث أُصِيْبَ النظام المصرفي بالشلل في السودان من تبعات الحرب، مما يجعل التحويلات المالية والتجارة الخارجية شبه مستحيلة. وأدى ذلك لانتشار السوق السوداء والاقتصاد غير الرسمي مما يجعل التحكم في التضخم وسعر الصرف أكثر صعوبة.
????الحكومتان مهددتان بتوسع الاقتصاد الموازي وهروب رؤوس الأموال، حيث أصبح الاقتصاد غير الرسمي أكبر من ضِعْف الاقتصاد الرسمي، مما أدى إلى صعوبة فرض الضرائب على الأنشطة الاقتصادية والتحكم في السياسة النقدية. وتسبب التهريب وانتشار شبكات السوق السوداء في فقدان الدولة للسيطرة على مواردها المالية. وصاحب ذلك نزوح رجال الأعمال ورؤوس الأموال إلى الخارج بسبب المخاطر الأمنية والسياسية.
????تسببت الحرب في عزلة السودان عن النظام الاقتصادي الدولي وأصبح السودان مقطوعاً عن النظام المالي العالمي لعدم وجود حكومة معترف بها دولياً. وبالتالي لا يمكن لأي من الحكومتين الحصول على قروض أو دعم اقتصادي دولي دون حل سياسي شامل.
????تقلل الحكومتان المعطوبتان من فرص استئناف استفادة السودان من مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك). فالدول والمؤسسات الدولية الدائنة التي ساعدت السودان في الوصول إلى "نقطة القرار" في يونيو 2021 لن تتعامل مع حكومة بورتسودان أو حكومة نيروبي غير المعترف بهما رسمياً من المجتمع الدولي، مما يجعل التفاوض معهما حول تخفيض أو إلغاء ديون السودان مستحيلاً. وذلك فضلاً عن أن سعي الحكومتين لتأجيج الحرب يؤدي لاستمرار إحجام المؤسسات المالية الدولية عن تقديم مساعدات لدولة في حالة حرب، حيث لا يمكن لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التعامل مع حكومة عاجزة عن السيطرة على البلاد أو مواجهة اقتصاد موازٍ في السودان يهيمن عليه الجيش والمليشيات في ظل غياب أي رؤية إصلاحية اقتصادية.
4. الاقتصاد السياسي للسيناريوهات المستقبلية
???? سيناريو استمرار الحرب الذي يدعمه الإسلامويون في تحالف بورتسودان يقود لمزيد من الهشاشة الناتجة عن الضغوط الاقتصادية والسياسية، مما يعني أن الحكومتين ستواجهان مزيداً من الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تفاقم الانهيار الاقتصادي مُهَدِّدَةً بانفجار اجتماعي واسع، قد يطيح بكلتا الحكومتين.
???? سيناريو الحل السياسي الجزئي الذي تسعى له أي من الحكومتين ربما يؤدي لتحسن محدود في الأوضاع الاقتصادية ولكن ليس بالدرجة التي تكفي لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها الموثوقة.
???? سيناريو حكومة انتقالية مدنية مستقلة ذات مصداقية يقودها التكنوقراط ويحتضنها تحالف شعبي واسع من قوى ثورة ديسمبر الشعبية بمكونيها المدني والعسكري، بحيث تحظى بقبول داخلي ودولي يُعيد السودان إلى المسار الصحيح اقتصادياً وسياسياً، ويفتح المجال أمام دعم المجتمع الدولي والإقليمي للسودان، مما يساعد في تحقيق إصلاحات اقتصادية عميقة ومدروسة، تشمل إعادة بناء المؤسسات المالية، ودعم الإنتاج الزراعي والصناعي، واستعادة الثقة الدولية بعد توفر بيئة سياسية مستقرة. ودون ذلك، فإن التمادي في تشكيل حكومتي بورتسودان ونيروبي رغم عورهما البائن سيجعل السودان عالقاً في دوامة الفوضى والانهيار الاقتصادي، مما يُنْذِر السلام الإقليمي والدولي بعواقب وخيمة.

melshibly@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الاقتصاد السیاسی حکومة بورتسودان النظام المصرفی على الاقتصاد حکومة نیروبی الدعم السریع نیروبی من سیطرة على مما یجعل

إقرأ أيضاً:

من أين نبدأ؟ الحرب والخسائر وإعادة الإعمار في السودان

O.Sidahmed09@gmail.com

المقدمة
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، والتي تدخل الآن عامها الثالث، يعيش السودان مأساة إنسانية واقتصادية كبرى. مع استمرار القتال واتساع رقعته، تحولت حياة الملايين إلى كارثة حقيقية. في هذا المشهد المظلم، بدأت تظهر تصريحات وتحركات تتحدث عن إعادة الإعمار، رغم أن الحرب لم تتوقف بعد.
من بين هذه التصريحات، ما نقلته تسجيلات متداولة عن اتفاق مزعوم بين القيادة العسكرية السودانية وبعض الجهات المصرية، أشار فيه متحدث مصري إلى أن تكلفة إعادة الإعمار قد تفوق المائة مليار دولار، وأن شركات مصرية ستتولى تنفيذ المشروعات مقابل الحصول على الذهب السوداني.
الحديث عن إعادة الإعمار قبل وقف الحرب بشكل نهائي، يبدو ضربًا من العبث. لا سلام، لا استقرار، ولا بناء حقيقي طالما أن صوت الرصاص يعلو فوق صوت الحياة. كما أن الشركات المصرية المُروَّج لها، تفتقر إلى الخبرة الفنية اللازمة لإدارة مشروعات بهذا الحجم [1].
الخسائر الاقتصادية والإنسانية: أرقام مرعبة
القطاع الزراعي: العمود الفقري المحطّم
كانت الزراعة توفر سبل العيش لنحو 70% من السكان [2]. ومع استمرار الحرب، خرج أكثر من 50% من الأراضي الزراعية عن دائرة الإنتاج، خاصة في مناطق الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، كردفان، ودارفور [3]. أدى توقف مشروع الجزيرة، الذي يعد أهم مشاريع الزراعة المروية في إفريقيا، إلى شل إنتاج القطن، الفول السوداني، والقمح. وقدرت الخسائر المباشرة للقطاع الزراعي بأكثر من 20 مليار دولار [4].
القطاع الصناعي: انهيار شامل
تركز النشاط الصناعي في السودان سابقًا في الخرطوم وعدد من المدن الرئيسية. ومع تصاعد العمليات العسكرية، تعرض أكثر من 60% من المنشآت الصناعية إلى الدمار الكامل أو الجزئي [5]. قدرت الخسائر المالية للقطاع الصناعي بحوالي 70 مليار دولار، إضافة إلى تفكك سلاسل التوريد وهجرة الكفاءات الصناعية، ما فاقم أزمة البطالة وأدى إلى تعميق الانهيار الاقتصادي [6].

القطاع الصحي: منظومة تنهار
شهد السودان انهيارًا شبه كامل للنظام الصحي، إذ توقفت أكثر من 70% من المستشفيات والمراكز الصحية عن العمل أو تعرضت للتدمير [7]. وسط هذا الانهيار، تفشت الأمراض المعدية مثل الكوليرا، الملاريا، وحمى الضنك [8]. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية [9]، فإن السودان يواجه اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الصحية في تاريخه الحديث، مع خسائر مادية للقطاع الصحي تتجاوز 13 مليار دولار.
تفشي الأوبئة: كارثة صحية موازية
تسبب الانهيار الصحي في تفشي واسع النطاق للكوليرا، الملاريا، وحمى الضنك [9]. أدى غياب الرقابة الصحية، وانهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتوقف حملات التطعيم، إلى انفجار وبائي حاد، تضاعفت معه معدلات الوفيات خصوصًا بين الأطفال وكبار السن.
قطاع التعليم: جريمة ضد المستقبل
على صعيد التعليم، فقد أكثر من 18 مليون طفل وشاب فرصتهم في التعليم بسبب استمرار الحرب [10]. دُمرت آلاف المدارس أو تحولت إلى معسكرات للنازحين، مما جعل العملية التعليمية مشلولة في معظم أنحاء السودان، مع مخاطر جسيمة بضياع جيل كامل.
القطاع المصرفي: ضربة قاتلة
تركزت نحو 70% من المراكز الرئسية للمصارف والفروع في الخرطوم قبل الحرب، وقد تم تدمير معظمها أو تعرضها للنهب [11]. أدى هذا إلى شلل النظام المصرفي، وانتشار الاقتصاد الموازي، وانهيار قيمة الجنيه السوداني.
قطاع الصادرات: نزيف بلا توقف
انخفضت الصادرات الزراعية والحيوانية بنسبة تفوق 80% [12]، بينما ازداد تهريب الذهب والمحاصيل عبر الموانئ السودانية بتواطؤ بعض القيادات العسكرية [13].
الفقر والمجاعة: وجه آخر للخراب
تجاوزت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر 70% [14]. كما يواجه نحو 17.7 مليون شخص خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد [15]، وسط تفشي المجاعة الصامتة في عدة مناطق وانعدام الاستجابة الإنسانية الكافية.
معاناة النازحين واللاجئين
أدى النزاع إلى تهجير أكثر من 10 ملايين سوداني داخليًا [16]، يعيشون في معسكرات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. كما فر نحو 2 مليون لاجئ إلى دول الجوار مثل مصر، تشاد، جنوب السودان، وإثيوبيا، وسط ظروف قاسية وانعدام للخدمات الأساسية.

الإعلام المأجور: صناعة الزيف وتضليل الناس
بموازاة الدمار العسكري، ينشط إعلام النظام السابق عبر قنوات ممولة بشكل ضخم لتزييف الحقائق، تغذية الكراهية العرقية، وتشويه الحركات المدنية السلمية [17].
التجارب الدولية في إعادة الإعمار: الجدول الزمني والدروس المستفادة
أثبتت تجارب الدول التي مرت بكوارث وحروب مدمرة أن إعادة الإعمار تتطلب جهودًا ضخمة تمتد لعقود، وتستلزم إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة.
في ألمانيا، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، بدأت عملية إعادة الإعمار عبر تنفيذ “مشروع مارشال”، وهو برنامج دعم اقتصادي ضخم موّلته الولايات المتحدة. استمرت فترة التعافي نحو 10 إلى 15 عامًا، وشملت إصلاح العملة، إعادة بناء البنية التحتية، والمصالحة المجتمعية. ونتيجة لذلك، تحولت ألمانيا إلى أقوى اقتصاد في أوروبا خلال جيل واحد [18].
أما اليابان، فقد استغرقت نحو 20 عامًا لإعادة بناء نفسها بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. ركزت الإصلاحات اليابانية على تطوير التعليم، تعزيز الصناعات التكنولوجية، وبناء بنية تحتية حديثة. بحلول منتصف الستينات، أصبحت اليابان ثالث أكبر اقتصاد عالمي، مع زعامة صناعية وتكنولوجية واضحة [18].
وفي رواندا، الدولة التي شهدت واحدة من أفظع الإبادات الجماعية في العالم عام 1994، ركزت القيادة على تحقيق المصالحة الوطنية، مكافحة الفساد، وتحقيق الحكم الرشيد. استمرت عملية إعادة الإعمار نحو 15 إلى 20 سنة، وتميزت بالاستثمار المكثف في التعليم والصحة، مما ساعد رواندا على تحقيق نمو اقتصادي مستدام واستقرار سياسي طويل الأمد [18].
تجربة فيتنام، التي خرجت من حرب مدمرة عام 1975، تقدم نموذجًا آخر ناجحًا. عبر إصلاحات اقتصادية وزراعية متوازنة، وانفتاح محسوب على الاستثمارات الأجنبية، تمكنت فيتنام خلال 20 عامًا من التحول إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في آسيا [18].
أما الصين، فقد استغرقت نحو 30 عامًا من الإصلاحات المتدرجة، بدأت في أواخر السبعينات، لتحول اقتصادها من نظام مركزي جامد إلى اقتصاد سوق منفتح تدريجيًا. استثمرت الصين بشكل ضخم في البنية التحتية، وأدخلت إصلاحات مؤسساتية عميقة، مما جعلها اليوم ثاني أكبر اقتصاد عالمي [18].
وفي البرازيل، تطلب الأمر نحو 20 عامًا من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتكاملة منذ منتصف الثمانينات. ركزت البرازيل على تعزيز السوق الداخلية، وتحديث قطاع الزراعة، مما أدى إلى استقرار اقتصادي ونمو في الإنتاجية الزراعية [18].
تجمع كل هذه التجارب الناجحة دروسًا مشتركة واضحة: لا يمكن تحقيق إعادة إعمار فعّالة دون وقف الحروب نهائيًا، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة، ومحاربة الفساد بكل صرامة، والاستثمار المكثف في الإنسان عبر التعليم والصحة والبنية الأساسية.

التدخلات الأجنبية المشبوهة
كشفت تقارير عدة عن محاولات عقد اتفاقات مشبوهة بين جهات إقليمية والقيادة العسكرية السودانية لتولي عمليات الإعمار مقابل الحصول على الذهب السوداني، ما يشكل استغلالًا صارخًا لمعاناة الشعب السوداني [19].
الخلاصة
أي حديث عن إعادة الإعمار قبل وقف الحرب هو عبث وهروب من مواجهة الحقيقة المرة.
لا يمكن للسودان أن يُبنى من جديد دون سلام شامل، وإقامة دولة وطنية مدنية ديمقراطية حقيقية.
أما محاولات بيع البلاد عبر اتفاقات مشبوهة فهي خيانة لدماء الشهداء ومعاناة النازحين.
المطلوب الآن وبشكل عاجل: إيقاف الحرب فورًا.
المراجع

[1] تقرير رويترز عن مشاريع البنية التحتية المصرية، 2024.
[2] برنامج الأغذية العالمي WFP، تقرير السودان الزراعي 2024.
[3] منظمة الأغذية والزراعة FAO، تقرير تأثير الحرب، 2024.
[4] برنامج الأغذية العالمي WFP، التقييم الطارئ للسودان، 2024.
[5] البنك الدولي، تقرير الأثر الاقتصادي للحرب السودانية، ديسمبر 2024.
[6] البنك الدولي، نشرة السودان الاقتصادية، 2024.
[7] منظمة الصحة العالمية WHO، السودان، تقرير 2024.
[8] منظمة الصحة العالمية WHO، تقرير تفشي الأوبئة، 2024.
[9] منظمة الصحة العالمية WHO، نشرة الطوارئ الصحية، 2024.
[10] اليونيسف UNICEF، تقرير التعليم في السودان، 2024.
[11] صندوق النقد الدولي IMF، تقرير النظام المصرفي السوداني، يناير 2025.
[12] وزارة التجارة السودانية المؤقتة، أكتوبر 2024.
[13] منظمة الشفافية الدولية، تقرير السودان، 2024.
[14] برنامج الأغذية العالمي WFP، تقرير الأمن الغذائي، 2024.
[15] مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية OCHA، السودان، 2024.
[16] المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR، تقرير النزوح السوداني، 2024.
[17] مراسلون بلا حدود RSF، تقرير السودان الإعلامي، 2024.
[18] البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، مراجعات إعادة الإعمار، 2020-2024.
[19] الشبكة العربية لمراقبة حقوق الإنسان، تقرير التدخلات الأجنبية، 2024.  

مقالات مشابهة

  • أولويات ما بعد الحرب في السودان
  • في ظل الحرب التجارية.. العالم بين مفترق الطرق !
  • من أين نبدأ؟ الحرب والخسائر وإعادة الإعمار في السودان
  • مركز الملك سلمان للإغاثة ينفذ ثلاثة مشاريع طبية تطوعية في مدينة بورتسودان بجمهورية السودان
  • المعجزة الفيتنامية من بلد مزقته الحرب لمركز صناعي عالمي
  • هل تجلب المسيرات السلام الى السودان؟
  • معاوية البرير: هذه فرص تعافي الاقتصاد السوداني في حال توقفت الحرب
  • أبرز ما ورد في خطاب رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة بالجلسة الافتتاحية لمؤتمر الخدمة المدنية
  • رفض تشكيل حكومة موازية في السودان.. تفاصيل لقاء السيسي ورئيس أنجولا
  • البرهان: (المجد ليس لحرق اللساتك وإنما للبندقة فقط).. ويوضح دور (كيزان) بورتسودان في الحرب