سودانايل:
2025-04-15@05:50:11 GMT

وداعاً أستاذ محمد الفاتح حامد

تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT

رحل عن دنيانا هذه الفانية على عتبات العشر الأواخر من رمضان، وقبل أقل من يوم كامل، العالم العلامة البشوش الواثق من علمه أستاذنا في القانون والمعاملات الشرعية المستشار الدكتور محمد الفاتح حامد محمد حامد النور، الذي عاصرناه تلاميذاً له، وهو في منصب عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم (1975م - 1979م)، ثم غادر التدريس، وانتقل فيما بعد للعمل في بنك التنمية الإسلامي بجدة مستشاراً قانونياً، وما أدقهم في الاختيار!

ارتبط الفقيد بكلية القانون، جامعة الخرطوم، منذ نهاية الخمسينيات طالباً للعلم، وتخرج فيها عام 1962م، قبل أن يضرب أكباد الإبل مجازاً إلى بريطانيا ليحصل على درجتي الماجستير فالدكتوراه عام 1964م، وعام 1971م، على التوالي، ليعود بعدها إلى ذات الكلية محاضراً في القانون، ومترقياً من بعد حتى جلس في كرسي العمادة.



يتمتع الفقيد بصفات عديدة، فهو ذو حضور قوي نافذ في قاعة المحاضرات، تعرفت عليه دفعتنا في كلية القانون بجامعة الخرطوم بعد تعرفهم على مباني الكلية مباشرة، فقد خاطب الدفعة (وكانت تتكون من 60 طالباً وطالبة) عند بداية العام الدراسي، في قاعة بابكر عبد الحفيظ بالكلية، في يوم من أيام شهر فبراير 1976م، وكان استقبالاً لم ينسه أي منهم، كما أحسب، لما اشتمل عليه من صراحة ووضوح وحزم.

دخل القاعة بهدوء، وأخذ يذرع منصة القاعة جيئة وذهاباً وهو ينظر إلينا متفحصاً كأنما كان يبحث عن شيء ما. ثم سألنا فجأة بما يعني هذه الكلمات: هسع كلكم دايرين تقروا قانون هنا؟ ولم يمض كثير وقت حتى أدركنا أنه استكثرنا في العدد، فقد كانت الكلية تقبل أربعين طالباً فقط، وكان في ذلك اليوم يخاطب ستين طالباً، لعلهم كانوا الدفعة الأولى بهذا الحجم الكبير (آنذاك)، فضلاً عن أننا دخلنا كلية القانون مباشرة، دون المرور بأي من الكليات التي كانت تقوم مقام التأسيس (foundation) قبل دراسة القانون، مثل كلية الآداب، وكلية العلوم الاقتصادية. وسمعنا من الطلاب "السناير" أنه كان يعارض هذه التطورات من حيث العدد والدخول المباشر للكلية، إلا أن الجامعة مضت في الأمر ووجد العميد نفسه أمام الأمر الواقع. واستبدلت الجامعة سنة التأسيس بكورس في الاقتصاد وكورس في كل من اللغتين العربية والانجليزية بالسنة الأولى في الكلية.

كانت خلاصة استقبال العميد محمد الفاتح حامد لنا في ذلك اليوم المهيب أنه عرض علينا – لمن شاء منا – المساعدة في الانتقال إلى أي كلية أخرى يتأهل أكاديمياً للانتقال لها .. وكانت ابتسامته العريضة والمخيفة - في تلك اللحظة - لا تفارقه، وقد أحس البعض بالتهديد الخفي .. ثم لاحظنا آثار ذلك في عدد من طلبات الانتقال إلى كليات أخرى، بل انتقل اثنان إلى جامعات أخرى، وكان من بين المنتقلين الزميل بدر الدين (الدكتور بدر الدين حالياً) الذي كان الأول في القسم الأدبي على مستوى السودان .. لكننا توكلنا على الله و "ركزنا" مع من ركز من حوالي أربعين طالباً وطالبة أو أكثر.

وتتوالى الأيام لنعلم أننا كنا في حضرة عالم من أبرع علماء القانون، سيما في مجال العقود والمعاملات الشرعية، كنا نعتقد في البداية ونحن في المرحلة التمهيدية (preliminary stage) أن هذا هو مستوى القانون في كل مكان، لنكتشف بعد التخرج أن محمد الفاتح حامد علم من أعلام العقود والمعاملات الشرعية، يجعلك تشعر بعد المحاضرة بأنك كنت في حالة (غوص) عميق لتبحث عن أنفاسك بعدها وتتلمس طريقك إلى الدنيا من جديد. ولم يكن عدم الانتباه لرفعة المستوى بغير سبب .. فقد كان في الكلية أركان بقامة البروفسور الراحل محمد الأمين الضرير، الذي لو نشأ خارج السودان لكان اليوم الإمام الضرير! والذي درسنا عليه يديه علم الفرائض، أو المواريث، وهو المتبحر فروع العلوم الشرعية ويقف كتابه عن "الغرر" علامة بارزة في مجال الفقه والتحليل. كما تزامنت تلك السنوات من عقد السبعينيات للقرن الماضي مع محاضرات أستاذة عمالقة مثل بروفسور جيسوالد سالاكيوز (Jeswald W. Salacuse)، خريج مدرسة هارفارد للقانون، والأستاذ فيها لاحقاً أثناء تدريسه في جامعة تفتس TUFTS الأمريكية، والتي احتل فيها موقع الأستاذ المتميز (Distinguished Professor) و درس في جامعات بالسودان ونيجيريا والكنغو قبل الاستقرار في الولايات المتحدة الأمريكية، وزميله الأمريكي الآخر الذي درسنا على يديه عام 1978م "حق القصاد" و"حق الطورية" وغيرهما ضمن مفاهيم قانون الأراضي العرفي بالسودان، بروفسور جون بروس ((John Bruce، الذي أصبح لاحقاً مستشاراً أول للبنك الدولي في مجال قوانين الأراضي لست سنوات (1999 – 2005). في هذه البيئة اللامعة كان أستاذنا محمد الفاتح حامد لامعاً، وبارزاً، أو كمال يقول الفرنجة أنه كان رجلاً بين الرجال (a man among men)، أو في هذا السياق كان عالماً فقيهاً فذاً بين علماء فقهاء أفذاذ.

في بدايات وصولي إلى العاصمة البريطانية لندن مقيماً فيها خلال فترة الانشغال بالصحافة دون القانون، كنت أتلمس طريق أستاذي محمد الفاتح حامد، ولم أبحث كثيراً لأعرف أنه درس في كلية أو مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (School of Oriental & African Studies) المشهورة أكثر بالاختصار (SOAS) حيث أنجز دراساته العليا حتى الدكتوراه على يد عالم فذ آخر هو بروفيسور نويل كولسون Coulson) (Noel James (1928 – 1986)، والذي تشرف هذا الكاتب بالدراسة على يديه، وصدر له كتاب أثناء تلك الفترة من منتصف الثمانينيات الماضية، عن القانون التجاري المقارن في بلاد الخليج، ضمن كورس القانون التجاري المقارن للشرق الأوسط، حيث أشار في أحد هوامش الكتاب لمعلومة نسبها لفقيدنا الراحل الأستاذ محمد الفاتح حامد، بقوله أنها من "تلميذي المتميز" (my distinguished student)، في سياق أكاديمي تشح فيه مثل هذه التزكيات وتنعدم !! هكذا كان حجم الفقد. هكذا كان معلمنا الفقيه محمد الفاتح حامد في دنيا العلم والأكاديميا، رحمه الله وأحسن إليه.

أما مجتمعياً فيقول عن الفقيد موقعُ "آل حامد" أنه "من مواليد أم درمان في 12 أغسطس عام 1938م، وتدرج بمراحل التعليم بدءاً بمدرسة أبي روف الأولية (أ)، ثم المؤتمر الوسطى فالثانوي بمدرسة وادي سيدنا الثانوية العليا" وأنه "البكر في أبناء الشيخ حامد محمد حامد النور حافد ود النور (الكبير)، وأمه هي الحاجة ساره بت عمر محمد أحمد عيد القادر الهاشمابي سليلة السادة العركيين (أولاد محمد زين) والشيخ العليش ود الشيخ حمد النيل الولي بأبي حراز.

اللهم ارحم استاذي محمد الفاتح حامد، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وعافه واعف عنه، واغسله اللهم بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والآثام كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وبارك اللهم في ذريته، وأحسن عزاء أهله وعياله، وتلامذته وزملائه وسائر محبيه، واسكنه الجنة دار المتقين، برحمتك يا رب العالمين.

أحمد كمال الدين
20 مارس 2020م
20 رمضان 1446 هـ


kingobeidah@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کلیة القانون

إقرأ أيضاً:

وداعا هنادي .. إلى جنات الخلد

الميرم هنادي النور.. امرأة من نار ونور… طبيبة أمسكت بالمشرط يوما لتخفف آلام الناس، ثم خلعت الرداء الأبيض، لا ترفعا، بل استجابةً لنداء الواجب، وامتشقت سلاحها ونزلت إلى ساحة القتال دفاعا عن أرضها وشرفها..

هنادي.. لم تحمل أوسمةً أو رتبةً براقة، لكنها حملت كل إشراق الحياة.. لم تكن زينتها حُليًّا أو مساحيق، بل كان سمتها الشهامة، ولباسها الوقار.. وشجاعتها تاج متوهج فوق هامة الزمان .
هنادي.. ترجلت اليوم جسدا عن صهوة الحياة، لكنها ستبقى روحا تحلق فوق دخان المعارك، وتقول لنا بصوتها العميق إن الوطن فوق كل الخلافات والأطماع ولن يصان إلا بأمثالها.

طابت روحكِ يا بنت الفاشر، وسلام عليك أيتها الفارسة النبيلة.. وعفوا يا سليلة المكارم فهذه المليشيا لا تراعي حرمة للنساء والأطفال ، وعذرا لأننا لم نترفق بك وببقية أخواتك وأمهاتك اللواتي عصفت بهن رياح معاركنا، وأطماعنا، وخلافاتنا العقيمة التي أورثت بلادنا الهوان.
جنات الخلد مقامك، حيثُ لا دماءَ ولا دمار، بل سلامٌ يعانقك كما كان عناقك الدافئ لوطنك بكل هذا الصدق والوفاء.
# الميرم هنادي …صورة غلاف كتاب الشرف

Alzubair Naiel

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وداعا هنادي .. إلى جنات الخلد
  • الكلية العسكرية التقنية تنظم فعاليات الأيام التعريفية
  • مؤسسة محمد بن سلمان “مسك” تُوقِّع مذكرة تفاهم إستراتيجية مع كلية لندن للأعمال
  • السيد عيد يعلن تشكيل بتروجت لمواجهة المصري بالدوري
  • تشكيل بتروجيت لمباراة المصري البورسعيدي في الدوري
  • تأجيل محاكمة المتهمين في قضية «شهيد الشهامة» بالغردقة إلى يونيو المقبل
  • مركز جمال عبد الناصر يحتفل باليوم العالمي للملكية الفكرية
  • تأجيل محاكمة المتهمين بقتل «شهيد الشهامة» بالغردقة إلى يونيو المقبل
  • جنايات البحر الأحمر تؤجل محاكمة 3 متهمين بقتل شاب فى الغردقة لـ4 يونيو
  • فريق طبي بمستشفى بالإسماعيلية ينجح في إنقاذ مريضة أصيبت بتسمم حمل