جهالات بتاريخنا السياسي


لا يستطيع المثقف الذي رضع لبان الفكر الغربي التحرر من آثاره بيسر، ولا من سبح في فلكه التخلص منه بسهولة. يلملم بعضهم مخرجات الخطوات الدستورية التي اتخذتها القيادة الحكيمة في دمشق ويعرضها على الفكر الدستوري من منظوره الغربي فيجدها لا تتناسب ولوائح الأمم المتحدة وما جرت عليه العادة في مثل هذه التحولات الجليلة.

من دون أن يكلف نفسه عناء الاستشهاد بتجربة الحكم في بلداننا المسلمة عبر أربعة عشر قرنا، كانت بلا مبالغة الرافد الأهم في ما صاغه الفلاسفة الحداثيون من نظريات في السياسة والحكم. وعلى كل مثقف لا يحمل في كنانته غير سهام غربية أن يوسع مداركه وينفتح على التجربة السياسية لدى المسلمين، وكيف درجت السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية على مبادئ سامية لم ترق إليها الدولة الحديثة في أوج ازدهارها ولا أحسبها راقية.

سيجد المتخوفون من الحكم باسم الإسلام نماذج رائعة في التاريخ السياسي للأمة: السمو الروحي للسلطة التنفيذية، والتجرد لله وحده في من تولى التشريع للناس من خلال أصول ثابتة معلومة، والقضاء فيه مستقل تلقائيا ما دامت القوانين متجردة. إن الحكم كفائي بهذا المعنى، والاشتغال بيومياته ملهاة للناس عن واجباتهم الحضارية الأخرى.

يبشرنا بعض المستغربين ببراءة العلمانية لو أنها طبقت على الطريقة الغربية، وما يلقونه على العلمانية من كساء فضفاض يسع الأديان والأيديولوجيات في المجتمع الشرقي يحرمون غيرها منه، وفي طليعتها الإسلام، الذي اختارته الشعوب التي تؤمن به منهج حياة؛ فلو أن هؤلاء المستغربين قلبوا لنا أطروحتهم وهم ينصحوننا بها لاستقام لهم الكأس على الطاولة.

يقرأ بعضهم مسار الأمور بعد الحرب الروسية ـ الأوكرانية، التي تتهدد الغرب بجد، من زاوية واحدة قد لا تسير نحوها الأمور بالضرورة، واثقين من قدرة الغرب على الخروج من أزماته سالما متجددا، ولعل عواء الأوروبيين على فقدان المظلة الأمريكية دليل قوي على الخوف من المستقبل. إن العالم يتحول نحو تشكل جديد، القوة فيه هي الفيصل، وللدورة الحضارية كلمتها الفاصلة أيضا.

بلاد الشام والأتراك


إن تعميم الرداءة على الجميع أنظمة حاكمة وشعوبا محكومة مبالغة مغلوطة. ومن العدل أن لا نساوي بين الجلاد والضحية، الشعوب لا تزال تحتضن القيم والمبادئ وتضحي، والمقاومة الفلسطينية خير شاهد عرى السلطات الحاكمة. وما يحدث في السودان من صراع دام بين فصيلين حكما البلاد عقودا عوام الناس منه براء، وقرارات القمم العربية لا تلزم إلا صانعيها.

على كل حال كتائب الأقصى كانت شوكة لحركة فتح على أرض الرباط، ثم أصبحت عبئا على المقاومة بعد أن استنكفت عن تقديم ما يلزم لبلدها وشعبها إبان طوفان الأقصى، بل ومن قبل ذلك ومن بعده أيضا، وغدت طائفة تظاهر المثبطين وتقتات على ماضي أسلافها الأشاوس، وتطلب فتات الرزق من التسول السياسي، فهل بقي من ليوثتها شيء نفتخر به؟

على الدول العربية التعامل مع السلاح النووي في الكيان على أنه حقيقة واقعة، وليبنى بعد ذلك على الشيء مقتضاه. علما بأن ضرره على الصهاينة أكبر فيما لو استهدفته المقاومة، وإن ثمن تنقية المنطقة من مخلفاته أرخص من ثمن الإبقاء عليه.

ما يفعله قادة سورية الجديدة حكمة في زمن الرخاء، ولكن الأمور ستصبح أصعب عندما تضيق الدروب وتطفو التناقضات. الإسلام ومواجهة الصهاينة والعصبة الحاكمة قضايا لا يقبل المنتصرون الاختلاف حولها؛ فلا يمنين المخالفون أنفسهم بمعارضتها.يتمحل بعض الكتاب في توصيف الواقع السوري ـ بعد سقوط الطاغية بشار وزبانيته ـ مستدعيا في كل مرة مرحلة من تاريخ الحكام الجدد عفا عنها الزمن، أي لما كانت هيئة تحرير الشام ـ أو "هتش" كما يحلو للبعض أن يدعوها ـ وغيرها ممن ساندها فصائل تقاتل في إدلب والجبال. أما بعد إسقاط النظام البائد فالأوضاع قد اختلفت، والمكاسب ازدادت، والفصائل اندمجت. ومن واجب أهلنا العلوية في الساحل أن يسلموا بواقع الأمر، وأن لا يكونوا حطبا لمحرقة ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.

إن المناداة بمدنية الدولة وديمقراطيتها مشروع فتنوي ليس فيه الخلاص، والأمثلة على فشل ذلك لا تعد ولا تحصى. كما أن لازمة العودة إلى تاريخ الحاكم الحالي في سورية لا يراعي المستجدات والمراجعات، ومن الواجب التحفظ على معلومات المرصد السوري لحقوق الإنسان، فلديه مبالغات وخلفيات.

من حق الغالب أن يقود أو هكذا هي طبيعة الأمور. وما يفعله قادة سورية الجديدة حكمة في زمن الرخاء، ولكن الأمور ستصبح أصعب عندما تضيق الدروب وتطفو التناقضات. الإسلام ومواجهة الصهاينة والعصبة الحاكمة قضايا لا يقبل المنتصرون الاختلاف حولها؛ فلا يمنين المخالفون أنفسهم بمعارضتها.

أنصح أهلنا الدروز بأن يأخذوا العبرة من أهلنا في الساحل، وألا يلجوا هذه الكهوف المظلمة وهم يتواصلون مع الصهاينة على الملأ إن كانوا ينتمون إلى هذه الأمة، فالتاريخ لا يرحم. وليكونوا عند حسن ظن الشاعر بهم:

وما كان الدروز قبيل شـر                    وإن أخـذوا بما لم يســـتحقوا
ولكن ذادة و قـراة ضــيـف                كينبوع الصـفا خشنوا و رقوا
لهم جبلٌ أشمٌ لهُ شعاف ُ                 موارد في السحاب الجون بلقُ
لكـــل لبؤةٍ ولكل شبـل ٍ                   نضـــال ٌدونَ غـابتـــهِ ورشـــقُ
كأن من السموألِ فيهِ شيئاً              فكلُ جهاتهِ شرفٌ وخـــلقُ

بعد عقود من المغامرة بأرواح الناس يكتشف قادة حزب العمال الكردستاني وحلفاؤهم البنية التاريخية للمجتمع الشرقي، ويتكلمون عن الديمقراطية الأخوية، ويختارون إلقاء السلاح، ثم يظلون باقين في مواقعهم يقودون أتباعهم للمستقبل. يا لها من مهزلة تاريخية!

هي هكذا قضية الأمة الإسلامية، عندما تستبدل الرسالة السماوية بأيديولوجيات بشرية فإنها ستتشظى وتتناحر، والرابح فيها كالخاسر، حتى ترجع إلى أصولها. إن سياسة التتريك، التي انتهجها الدولة التركية خاصة بعد سقوط الخلافة وتولي العلمانية بقيادة أتاتورك مقاليد الحكم، ولدت قوميات مضادة لها بأسها الشديد، ولكن أما آن لكل هذا العبث السياسي بمصائر الشعوب المسلمة أن يتوقف؟

صداع المغاربة


ولك أن تتخيل طبيعة العقول التي تسعى بشعوبها نحو الريادة والرفاه، كما هي في روسيا والولايات المتحدة والصين، إن عقولهم لا تختلف عن عقولنا في القدرات، بل إن لعقولنا مددا من السماء يضمن لها التفوق على الدوام.

الحل ميسور بين المغاربة لمن أراد ذلك، وليس إقليم الصحراء بمانع منه، بل سينتهي صداعه إلى الأبد، لو أن قادة البلدين أو أحدهما على الأقل بادر الآخر بدعوته إلى الوحدة في ظل الشريعة السمحة، وما تبقى من خلافات مجرد تفاصيل غير عصية على الحل.بيد أن أمتنا الإسلامية مبتلاة اليوم بقادة لهم عقول متوقفة تماما عن التفكير والإبداع، إلا إبداعا شريرا يعطل الحياة ويضمن لهم الديمومة والبقاء. لا يبالون أن يعطوا الدنية في دينهم ووطنهم للأجنبي بلا مقابل، بل إنك تراهم لغيهم يأمنون مكر الإله بهم كما فعل بأشياعهم في الشام من قريب، فما لهم إن نزل بهم العقاب إذاك من شافعين ولا صديق حميم.

أقول هذا وأنا ألحظ كيف غدا شعبنا في الجزائر، يحيا حياة ضنكا، أصبح أكبر همه كيس حليب يظفر به لأطفاله أو منحة بطالة تهبه نسغ الحياة، وهو المحظي من دون المسلمين كافة ببلاد عظيمة مترامية الأطراف لا يعلم خيراتها إلا الله.

لدى فرنسا أرشيف العشرية الحمراء كاملا، وهو أقوى ورقة ضغط على النظام الجزائري، وبه سيعطي لها كما أعطى "زيلنسكي" لـ "ترامب"، أما ما ذهب إليه تحليل مركز الاستخبارات الأمريكي عن المشادة بين النظامين فالخصومة إذن لم تعد كونها لعب أطفال.

الحل ميسور بين المغاربة لمن أراد ذلك، وليس إقليم الصحراء بمانع منه، بل سينتهي صداعه إلى الأبد، لو أن قادة البلدين أو أحدهما على الأقل بادر الآخر بدعوته إلى الوحدة في ظل الشريعة السمحة، وما تبقى من خلافات مجرد تفاصيل غير عصية على الحل.

يستغرق بعض المفكرين التونسيين في رصد الحالة المزرية للوضع الاقتصادي في بلادهم ناقمين على السلطة خياراتها السياسية والاقتصادية؛ والحقيقة أن كل تلك الأوجاع أعراض لداء مستطير، هو قيام الاقتصاد الوضعي كله على مفهوم الفائدة الربوية المدمرة للحياة، التي قال عنها رب المال والعباد: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التحولات السياسة العربية سياسة عرب رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

اليسار السوداني- بين الجمود الفكري والتحولات العصرية

اليسار السوداني: بين الجمود الفكري والتحولات العصرية - استشراف المستقبل مقارنة بالأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي

اليسار السوداني- تحليل أعمق واستشراف للمستقبل مع مقارنة بالأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي
في مقاله، تناول الاستاذ صلاح شعيب قضية تراجع تأثير اليسار السوداني في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية التي شهدها السودان. وقد رصد عدة عوامل ساهمت في هذا التراجع، منها التغيرات الإعلامية، وضربات النظام الإسلاموي، وبروز الهويات الجهوية، وتأثير اليسار على الإبداع الفكري. ومع أن المقال قدّم رؤية مهمة، إلا أن هناك حاجة إلى تحليل أعمق وأكثر شمولية لفهم أزمة اليسار السوداني واستشراف مستقبله، مع مقارنة وضع الحزب الشيوعي السوداني بالأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي.
التغيرات الإعلامية: فرصة لم تُستغل أم تحدٍّ؟
يشير شعيب إلى أن اليسار فقد تأثيره مع صعود الإعلام الرقمي، حيث أصبح الأفراد قادرين على إنتاج المحتوى بأنفسهم، ما أضعف دور المثقف التقليدي والمنابر اليسارية. هذا الطرح صحيح جزئيًا، لكنه يتجاهل أن الإعلام الرقمي يمكن أن يكون أداة قوية لليسار إذا ما تم استغلاله بفاعلية.
اليسار السوداني لم يستطع حتى الآن تطوير استراتيجية إعلامية حديثة تتناسب مع عصر الملتيميديا. إذ لا يزال يعتمد على الخطابات الأيديولوجية المطولة، التي غالبًا ما تفتقد التفاعل المباشر مع قضايا الناس. المطلوب هو تبني خطاب إعلامي جديد يعتمد على لغة بسيطة ومباشرة، ويتفاعل مع اهتمامات الشباب وقضاياهم اليومية. كذلك، يجب أن يستثمر في إنتاج محتوى مرئي ومسموع يجذب الجماهير، بدلًا من الاقتصار على المقالات التنظيرية.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي
في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، استطاع الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي (SACP) أن يبقي على تأثيره من خلال التحالف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، واستخدام وسائل الإعلام الحديثة لنشر أفكاره. أما في العالم العربي، فإن الأحزاب الشيوعية في لبنان والعراق ما زالت تحتفظ ببعض التأثير بسبب قدرتها على التكيف مع التغيرات الإعلامية والتحالفات السياسية الواسعة. في المقابل، يبدو الحزب الشيوعي السوداني أكثر عزلة بسبب عدم قدرته على استغلال هذه الأدوات بشكل فعال.
ضربات النظام الإسلاموي و القمع ليس العامل الوحيد
لا شك أن النظام الإسلاموي الذي حكم السودان بعد انقلاب 1989 شن حملة شرسة ضد اليسار، مستهدفًا معاقله عبر القمع المباشر وتجفيف منابع نفوذه في النقابات والجامعات. لكن اختزال تراجع اليسار في هذه الضربات يُغفل دور العوامل الداخلية التي أضعفته.
ظل اليسار السوداني، وخاصة الحزب الشيوعي، عالقًا في خطابات أيديولوجية جامدة، ولم يتمكن من تجديد أفكاره لمواكبة المتغيرات الاجتماعية والسياسية. فبينما توجهت مطالب السودانيين نحو قضايا أكثر إلحاحًا مثل الحريات الفردية، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية، استمر اليسار في التركيز على شعارات عامة دون تقديم حلول عملية لهذه القضايا. هذه الفجوة بين الخطاب اليساري وواقع الناس ساهمت في تراجع شعبيته، وجعلته أقل قدرة على التفاعل مع التغيرات المجتمعية.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي ومثلا في مصر، على سبيل المثال، تراجع الحزب الشيوعي المصري بشكل كبير بعد ثورة 1952، لكن بعض التيارات اليسارية استمرت في التأثير من خلال التحالفات مع قوى سياسية أخرى. في تونس، استطاع اليسار أن يلعب دورًا في المرحلة الانتقالية بعد ثورة 2011، لكنه ظل محدود التأثير بسبب انقساماته الداخلية. أما في السودان، فإن الحزب الشيوعي لم يستطع أن يطور خطابًا يتجاوز الماركسية التقليدية نحو رحاب الحداثة الأرحب، ما جعله يفقد الكثير من جاذبيته.
بروز الهويات الجهوية- فشل الدولة أم فشل اليسار؟
يرى شعيب أن بروز الهويات الجهوية والإثنية أدى إلى تراجع الفكر اليساري، لكن هذا التحليل يحتاج إلى مراجعة. فالهويات الجهوية لم تكن بديلًا عن الفكر اليساري، بل كانت في كثير من الأحيان رد فعل طبيعي لفشل الدولة المركزية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
اليسار كان يمكن أن يلعب دورًا أكبر في تبني قضايا الأطراف والمهمشين، لكنه فشل في ذلك بسبب تركيزه على الخطاب المركزي والطبقي دون أن يعطي أولوية كافية لقضايا الهوية والثقافة. لو كان أكثر مرونة في تبني هذه القضايا، لكان بإمكانه أن يكون جسرًا بين المركز والأطراف، بدلًا من أن يصبح طرفًا في الصراع.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي- وفي جنوب إفريقيا، استطاع الحزب الشيوعي أن يتبنى قضايا الفقراء والمهمشين، بما في ذلك قضايا العمال والمزارعين، مما ساعده في الحفاظ على تأثيره. أما في العالم العربي، فإن الأحزاب الشيوعية في المغرب والجزائر حاولت أن تتبنى قضايا الهوية الجهوية، لكنها ظلت محدودة التأثير بسبب هيمنة الخطابات الدينية والقومية.
اليسار والإبداع الفكري- إرث يحتاج إلى تجديد
يشير شعيب إلى أن اليسار ساهم في تحديث الفنون والأدب والفكر السوداني في الخمسينيات والستينيات، لكنه يعتبر أن هذا التحديث كان نتيجة للمناخ العالمي وليس لفاعلية اليسار الذاتية. هذا الطرح يقلل من دور اليسار في تشكيل الوعي الثقافي السوداني.
اليسار لم يكن مجرد مستورد للأفكار، بل ساهم في تطويرها وإعادة صياغتها وفق السياق السوداني. أعمال مفكرين مثل عبد الخالق محجوب ومحمد إبراهيم نقد، وأدباء كثر، تشهد على هذا التأثير. لكن المشكلة تكمن في أن اليسار لم يستطع أن يستمر في هذا الدور الإبداعي بسبب جموده الفكري وعدم قدرته على استقطاب أجيال جديدة من المبدعين والمفكرين. كذلك، فإن تغييب كثير من المثقفين اليساريين بسبب القمع أو الهجرة أسهم في هذا الفراغ.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي- , في جنوب إفريقيا، استمر الحزب الشيوعي في التأثير على المشهد الثقافي من خلال دعمه للمبدعين والفنانين. أما في العالم العربي، فإن الأحزاب الشيوعية في لبنان وسوريا كانت لها بصمة واضحة في الأدب والفن، لكنها تراجعت مع صعود التيارات الإسلامية والقومية.
مستقبل اليسار السوداني- نحو خطاب جديد
يدعو شعيب إلى توحيد اليسار تحت قيادة الحزب الشيوعي، لكن هذا الاقتراح يبدو غير واقعي في ظل الأزمات الداخلية التي يعاني منها الحزب، بما في ذلك الجمود الفكري وعدم القدرة على استقطاب الشباب. مستقبل اليسار لا يكمن في توحيد القوى خلف حزب واحد، بل في إيجاد صيغة جديدة للعمل السياسي تعتمد على التحالفات الواسعة مع التيارات الديمقراطية والمستقلة.
اليسار بحاجة إلى خطاب جديد يتفاعل مع قضايا الواقع السوداني بمرونة، ويتبنى قضايا الشباب والنساء والمهمشين بشكل أكثر فعالية. كما أن عليه أن يعيد النظر في أدواته التنظيمية، بحيث تكون أكثر انفتاحًا على المجتمع وقادرة على استيعاب التعددية الفكرية والسياسية. كذلك، فإن اليسار يحتاج إلى إعادة بناء علاقاته بالنقابات ومنظمات المجتمع المدني، بحيث يكون مؤثرًا في الحراك الاجتماعي والسياسي.
تراجع اليسار السوداني ليس نتيجة لعوامل خارجية فقط، مثل قمع النظام الإسلاموي أو التغيرات الإعلامية، بل هو أيضًا نتاج لأزمات داخلية تتعلق بجموده الفكري وعدم قدرته على تجديد خطابه ليتلاءم مع متطلبات العصر. مستقبل اليسار مرهون بقدرته على إعادة بناء نفسه، من خلال تبني خطاب أكثر مرونة، والتفاعل مع قضايا المجتمع بفاعلية، واستغلال الأدوات الحديثة لنشر أفكاره. كما أن عليه أن يخرج من دائرة الخطابات النظرية إلى تقديم مشاريع واقعية قابلة للتنفيذ، تعكس انخراطه في قضايا المواطن السوداني اليومية.
إذا تمكن اليسار من تحقيق هذه التحولات، فسيكون بإمكانه أن يستعيد دوره كقوة تقدمية مؤثرة في المشهد السياسي السوداني، على غرار بعض الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي التي استطاعت أن تحافظ على تأثيرها من خلال التكيف مع المتغيرات الجديدة.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • غانتس: إقالة بار بدوافع سياسية وصمة عار لكل وزير
  • بكري: العار مازال يلاحق العالم والقانون الدولي الإنساني بعد الجرائم التي ترتكب في غزة
  • أستاذ علوم سياسية: إسرائيل تريد التخلص من الورقة الرسمية التي تحمي الحق الفلسطيني
  • اليسار السوداني- بين الجمود الفكري والتحولات العصرية
  • أخبار العالم| استشهاد عشرات الفلسطينيين في تصعيد إسرائيلي بغزة.. الحوثيون يقصفون تل أبيب وأزمة سياسية ومظاهرات عارمة في تركيا بعد اعتقال عمدة إسطنبول
  • بمشاركة 124 خيلاً.. انطلاق "دبي الدولية للجواد العربي" الجمعة
  • العالم العربي ولحظة الخطر الحقيقية
  • تركي آل الشيخ يكشف عن أضخم إنتاج سينمائي في العالم العربي: إمكانيات وتقنيات تستخدم لأول مرة
  • الدراما السعودية والتحولات الاجتماعية