بعد دقائق من وقوفي أمام مركز التسوّق مرّ بي أبو حسين واتجهنا إلى المربع الأمني سيء السمعة. عند المدخل المغلق بباب حديد، أطلّ علينا شابٌ من شباب الثورة في زيّه العسكري، متقلّدًا بندقيته، لوّح له أبو حسين بيده مسلِّما، ففتح لنا الباب، قال لنا حين حاذيناه "حيّ الله الشباب، لا تطولوا". قبل أقل من شهر من دخولي كان الداخل إلى هذه الأسوار يكتم أنفاسه خوفًا من الجحيم الذي ينتظره.

قبل ساعة

فتحت عينيّ قبل أن يطلق المنبه صوته، نظرت إلى الساعة 6:34 لم تشرق الشمس بعد. لم أنل حظًّا وافرًا من النوم، فقد نمت في نحو الرابعة، بسبب سهري مع بعض جنود عملية ردع العدوان، الذين وثّقت شهاداتهم على المعركة. كان صوت أبي حسين الشاب الذي تعرفت عليه ووعدني بإدخالي إلى المربع الأمني في كفر سوسة، يتردد في أذني "إذا أردت أن تدخل إلى المربع، وترى الوثائق بنفسك، عليك أن تستيقظ مبكرًا وتصل قبل أن يصل موظفو الهيئة، موعدنا الثامنة صباحًا" سرى في جسمي المنهك تيار حماسة اقتلعني من سريري وقذف بي في الحمّام تحت المرِشّ.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كندا لترامب وأوكرانيا لبوتين وتايوان لشي.. ملامح النظام العالمي الجديدlist 2 of 2لماذا ضغط نتنياهو على زر الإبادة مجددا؟end of list

خرجت من فندق الشيراتون، باتجاه ساحة الأمويين، لم تستيقظ دمشق بعد، الشوارع خالية تمامًا. كانت خيوط الفجر تضيء بودّ، بدا لي قاسيون المطل على المدينة بديعًا وهو يستقبل أشعة الشمس، كان أجمل مشهد رأيته خلال رحلتي كلها، وقفت في الميدان عند مجتمع الطرق، أملأ عيني من مشهد الجبل، هنا قُتل هابيل ودُفن، حسب رواية ابن عساكر الدمشقيّ (ت571هـ/1176م) متى تراها تشفى هذه المدينة الحسناء من شؤم الدم. قلتُ في نفسي وأنا أنتظر سيارة أجرة تأخذني إلى كفر سوسة.

إعلان

بعد بضع دقائق مرّت سيارة أجرة فأشرت إليها

"إلى أين؟" سألني السائق الذي لم ينفض غبار النوم عن وجهه بعد.

"خذني إلى شام سيتي سنتر" قلت له، كان هذا أقرب مَعلم عام للمربع الأمني.

بعد ثماني دقائق أنزلني، أخرجت رزمة من الليرات ولعقت إبهامي، وأخذت أعد له ثلاثين ألف ليرة، بدوت كجدِّ يتحلّق حوله أحفاده في صباحيّة العيد في انتظار العيديّة.

يتوسط المربع الأمني العاصمة دمشق، ويفترش سوره عدة أحياء، ويضم عددًا من الأجهزة الأمنية، منها المخابرات العامة، والأمن العام، وفرع الأمن العسكري، وفرع الأمن السياسي، والمخابرات الجوية، ووزارتا الداخلية والدفاع. من هناك كانت تُدار جمهورية الخوف الأسدية.

قبل أيام من زيارتي اكتشفت قوات المعارضة مستودعًا للمخدرات داخل المربع الأمني، يحوي أكثر من مليون حبة كبتاغون، والقنّب الهندي. بلغت عائدات هذه التجارة 10 مليارات دولار، في عام 2022 حسب الوكالة الفرنسية.

نموذج الدولة الإله

كل شيء يبدو طبيعيًّا من الخارج، مبانٍ ضخمة لدوائر حكوميّة، عتيقة وجديدة. صور الأسد مخرّقة على كل مبنى، انتهينا إلى فرع 248 المخصص للمخابرات العسكرية.

يختص فرع 248 (المخابرات العسكرية) بضبط الأمن داخل الجيش، لكنه عمليًّا تتنوع اهتماماته وصلاحياته، ليصل إلى إدارة الشعب، بطريقة ما، والتحكم فيه. تغولت الأجهزة الأمنية في نظام الأسد وعَدَلت عن مهامها الرئيسيّة، "فضبط الأمن" هدف فضفاض يؤوله كل جهاز حسب مزاجه. ترسيم اختصاصات هذه الأفرع أشبه بمحاولة تهذيب مجموعة من الوحوش وتعليمها الأكل بالشوكة والسكين. وكان الشعب هو الطبق الذي يبسط لتلك الوحوش المتحضرة.

وقفت أمام المبنى أتأمل المدخل. بزة عسكرية ملقاة على الأرض، وبجانبها صورة لفخامة الرئيس الهارب، وعن يسار المدخل لوحة كبرى يبدو فيها الرئيس رافعًا يده يحيي جماهير شعبه الذي لم يكن معجبًا به. مكتوب في أسفل اللوحة، "سلامًا أيها الرئيس، سلمتَ ويسلم البلد" هكذا سارت الأمور منذ توليه وحتى هروبه، كانت سلامته أولًا، قبل كل شيء، حتى قبل أهله وأرضه وشعبه.

مدخل فرع الاستخبارات العسكرية في المربع الأمني (الجزيرة)

الأرض غرقى بالماء، اتبعت حركة صديقي الذي يعرف المكان جيدًا، أضع قدمي حيث وضعها وهو يتقدمني، خطوة على فراش، وأخرى على قطعة خشب، وثالثة على كومة ملابس عسكرية، والرابعة على الدرجة الأولى من السلم المؤدي إلى الطابق الأول.

إعلان

طابق فسيح تنتظم المكاتب على جانبيه. "تفضل اختر أي مكتب وطالع الوثائق، لقد مرّ الثوّار وكثير من الشعب بهذا المكان قبلك وبحثوا عن سجلاتهم، ولذلك فالمكان في حالة من الفوضى الرهيبة. أمامنا عمل هائل. هذه ذاكرة النظام البائد. علينا أن نحافظ عليها، ففيها كثير من الأسرار".لقد سقط النظام وبقي المربع الأمنيّ الذاكرة الحيّة للنظام الأسدي.

يسابق رجلُ الأمن الصحفيَ إلى جمع المعلومات، لكن الأول يحصيها ليستخدمها ضد الشعب، والثاني يجمعها ليلوّح بها في وجه السلطة.

كنتُ أتحرك بخطى ثقيلة، لا أعرف لماذا لمع في ذهني بيت نزار وهو يمشي مثل الطفل خلف دليلته في قصر الحمراء ووراءه التاريخ كوم رماد. كنت أسير خلف أبي حسين، وتاريخ المعتقلات يعصف في ذهني. يختار المؤرخون عادة نقطة ارتكاز حيوية في حياة الشعوب ليديروا عليها خط التاريخ. تستطيع أن تكتب مثلا عن تاريخ فرنسا من خلال مقاهيها، وتستطيع أن تكتب عن تاريخ سوريا من خلال فروع الأمن فيها.. تاريخ سوريا الحديث يعبر من هنا.

المكاتب في حالة فوضى رهيبة. مئات السوريين اندفعوا إلى هذه المباني بعد سقوط النظام ليفحصوا ما الذي كان يسجّله النظام عنهم. كل سوريّ دخل إلى هنا، كان يبحث عن "إضبارة" تتعلق به أو بأحد من أقاربه، كان مشهدًا قياميًّا. الأوراق وملفات التحقيق في كل مكان،

كان التنصت على الهواتف عادة يوميّة في نظام الأسد (الجزيرة)

والسجلات تملأ الأرض والخزائن.

 

هذه خزائن أعمال الشعب السوري، محصاة ومسجلّة عليه، بيد أنها لم تكن تحصي إلا السيئات، أما الحسنات فليست من اختصاصها. لقد تسمى الحزب الحاكم بالـ"بعث" وظن أنه يستقلّ بمهام الإله.

في السجلات رصد الدولة لكل حركة تجمع بشريّ فيها، فهذه سجلات الفنادق؛ كل فنادق دمشق ترسل قوائم يومية بأسماء ضيوفها، وأرقام هوياتهم، وهواتفهم. وفيها سجلات المساجد والكنائس من 1980 إلى 2024، التي تحصي عدد الحضور للصلوات وخُطب الجمعة، وأجناس الحضور، والتبرعات المجموعة.

وفيها عقود الإيجار لمساكن دمشق، ففي دمشق لا تتوقف معاملة التأجير على مستأجر ومالك، كما هو المعروف في سائر العالم، بل تدخل فيها فروع الأمن وسيطًا يستجوب المستأجر، ويسترزق من المؤجِّر. ولا يكتفي النظام بالدخول إلى بيتك، حتى يقتحم عليك جيبك، فسجلات التنصت على الهواتف وتتبع المكالمات، والمراسلات بين أفرع الأمن وشركات الهاتف للمطالبة بمعلومات حول أرقام معينة، روتين يوميّ.

إعلان

سجلات سوداء تحصي أعداد الموقوفين، وأخرى كُتب عليها "دفتر استلام" لا يوجد فيه سوى تواريخ الأيام، وأرقام أمام كل يوم (تبيّن لاحقًا أنها عدد الجثث) كان الدفتر لشهري يوليو/تموز وأغسطس/آب من عام 2024، وفيه من جثتين إلى 15 جثة يوميا.

 

مؤخرًا، التقيت بعامر مطر وهو صحفي على أعتاب الأربعين، من الرقة، درس الإعلام في دمشق وبها عمل، وتنقل بين عدة قنوات فضائية وكان كاتبًا في جريدتي الحياة والنهار، حيث كان يكتب عن الوضع الاقتصادي والسياسي. لذلك كان من المرصودين على قوائم أجهزة الأمن. "كانت دار أهلي في الرقة مفتوحة لزيارة شهرية من رجال الأمن" قال لي عامر.

ما حكاه لي عامر، كان تلوينًا بالأحمر لتجربتي السوداء. لقد مرّ عامرٌ من هنا، ولكن بطريقة مختلفة، بفارق ما بين الزمنين، دخلت وأنا أتلفّتُ معتبرًا، ودخل وهو معصوب العينين، دخلته باسمي، ودخله كرقم، دخلته أمشي على قدميّ، ودخله مغلول اليدين يدفع بالركلات والهراوات. جئت بإرادتي، وجيء به بإرادتهم.

"بعد سقوط النظام أرسل لي أحد الأصدقاء صورًا لملف وجده في المربع الأمني، كتب عليه اسمي، يحتوي على 81 صحفة وفيه قصتي مع أجهزة الأمن التي تحتوي على اعتقالي والتنصت عليّ ومقالاتي. كان صديقي يبحث في السجلات لعله يجد شيئًا عن أخيه المخطوف، فعثر على ملفي بالصدفة". قال لي عامر

على أي شيء احتوى الملف؟

"محاضر التحقيق معي، وفيها تحقيق أجروه معي في فرع فلسطين عام 2009، كان بسبب مقالة كتبتها تحكي قصة الفقر في دمشق. بالإضافة إلى سجلات مكالماتي، كانوا يتنصتون عليّ لمدة عام قبل الثورة".

قبل الثورة، ما الموجب لتلك الرقابة؟

" في عهد الأسد، يكفي أن تكون صحفيًّا لتتسلط عليك عيون النظام".

عامر مطر يحمل لافتة مكتوب عليها بالعربية، "قبل 10 سنين كنت سجين في فرع الخطيب… واليوم أحاكم سجاني…". 7 آبريل 2021.  (هيومن رايتس ووتش) احكِ لي قصة اعتقالك إعلان

"لقد اعتقلت مرتين. أو قل مُتّ مرتين. كانت الأولى بعد اندلاع الثورة بأيام." استرخى عامر في مقعده، وهو يتجهز لسرد قصة تغصّ بالآلام "بعد عشرة أيام من اندلاع الثورة خطفني جنود النظام من منزلي وأخذوني إلى فرع الخطيب. تم التحقيق معي وتعذيبي، ثم نقلوني إلى كفر سوسة المربع الأمني، إدارة أمن الدولة. كان من أبشع الأماكن وأغربها". بقي عامر في الاعتقال الأول 16 يومًا ثم أفرج عنه.

"بعد 4 أشهر من الإفراج، كمنوا لي تحت الدار، وبدؤوا بضربي لأدلهم على داري، قلت لهم إني لا أسكن هنا، لو وصلوا إلى شقتي ورأوا الذواكر الإلكترونية لحُكم عليّ بالإعدام. أخذوني إلى المربع الأمني".

بأي تهمة قبضوا عليك؟

التهمة الأشهر لدى النظام في سنوات الثورة "إشاعة أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسيّة الأمّة" قالها عامر بطريقة آليّة، من كثرة ما ترددت على سمعه.

"حين دخلت إلى أمن الدولة في المربع الأمني، انفتح أمامي باب من جهنم، كان العذاب الذي تعرضنا له في الفرع يفوق الخيال. صادف وصولي اعتقالهم لطفل سوداني يبلغ من العمر 16 سنة. كان يحمل الجنسية الإسبانية، وجاء لسوريا ليعيد الاتصال بثقافته وليتعلم العربية. مرّ بجانب الفرع وسألهم عن الاتجاهات، فسألوه عن جنسيته فقال لهم سوداني فأخذوه.

أنزلونا سحلًا ورفسًا على الدرج، ولما بدؤوا حفلة التعذيب، كنت أتألّم بالعربيّة، ومحمد يتألم بالإسبانيّة (أقول آخ آخ، ويقول أوي أوي) طرب السجانون لهذا النغم. فأطالوا في الحفلة لمدة ساعة. ليسمعوا هذا النشيد الجهنمي!

حين عرفوا أني صحفي، ارتفعت وتيرة التعذيب وكأنهم يطلبون عندي ثأرًا. قضينا أنا ومحمد في زنزانة منفردة… وقضيت بعدها شهرين في زنزانة نحتاج أن يقف بعضنا لينام آخرون. فكنا نتناوب؛ تنام مجموعة بالليل، وأخرى في النهار…".

قاطعته: اعذرني، لكن ما الذي حصل لمحمد بعدها؟ إعلان

" قلت له بعد أن وضعونا في المنفردة: قل لهم إنك إسباني. حين عرفوا جنسيته، تصلّبت أيديهم عنه وتوقف التعذيب. لكنه كان طفلًا يدركه الفزع فيبكي ويقول ’أريد أمي أريد أمي’. فكانوا يأخذوني ويعذبوني أمامه لتخويفه وإسكاته. كنت أتوسل إليه بأن يصبر حتى يتوقفوا عن تعذيبي. أخرجوه بعد أيام، واتصل بوالدي وأخبره أن عامرًا مسجون في المربع الأمني. أحد أحلامي اليوم، أن أتواصل مع محمد مرة أخرى".

سألتُ أبا يوسف ونحن منشغلون في تفتيش المكاتب ومطالعة الوثائق "هل توجد زنازين في هذا المبنى؟" 
دون أن يفكر أو يرفع رأسه "الزنازين في القبو، هل تريد أن تراها؟"

ألقيتُ كومة الأوراق التي تحكي عن تهريب بعض العسكر لمواطنين سوريين إلى تركيا، وقلت: بالتأكيد"

"حسنا، تفضل" قالي لي ونزلنا الدرج قفزًا. على جدار القبو كتبت لوحة تمنع دخول الاجهزة الخلوية.

سجن فرع المخابرات العسكرية – المربع الأمني (الجزيرة)

ما إن وضعت قدمي على الدرجة الأخيرة في القبو لفحتني أبشع رائحة شممتها في حياتي. الرطوبة تخنق الأنفاس، وروائح الدم والعرق والقيح والفضلات تنفذ كقطع نحاس تحزّ مجرى أنفاسك وتستقر في رئتيك. في ممر طويل تتوزعه زنازين رهيبة على الجانبين، مختلفة الأحجام، مشيتُ مع أبي حسين وهو يشير لي إلى الزنازين ويقول "هذا مهجع جماعي، وهذه غرفة تحقيق، وتلك الغرف الصغيرة عن يسارك زنازين انفرادية" كانت الانفراديات غرف صغيرة لا تتجاوز المترين طولًا والمترَ عرضًا، مصمتة من كل جهاتها، عدا فتحتين بقطر  15سم؛ إحداهما في الأرض لقضاء الحاجة البشرية، والأخرى في السقف لدخول الهواء. شعرت بضيق رهيب، لم أستطع التنفس، ربّتُّ على كتف أبي حسين، دون أن أتكلم وأشرت إليه أني لا أستطيع البقاء، لنخرج فورًا. بسرعة أكبر من سرعة نزولنا قطعنا الدرج صعودًا، ركضتُ خارج المبنى لألتقط هواءً نقيًا، أخذت عيناي تدور في فناء المربع الأمني ومبانيه الشاهقة: ما هذه المباني الحكومية التي تحتوي على أقبية تشبه المسالخ الحيوانية، ولكنها معُدة للبشر؟!.

إعلان صف لي تجربة السجن في المربع الأمني؟ سألتُ عامرًا.

"كان عالمًا عجيبًا، يصعب عليك فهمه. مرة من المرات سمعنا خصامًا بين السجانين فتبيّن أن أحدهما أخذ من عطر زميله ليخرج في موعد مع حبيبته. هل يمكن أن يكون الناس الذين يحبون بعضهم في الشوارع وحوشًا يقومون بتعذيب البشر؟ فالقادر على العواطف قادر على القتل والتعذيب لهذا الحد! وهذا شيء يكسر فيك مفهومك عن الإنسانية والبشر. في بداية الاعتقال جاءت ضربة على رأسي فانفجر الدم منه، وجاؤوا بطبيب، يمثل الطبيب في كل ثقافات العالم معاني الرحمة والرعاية، إلا في سجون الأسد، كان الطبيب يخيط رأسي ويضربني، كان علاجه جزءًا نشطًا من التعذيب".

عدت إلى الطابق الأول لأستأنف بحثي، متنقلا بين المكاتب، توقفت عند مكتب عقيد في المخابرات العسكرية، كان السؤال الذي يدور في ذهني. كيف يقضي الضابط يومه، حين لا ينشغل بالتحقيق؟ بقي المكتب نظيفًا نسبيًّا بعد أن تعرّض لحالة نهب لأجهزته الكهربائية. آثار ماكينة القهوة والمبرّد في زوايا المكتب واضحة. خزائنه ومكتبه بحالة جيّدة.

امتدت يدي إلى درج مكتب العقيد، وأخرجت دفترًا من دفاتر مذكراته، كان يحتوي على بنود أحد الاجتماعات، وفيه توصيات بالتركيز على ملف الفلسطينيين واللاجئين، واستهداف حركة حماس والمتعاونين معها. يبدو أن أجهزة الأمن لم تشتفِ من حركة حماس بعد أن قرر قائد الحركة خالد مشعل في 2012 الانحياز إلى الشعب السوري، والتخلي عن كل الامتيازات التي كانت تحصل عليها الحركة داخل سوريا. وفي البنود ذكر لأهمية توطيد العلاقات مع الميليشيات العراقية التي كانت ظهيرًا للنظام الأسدي.

دفتر في مكتب عقيد في المخابرات العسكرية (الجزيرة)

جلستُ على كرسي العقيد المتوسط الجودة، وشرعت أتصفح دفتر مذكراته، لعلي أنتهي إلى جواب لسؤال كيف يقضي الضابط في النظام الأسديّ وقته عندما لا يكون منشغلًا بالتجسس على الشعب، أو تعذيبه. كثير من الخربشات ورسومات نصف مكتملة لا تشي بأي موهبة، توقفت عند لوحة جادت بها قريحة العقيد في وقت فراغه، ترسم مشنقة تُعلَّق عليها جثث فارقت الحياة، وطيور تهبط على رؤوس المعدمين شنقًا لتأكل من أدمغتهم.

رسومات من دفتر عقيد في المخابرات العسكرية في نظام الأسد (الجزيرة)

 

سرت في جسدي موجة تقزز، فانتفضت من الكرسي، إذا كان هذا خيال الضابط وقت فراغه وراحته، فما ذا يفعل وقت عمله وجدّه؟ وذهبت أبحث في الخزائن، صادفني رف يخلو من الملفات ويشتمل على مجموعة كتب لم تمتد إليها أيدي المقتحمين. لا أحد اهتمَّ بما يقرؤه ضبّاط

من مكتبة عقيد في المخابرات العسكرية في المربع الأمني/كفر سوسة(الجزيرة)

الأسد. علاقة الدمويّة بالجهل ليست شرطيّة، فهتلر (الذي كان رسامًا شبه محترف بالمناسبة)، يعتبر قارئًا جادًّا وكانت مكتبته تحتوي على 16000 مجلد. لقد كان الرجل الذي أطلق حربًا في القارة العجوز قضت على 60 مليون إنسان، قارئًا نهمًا للفلسفة والروايات البوليسية. ومثله

إعلان

ستالين المولع بالأدب الروسي، الذي وجدوا في مكتبته 400 كتاب مليئة بحواشيه وتعليقاته. حتى بقّال تل أبيب، بنيامين نتنياهو قال في آخر جلسة محاكمة له في العام الماضي، إنه لا يملك فائضًا من الوقت بعد ساعات العمل، وما يجده يصرفه للقراءة. المعرفة لا تعني الخير بالضرورة، بل هي وسيلة يزداد بها الخيّر خيريّة والشرير شرًّا. كانت مكتبة العقيد الذي يقضي وقت راحته في رسم المشانق والجثث، تشي بأنه محبّ للأدب والشعر. ففي مكتبه دواوين شعرية، وأشهر شاعرات الحب، إضافة إلى كتب فكرية تعنى بالتعايش بين الأديان!

من مكتبة عقيد في المخابرات العسكرية في المربع الأمني/كفر سوسة(الجزيرة) (الجزيرة)

فرغت من الجانب الثقافي للسيد العقيد، وحملت معي كومة من الملفات التي كانت منضّدة داخل الخزائن بشكل منظّم، وافترشت الأرض لأطالع القضايا التي انتهت في مكتب العقيد. كان أكثرها تقارير عن عناصر من الجيش تهربوا من الخدمة العسكرية، أو انشقوا عن النظام. في أحد الملفات السمينة، قرأت قضية ضابط في الجيش اتُّهم بمساعدته للثوار في منطقة ريف دمشق. يحكي ملفه تفاصيل جلسات التحقيق معه، وتحديد موعد محاكمته. لكن الضابط لم يصل إلى المحكمة، ففي الورقة الأخيرة من التقرير كُتب أن المتهم لن يتمكن من الحضور للمحكمة، لأنه أصيب بنوبة قلبية في 26 سبتمبر 2013. كانت تلك هي الصياغة القانونية لوفاته تحت التعذيب.

 

جزء من ملف عقيد ركن في الجيش السوري متهم بالتعاون مع الثوار(الجزيرة)

حين سألت عامرًا عن تلك الخاتمة للتقرير أكّد لي أن هذه صيغة معروفة لديهم.

ألا ينتهي التعذيب بنهاية التحقيق؟ سألته

"أبدًا، ما دمت تحت أيديهم فأنت في خطر، الصفع على الوجه والضرب بالهراوات عادة يومية، طريقك إلى الحمّام مفروش بعشرات اللكمات والهراوات الهاوية على رأسك. أسباب الموت كثيرة في سجون الأسد، يجتمع عليك الجوع والأمراض والبرد، وقد مات بعض زملائنا السجناء بالأمراض. كانت الزنزانة تضم 60-70 شخصا، ننام مسايفة، وقد نموت من البرد، أو الأمراض المعدية".

إعلان بعد أربعة أشهر أطلقوا سراحك، هل تبت وتركت العمل الثوري؟

"أبدًا، حين خرجت رأيت تعاطف الناس معنا، فذهبت إلى الغاية وواصلت العمل. بعد خروجي وصلتني رسالة إلكترونية من نادي القلم الألماني، وعرضوا عليّ الهجرة، ترددت، لكن النظام اعتقل والدي وطالبوا أن أسلم نفسي، فقررت الهجرة. أخرجوا والدي بعد 10 أيام".

ماذا عملت في ألمانيا؟

لقد أنجزنا متحفًا رقميًّا لسجون داعش. سأرسل لك الرابط لتأخذ جولة فيه. سترى بتقنية ثلاثية الأبعاد تفاصيل السجن، وستأخذ جولة في سجن الموصل، وسجن دير الزور، بفترات زمنية مختلفة، وستسمع شهادات شهود يحكون عن تجاربهم. وبالمناسبة بدأنا العمل على سجون النظام بنفس الطريقة، وسيخرج أول نموذج لسجن صيدنايا.

هل يوجد تقارب بين سجون داعش وسجون النظام؟

"نعم، لقد درسنا أساليب التحقيق، وأساليب التعذيب، والبنية الهندسية للسجون، ويمكن أن أقول إن داعش أخذت كثيرًا من تقنيات السجنيّة من تجربة البعثين، العراقي والسوري، ومن تجارب "أبو غريب" وسجون الأميركيين في العراق. دوامة الظلم تولّد وتنتج تنوعات متقاربة.

بالمناسبة أكثر ما أدهشني في المربع الأمني، البيروقراطية المتبّعة لهذا التوحّش. قلتُ معلقًا

"النازيون ونظام ألمانيا الشرقية من أكثر التجارب البيروقراطية دقة وتنظيمًا. وهذا ينطبق على نظام الأسد، وعلى داعش. هذه البيروقراطية لا تعني تقدمًا وإنما تعني دقة الوحشية".

بقي نظام الرصد والتقارير من المخبرين وأجهزة الأمن يعمل بكفاءة إلى آخر لحظات النظام، ويبدو أن بعض الموظفين في هذه الآلة كان يعمل حتى بعد أن غادر الرئيس المخلوع الأراضي السورية. لم يتغيّر أي شيء من عقلية الأمن بعد سنوات الثورة، ولم يراجع النظام نفسه أدنى مراجعة، فتقارير المخبرين وموظفي الدولة ضد بعضهم، بقيت تعمل والثوار يتقدمون نحو دمشق. فبعد تحرير حلب، وتوجه عملية ردع العدوان إلى حماة وحمص، كان فرع المخابرات يستقبل التقارير الكيديّة بين معلمات المدارس.

تقارير وشاية في فرع المخابرات العسكرية – المربع الأمني (الجزيرة) متى ستشعر بأنك أنجزت مهمتك بعد انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد؟ سألتُ عامرًا في ختام لقائي. إعلان

"حين يزور السوريون الزنزانة التي كنت فيها على أنها متحف"

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد العسکریة فی نظام الأسد إلى المربع أبی حسین کفر سوسة فی مکتب عامر ا بعد أن

إقرأ أيضاً:

العمايرة: بيان الزمالك غرضه التدخل فالقضية ليكون له حق الطعن

علق خبير اللوائح عامر العمايره علي بيان نادي الزمالك عبر مداخلة مع الاعلامي مهيب عبد الهادي. 

وقال عامر العمايرة: بيان الزمالك غرضه التدخل فالقضية ليكون طرفا فيها ويحق له الطعن بعد ذلك.

3 قرارات أنهت مسيرة باسم مرسي نجم الزمالك السابقمهيب عبد الهادي يهاجم الزمالك: بيان متناقض

قدم مجلس إدارة نادي الزمالك برئاسة الكابتن حسين لبيب اليوم الثلاثاء خطاب رسمي  إلى المهندس ياسر إدريس  رئيس اللجنة الأولمبية المصرية، يطلب خلاله التدخل في الشكوى المقدمة بشأن الإجراءات المتعلقة بمباراة القمة على ستاد القاهرة يوم الثلاثاء الماضي الموافق 11 مارس 2025 .

وأكد نادي الزمالك أنه طرف أصيل في الشكوى وصاحب مصلحة مباشرة فيها، وأرفق النادي بطلبه مذكرة قانونية مقدمة من الدكتور كمال شعيب المستشار القانوني للنادي .

كما أرسل نادي الزمالك اليوم خطابين إلى كل من، الاتحاد المصري لكرة القدم ورابطة الأندية المصرية المحترفة، وذلك للاعتراض على ما تضمنته الفقرة الأخيرة من خطاب رابطة الأندية المرسل لنادي الزمالك بخصوص قراراتها حول عقوبات مباراة القمة.

مقالات مشابهة

  • عبد القادر الصالح حجي مارع.. ثائر سوري ترك تجارة الحبوب وحمل السلاح ضد الأسد
  • العمايرة: بيان الزمالك غرضه التدخل فالقضية ليكون له حق الطعن
  • تحديد أطراف المربع الذهبي لبطولة كأس ميناء صحار
  • الحوثيون: لا تهدئة رغم ضغوط أميركا ومناشدات الحلفاء
  • خبير آثري يكشف عن أسرار هرم الملك أوناس
  • الحوثيون: لا تهدئة رغم ضغوط أمريكا ومناشدات إيران
  • FA: كيف تستعد إيران للمواجهة مع ترامب.. وهل ستنقذ نفسها؟
  • اكتمال عقد «المربع الذهبي» لطائرة «ند الشبا»
  • هذه حقييقة خبر تسليم الجيش اللبناني الادارة السورية الجديدة مسؤولين من النظام السابق