على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (17 – 20)
تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT
"لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لم تَكُنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
متلازمة الربح السهل
تقع مسؤولية نهب الموارد السودانية في المقام الأول على عاتق التنظيم الإخواني السوداني الذي صنع في داخلها فسادًا مؤسسيًا منعدم الشبيه. وكذلك، على المتحالفين معه من طبقة رجال المال والأعمال. ولو أخذنا على سبيل المثال، تراجع حظوظ السودان في سوق القطن العالمية، وتدمير مشروع الجزيرة وخراب محالج القطن، ودخول الشركات الخاصة في تمويل زراعة القطن في مشروع الجزيرة، فإننا لا نجد سببًا لذلك سوى فساد التنظيم الإخواني، وجشع قياداته، ونهمهم لسرقة المال العام.
في مناخ الفساد المستشري، جرى تذويب الضوابط التي تمنع تصدير المواد الخام غير المعالجة، ما نتج عنه، على سبيل المثال، تصدير القطن السوداني غير المحلوج، بعد أن كان ذلك ممنوعًا في الماضي. قادت هذه النقلة إلى أن تصبح مصر وجهةً لمصدري القطن السودانيين. وعمومًا، فإن الرأسمالية تفضل سلوك درب الربح السهل. فإن هي وجدت السبيل ممهدًا وميسرًا لها من جانب الدولة لكي تقوم بتصدير الخام فإنها ستفضل ذلك لأنه يدرُّ عليها أرباحًا دون تحمل أي كلفة، كإنشاء مصانع أو توظيف عمالة كبيرة. لقد انحصر هم التنظيم الإخواني الحاكم والرأسماليين المتحالفين معه في جني الأرباح الشخصية السهلة. ولم يعد يهمهم قط أذا هدم ذلك بنياتٍ راسخة أو أعاق تطور البلد اقتصاديًّا، أو أبقى أفراد شعبه بلا مصدر للدخل.
نحن السبب في نهب بلادنا
سبق أن أشرت إلى أن مصر لم يكن في وسعها أن تنهب موارد السودان بهذه الصورة الكارثية، لولا أن قطاعًا من نُخَبِنَا المتنفِّذة قد تعاون معها في هذا النهب لأسبابٍ مختلفة. فهؤلاء الذين تعاونوا مع مصر في الهيمنة على القرار السوداني وفي نهب الموارد، إبتداءً بمياه النيل وانتهاءً بكل موردٍ سودانيٍّ آخر؛ نباتيٍّ أو حيوانيٍّ أو معدنيٍّ، ينتمون إلى قبائل شتى. ولفظة قبائل هنا لا تعني القبيلة بمعناها العرقي المعروف، وإنما تعني إلى جانب قبيلة العرق، قبيلتين أخريين؛ سياسية، ودينية. ولقد أسميت هاتين بقبيلتين لأنهما تشبهان قبيلة العرق. فهما لم تدخلا نطاق الحداثة بعد. فهما مقاومتان أيضًا للأمساك بِعُرى الحداثة، ويجمع بينهما وبين قبيلة العرق، ما سبق أن أسميته "العقل الرعوي". هذا العقل الرعوي النقيض للحداثة وللمؤسسية وللشفافية، والذي ينظر إلى الدولة كغنيمةٍ وكموردٍ ومستودعٍ للثراء الشخصي والجهوي، هو الرابطة التي تربط بين جميع هذه القبائل الثلاث، التي لا تتعدى أحلامها وتطلعاتها المصلحة الفجة، التي تسير على الدوام في معارضةٍ لمصلحة الوطن والمواطن.
من القبائل الدينية طرقٌ صوفيةٌ تعيش في كل من السودان ومصر. والموجودة منها في السودان غالبيتها مرتبطةٌ ارتباطًا عضويًا بالنخب النيلية الحاكمة للبلاد؛ سواءً أن كانت مدنيةً أو عسكرية. ومن القبائل السياسية، الأحزاب الإتحادية، باستثناء بعض تياراتها الجديدة. لكن، لا تزال هذه التيارات الجديدة، تحتفظ بالإسم القديم "الاتحاديون"، الذي يدل على الرغبة العميقة في توحيد السودان مع مصر، أو على الأقل الميل إلى استتباعه لها. وقد دخلت أطرافٌ من أحزاب الأمة، الذي كان فيما مضى حزبًا استقلاليًا موحَّدًا، في دائرة الرخاوة والتماهي مع المطامع المصرية، طمعًا في رضا مصر وتماشيًا مع مخططاتها للسودان التي تأتي للقادة السياسيين بالمنصب، وما يتبعه من ثروةٍ ووجاهةٍ، ومجدٍ أسري. وبهذا أصبحت هذه الشرائح من حزب الأمة لا تختلف كثيرًا عن الإتحاديين التقليديين.
أما القبائل العرقية فمعروفةٌ وهي، على وجه التحديد، القبائل التي بقيت في موطنها الأصلي في الشمال النيلي؛ ابتداءً من شمال الخرطوم وانتهاءً بمدينة الدبة وما حولها؛ من شايقية، وبديرية، وجعليين ودناقلة وغيرهم. وتدخل في هذه البنية عديد الأقسام الفرعية، التابعة للمجموعة الجعلية الكبرى. وهناك، أيضًا، ولكن بقدرٍ أقل، القبائل النوبية من دناقلة، ومحس، وسكوت، وحلفاويين، وكنوز، في أقصى الشمال النيلي الذين اشتغلوا بالتجارة منذ العهدين التركي والمهدوي وكانوا قريبين من مراكز السلطة، خاصة السلطات الاستعمارية من خديوية ومن بريطانية. إلى جانب كل أولئك، يوجد في داخل كل قبيلةٍ من هذه القبائل من سياسية وعرقية ودينية، الرأسماليون والتجار المرتبطون بمركز السلطة ارتباطًا وثيقًا من أجل حماية وتوسيع مصالحهم. وقد توزع هؤلاء مع الأحزاب السياسية ومع الطرق الصوفية. وفي كل حقبةٍ حكم فيها العسكر لم يفقدوا زبائنيتهم لمركز السلطة.
لقد استثمرت مصر عبر قرنين من الزمان استثمارًا ضخمًا في استتباع العقول السودانية. فخلقت بذلك وسط كثيرٍ من السودانيين شعورًا بالدونية تجاهها. وقد أغرى هذا الانكسار العقلي والنفسي النخب العسكرية المصرية الحاكمة بالمزيد من محاولات الهيمنة على القرار السياسي السوداني، وعلى الموارد السودانية. بل، من شدةِ وثوقِ الأنظمة المصرية من انكسار النخب السودانية أمامها، وقبول التبعية لها، والتودد لها، أصبح غمار المصريين يتحدثون عن السودان بكثيرٍ من قلة الحساسية وعدم الاكتراث. ومن أمثلة ذلك، حديث وزير التجارة المصري الذي سبق أن أوردناه وهو يباهي العالم بجودة المنتجات السودانية، التي تُصَدِّرُها مصر نيابةً عن السودان!!
وفيما يتعلق بقلة حساسية المصريين وهم يخوضون في أمور السودان تذهب الأمور إلى ما هو أسوأ من حديث وزير التجارة المصري، لتصل إلى دركٍ سحيقٍ من الوقاحة والصفاقة. ومن أبرز أمثلة ذلك ما لا ينفك يردده توفيق عكاشة، وغيره من جهلاء المصريين، من أن السودان مستعمرةٌ مصريةٌ ينبغي أن تُستعاد. إلى جانب ذلك، نشط كثيرون من رجال ونساء المخابرات المصرية، منذ نشوب الحرب الحالية، في وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحوا يطلُّون علينا كل ساعةٍ وأخرى من خلال تطبيق "تيك توك"، منخرطين تارة في هجاء السودانيين، وتارة في مدحهم، وتارة أخرى في تدريسهم ما ينبغي عليهم أن يفعلوا أو يدعوا. وهو ما يعكس نزعةً وصائيةً أبويةً، أقحمت نفسها بنفسها في شؤوننا، لاعبةً دورًا أشبه ما يكون بدور وليِّ الأمر الحريص على مصلحة أحد أفراد ذريته القُصَّر.
كيف صَبَّ فشلُنا وإفشالنا في صالح مصر؟
لقد كانت مجمل حقبة ما بعد الاستقلال في السودان، التي بلغت حتى الآن 69 عامًا، حقبةً فاشلةً من جميع الوجوه. وقد بلغت في الفشل الأوج في العقود الثلاثة والنصف التي حكم فيها البلاد هذا التنظيم الإخواني. وما الحرب الأخيرة التي أشعلها هذا التنظيم، لكي يعود إلى السلطة من جديد، وتسبيبه هذه النكبة الشاملة التي لم تشهدها البلاد مثيلاً لها في كل تاريخها الطويل، سوى الخلاصة الأخيرة لهذا الفشل. لكن، للأنظمة المصرية المتعاقبة إسهامها الكبير في إفشال الدولة السودانية، عبر تشجيعها ودعمها للانقلابات العسكرية في السودان، وعبر الانخراط المستمر في هندسة الحياة السياسية السودانية. ويجري هذا عبر وضعها العسكريين السودانيين والقوى الأمنية في قبضتها. وكذلك في جر العديد من القوى السياسية السودانية، بمختلف الطرق، لكي تتبنى أجندتها. فقد استعمر المصريون بلادنا بجيوشهم مرتين، وحين خرجوا تركوا بيننا نخبًا مُسْتَعْمَرةً عقليًا ووجدانيًا ومستتبعةً بمصالحها لمصر، ما مكن لها فرص السيطرة الناعمة على مجريات الأمور في بلادنا.
آخر جهود مصر في منع السودان من العودة إلى الحكم الديمقراطي، هو ما جرى منها عقب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير. فمصر لم تتوقف، منذ بداية الفترة الانتقالية عقب الإطاحة بعمر البشير، من التدخل السياسي والعسكري والاقتصادي في الشأن السوداني. وقد نشرت صحيفة لوموند الفرنسية مقالًا يقول كاتبه جان فيليب ريميه، إنه يرى أن الانقلاب الذي قاده الفريق البرهان في السودان قد كان انتصارًا لمصر. ويقول: إن الفريق البرهان ذهب إلى مصر لإبلاغ الرئيس عبد الفتاح السيسي عن خططه، أو، لأخذ أوامره، قبل الإطاحة بالسلطة الانتقالية. (راجع: "صحيفة لوموند"، على الرابط: https://shorturl.at/UoWn6). وذكرت "لوموند"، أيضًا، أن مصر أرادت، بعد أن تلقت في ذلك دعمًا من دول الخليج، أن ترى الجيش السوداني وهو ينهي المغامرة المدنية للانتقال الديمقراطي في السودان.
كيف أصبحت مصر وطنًا بديلاً
تزامن تدهور الأحوال الاقتصادية ومن ثم المعيشية في السودان في حقبة حكم الرئيس جعفؤ نميري (1969 – 1985)، مع حدوث الطفرةَ النفطيةَ الكبيرةَ في دول الخليج العربية. وقد مثَّل النصف الثاني من عقد السبعينات بداية سوء الأحوال المعيشية في السودان وتفشِّي الفقر في الطبقة الوسطى. فبسبب التدهور الاقتصادي وتراجع قيمة الجنيه السوداني وتزايد الضغوط المعيشية، بدأ المهنيون السودانيون في الهجرة إلى دول الخليج طلبًا للعمل. وبدأ، من ثم، نزيف العقول السودانية. وتفاقمت، من ثم كارثة التجريف الكبرى للطبقة الوسطى السودانية. أدَّت الهجرة إلى دول الخليج النفطية إلى تحسُّن الأحوال الاقتصادية للمهاجرين السودانيين. فأخذوا يعينون أهلهم ماليًّا في الداخل. كما شرعوا في شراء الأراضي وفي تشييد المساكن الحديثة. غير أن شعورهم بعدم استقرار البلاد كان حاضرًا في أذهانهم على الدوام. فالغلاء في السودان يتفاقم وفق متوالية هندسية جعلت الفارق بين كلفة المعيشة في السودان ونظيرتها في مصر، كبيراً للغاية. وبما أن السودانيين مسموحٌ لهم بالتملك في مصر، فقد شرع كثيرون منهم، نتيجة للغلاء الطاحن في السودان، في شراء العقارات هناك. وعمومًا فإن الروابط التاريخية والتأثير التعليمي والإعلامي والثقافي والسهولة النسبية في التنقل بين البلدين قد جعلت مصر هي الوطن البديل في مخيلة كثيرٍ من السودانيين. وقد قادت الهجرة الملحمية التي قام بها إلى مصر بضع ملايين من السودانيين قبل بداية الحرب، وما يقارب المليون بعد اشتعال الحرب، إلى رسوخ فكرة أن مصر هي الوطن البديل وسط قطاعٍ كبيرٍ من السودانيين.
ظاهرة النزوح إلى مصر
بسبب تدهور الأحوال العامة في السودان ومن ضمنها أحوال المشافي، أصبحت كثيرٌ من الأسر السودانية المقيمة في الخليج تطلب من مرضاها في السودان القدوم إلى مصر للعلاج، حيث يجتمع شمل الأسرة في القاهرة مع أبنائها الذين يعملون في الخليج، أو في الدول الغربية. ففي العقود الأربع الأخيرة ازدادت أعداد السودانيين القادمين إلى مصر عبر مطار القاهرة وعبر معابر قسطل وإشكيت وميناء السد العالي النهري، وغيرها من المنافذ بصورة كبيرةٍ جدا. فمنذ وصول نظام الإنقاذ إلى الحكم في السودان في عام 1989، ازدادت معدلات تردد السودانيين على مصر، وازدادت، من ثم، معدلات تدفق العملة الصعبة التي يجلبها السودانيون العاملون في الخارج إلى هناك. لقد أصبحت زيارات السودانيين مصدرًا من مصادر الدخل الكبيرة للدولة المصرية. وحين تذكر السلطات المصرية أثر السياحة الخليجية أو الأوربية كنشاط رافد للاقتصاد المصري، فإنها تتجاهل دور السياحة السودانية؛ من علاجية وغير علاجية، وما تدره هذه السياحة، التي لا تضاهي حجمها أي سياحة أخرى، على الخزينة المصرية من عملات أجنبية. فمصر تحرص على ألا يُنسب للسودان أي فضلٍ عليها، مهما كان، وأن ينحصر الأمر في ذكر أفضالها هي على السودان، التي لا يمكن أن تقارن بأي حال بأفضال السودان عليها. فأفضال السودان على مصر لا تعد ولا تحصى، في حين أن أضرار مصر بالسودان لا تعد ولا تحصى.
لقد أسهمت الأموال التي يجلبها السودانيون إلى مصر للعلاج في زيادة مداخيل المشافي المصرية الخاصة. كما أنعشت وبصورة بالغة الضخامة سوق العقار المصري عبر امتلاك واستئجار السودانيين للشقق. ويكفي أن نذكر ما يقوله المصريون أنفسهم، عن ضخامة استثمار السودانيين في قطاع العقار في مصر. فقد كشف الخبير العقاري المهندس محمد صلاح عن زيادة حجم الاستثمارات العقارية للسودانيين في مصر، قائلاً إنها قد تتجاوز ال 40 مليار دولار، بما يعادل مبيعات الشركات العقارية تحت الإنشاء، والوحدات العقارية الجاهزة؛ السكنية منها والتجارية والصناعية. (راجع: موقع "سودان نيوز"، على الرابط: https://shorturl.at/mD6zy). أما المهندس، فتح الله فوزي فيقول إنها تبلغ 20 مليارا. (راجع: برنامج "القاهر والناس" على تطبيق يوتيوب، على الرابط: https://shorturl.at/NgC9g). وكلا الرقمين، على الاختلاف الكبير بينهما، كبيرين جدًا.
إلى جانب ذلك، هناك انعاش هذه الأعداد الضخمة من السودانيين لأسواق البضائع في القاهرة. لقد تسبب فساد الكيزان في فترة حكمهم في حدوث ارتفاع خرافي في أسعار الأراضي والعقارات في السودان إلى الحد الذي أصبح فيه سعر منزلٍ أو شقةٍ متوسطةٍ في السودان يكفي لشراء شقة وربما شقتين بمواصفاتٍ مماثلةٍ في القاهرة. بهذا يمكن للسوداني أن يشتري شقةً في القاهرة للسكن، ويقوم بإيجار الشقة الأخرى لمستأجرين، لمقابلة كلفة المعيشة. كما أن ما يكفي للمعيشة في الخرطوم لمدة شهر، يمكن أن يغطي المعيشة في القاهرة لشهرين أو ثلاثة. باختصار، أصبح عيش السودانيين في مصر أرخص بالنسبة لهم من عيشهم في السودان. ويأتي إلى جانب ذلك من المزايا، العيش في مدينةٍ حديثةٍ بها روح المدينة. إلى جانب، حلاوة العيش وطلاوته وثبات الخدمات من مياه وكهرباء وتلفون وانترنت، وشبكة مواصلاتٍ كفؤةٍ زهيد التكلفة، مقابل عسر وتقطُّع وغلاء في كل تلك الخدمات في السودان.
إلى جانب ما تقدم، أصبحت مصر وجهةً لبعض المعاشيين السودانيين العاملين في الخليج وفي الدول الغربية. فراتب التقاعد الذي يجعلك تعيش على حافة الفقر في الدول الغربية يوفر للسوداني في مصر معيشةً مريحةً في مصر. كل هذه الأموال جعلها فشل النخب السياسية السودانية في إدارة السودان تذهب إلى مصر. وقد كان من الممكن أن تصب في بناء السودان وتنميته وتقوية اقتصاده. لكن السياسات الخرقاء خاصة التي انتهجها الإخواني تجاه المغتربين، نفرَّت السودانيين من بلدهم وجعلتهم يتجهون إلى مصر.
(يتواصل)
elnourh@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مشروع الجزیرة من السودانیین فی السودان من السودان دول الخلیج فی القاهرة إلى جانب إلى مصر قد کان فی مصر التی ت
إقرأ أيضاً:
مرور عامان: تقرير خاص عن الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، غرق السودان في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث. ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين 24,000 شخص حتى الآن، مع نزوح أكثر من 5.7 ملايين شخص داخليًا وخارجيًا (الأمم المتحدة - نوفمبر 2024). ولم يقتصر عدد الضحايا
خاص – سودانايل
مقدمة
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، غرق السودان في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث. ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين 24,000 شخص حتى الآن، مع نزوح أكثر من 5.7 ملايين شخص داخليًا وخارجيًا (الأمم المتحدة - نوفمبر 2024). ولم يقتصر عدد الضحايا على القتل الناتج عن تبادل النيران العشوائية، بل تصاعدت الانتهاكات في الآونة الأخيرة لتشمل القتل العمد، واستهداف الأفراد على أساس قبلي وهوياتي، وهو ما يزيد من تعقيد النزاع وتأجيجه.
انتهاكات جسيمة تستهدف الهوية
تشير تقارير حقوقية، منها ما صدر عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى أن عمليات القتل العمد بحق المدنيين والأسرى تستند غالبًا إلى خلفياتهم الإثنية أو القبلية، مما يُنذر بتفاقم الانقسامات العرقية وتعميق جراح المجتمع السوداني. وذكرت منظمة العفو الدولية أن عددًا كبيرًا من حوادث القتل موثقة على أنها جرائم حرب، حيث تُرتكب دون أي مراعاة للقوانين الدولية الإنسانية (العفو الدولية - ديسمبر 2024).
أبعاد الكارثة الإنسانية
يتجاوز النزاع القتل المباشر ليشمل تداعيات إنسانية كارثية. ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، يعاني أكثر من 20 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في السودان، مع تحذيرات من مجاعة واسعة النطاق إذا استمرت الحرب دون تدخل دولي فاعل (برنامج الأغذية العالمي - نوفمبر 2024). وفي الوقت نفسه، وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) حالات اغتصاب وعنف جنسي متزايدة، مع تسجيل أكثر من 200 حالة مؤكدة في المناطق المتأثرة بالنزاع منذ بداية الصراع.
انتهاكات قوات الدعم السريع واستهداف المدنيين على أسس عرقية وقبلية
على الجانب الآخر من النزاع، ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، اتسمت بالقتل الممنهج والاستهداف المباشر على أسس عرقية وقبلية وجنسية. ووفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، فإن قوات الدعم السريع استهدفت بشكل منهجي مجموعات سكانية تنتمي إلى قبائل محددة، حيث تم توثيق عمليات قتل واغتصاب ونهب في المناطق التي تسيطر عليها هذه القوات (العفو الدولية، نوفمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، ديسمبر 2024).
استهداف النساء والفتيات
تشير تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات قد أصبح سلاحًا حربياً تستخدمه قوات الدعم السريع لترهيب المجتمعات المحلية وإجبارها على النزوح. وتم توثيق أكثر من 200 حالة اغتصاب في المناطق التي سيطرت عليها القوات، مع توثيق شهادات مباشرة من الناجيات تؤكد أن هذه الجرائم كانت موجهة ضد فئات عرقية معينة. (UNFPA، ديسمبر 2024)
استهداف القرى والأحياء السكنية
في المناطق الريفية تحديدًا، قامت قوات الدعم السريع بحملات عنف شديدة استهدفت القرى التابعة لقبائل معينة، حيث تم تدمير المنازل ونهب الممتلكات وقتل المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. وفي بعض الحالات، تم إجبار الناجين على النزوح تحت تهديد السلاح، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وارتفاع أعداد النازحين داخليًا إلى أكثر من 5.7 ملايين شخص (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA، نوفمبر 2024)
انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني بعد دخول الجيش السوداني
في أعقاب دخول الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة الأسبوع الماضي، تواترت تقارير عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق المدنيين. وأفادت منظمة العفو الدولية باندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في ود مدني، مما أثار مخاوف جديدة على سلامة المدنيين (العفو الدولية، ديسمبر 2024).
من جانبه، أعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه البالغ إزاء التقارير المتعددة التي تفيد بوقوع تجاوزات واسعة النطاق وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني خلال الأيام الأخيرة من القتال. وأشار إلى أن الحالة الإنسانية في ولاية الجزيرة، التي تستضيف ما يقرب من نصف مليون نازح داخليًا، "رهيبة ومروّعة" (مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ديسمبر 2024).
في هذا السياق، ندد الجيش السوداني بما وصفه بـ "التجاوزات الفردية" التي حدثت في بعض مناطق ولاية الجزيرة عقب استعادة مدينة ود مدني، مؤكدًا التزامه بالقانون الدولي الإنساني وحرصه على محاسبة كل من يثبت تورطه في أي تجاوزات (الجزيرة نت، يناير 2025).
هذه التطورات تسلط الضوء على التحديات المستمرة التي تواجه المدنيين في مناطق النزاع، وتؤكد الحاجة الملحة لحماية حقوق الإنسان وضمان المساءلة عن أي انتهاكات تُرتكب.
أدوار الكتائب والمليشيات المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني المنحل
تشير التقارير الميدانية إلى أن العديد من هذه الانتهاكات تُرتكب على يد كتائب ومليشيات مسلحة، في الغالب ذات توجهات إسلامية أو تدّعي تبنيها لقيم الإسلام، مع انتمائها إلى قيادات الحزب الحاكم المحلول، حزب المؤتمر الوطني. من بين هذه الكتائب، تبرز كتائب البراء المعروفة، التي تنشط في مناطق النزاع وتتحمل مسؤولية انتهاكات جسيمة ضد المدنيين. تعمل هذه الكتائب غالبًا تحت مظلة دعم بعض قادة الجيش السوداني أو على الأقل تحت مرأى ومسمع من القيادات العسكرية دون اتخاذ إجراءات واضحة لردعها أو محاسبتها. وقد أعربت منظمات حقوقية دولية عن قلقها من أن هذه الكتائب، واللتي تسهم في تأجيج النزاع عبر ممارساتها التي تنتهك حقوق الإنسان، وتفاقم الانقسامات العرقية والسياسية في البلاد (العفو الدولية، ديسمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، نوفمبر 2024).
توثيق الانتهاكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي
في سياق توثيق هذه الجرائم، نشر عشرات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر بوضوح انتهاكات جسيمة تُنسب إلى كتائب البراء وغيرها من المليشيات المشابهة. تُظهر هذه الفيديوهات عمليات قتل متعمد وتعذيب للمدنيين ونهب للممتلكات في المناطق التي شهدت نزاعًا مسلحًا. وقد أثارت هذه المقاطع موجة من الإدانات الدولية والمحلية، حيث تمثل دليلًا مباشرًا على الانتهاكات التي تُرتكب بجرأة وعلانية. ورغم ذلك، لا تزال هذه الجرائم تُرتكب دون محاسبة جدية أو تدخل دولي فاعل لوقف هذه الممارسات التي تهدد الأمن والاستقرار في السودان.
القتل العرقي وتداعياته على السودان
تقوم هذه الجرائم على أساس القتل العرقي والممنهج، مما يشير إلى نقل الحرب إلى مربعات جهوية وعرقية وإثنية خطيرة. وما حدث مؤخرًا في ولاية الجزيرة يمثل دليلًا موثقًا لهذه الانتهاكات، حيث تعرضت مجموعات معينة للاستهداف على أسس إثنية واضحة. هذا التصعيد يهدد بنقل البلاد إلى مرحلة الحرب العرقية، وهي مرحلة قد تطول نتيجة التعدد القبلي الكبير والتنوع الثقافي في السودان.
في ظل هذه الظروف، فإن عدم تدخل السلطات بشكل حاسم يُعد إشارة ضمنية إلى مباركة هذه الجرائم، خاصة في ظل الصمت أو التأييد غير المباشر من رئاسة الدولة ممثلة في مجلس السيادة الانتقالي. هذا الوضع يضع السودان أمام سيناريوهات خطيرة، حيث تتعمق الانقسامات العرقية وتُزرع بذور حروب أهلية طويلة الأمد، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف الانتهاكات ومعالجة جذور الصراع.
مسؤولية القيادات وتفاقم الانقسامات
تعتمد قوات الدعم السريع في عملياتها على قيادات ميدانية تنتمي إلى شبكات قبلية متداخلة، ما يجعل من الصعب فصل الممارسات الفردية عن التوجهات العامة التي تُنفذ بتوجيه أو بغطاء ضمني من القيادة العليا. وقد أدت هذه الانتهاكات إلى زيادة الانقسامات العرقية وتأجيج الصراعات داخل المجتمعات المحلية، مما يُنذر بتفكك النسيج الاجتماعي في السودان.
تداعيات مستمرة وخطر الحرب الممتدة
إن استمرار هذه الممارسات من قبل قوات الدعم السريع، إلى جانب الانتهاكات الموثقة التي ترتكبها القوات المسلحة السودانية والمليشيات المتحالفة معها، يعمّق الانقسامات العرقية والقبلية في البلاد. ومع غياب أي مساءلة دولية أو محلية جادة، تتزايد المخاوف من أن تتحول هذه الحرب إلى صراعات طويلة الأمد على أسس عرقية، مما يجعل التوصل إلى أي حل سياسي شامل أكثر تعقيدًا.
تصاعد الضغوط الدولية: عقوبات أمريكية تطال حميدتي والبرهان
في تطور لافت، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، في 7 يناير 2025، متهمة إياه بارتكاب جرائم إبادة جماعية خلال الصراع المسلح مع الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من السودانيين (فرانس 24، 7 يناير 2025).
وفي 16 يناير 2025، أعلنت الحكومة السودانية رفضها للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، معتبرة إياها استخفافًا بالشعب السوداني (سودان تربيون، 16 يناير 2025).
هذه الإجراءات تعكس تصاعد الضغوط الدولية على القيادات العسكرية السودانية بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في البلاد.
دور الإعلام في مواجهة الحرب ومخاطر الانزلاق العرقي
في خضم الأزمة السودانية المتفاقمة، يلعب الإعلام دورًا محوريًا في توجيه الرأي العام نحو نبذ خطاب الكراهية ومواجهة الانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتنازعة. تقع على عاتق الإعلاميين والصحفيين مسؤولية كبيرة في تسليط الضوء على هذه الجرائم، وتحديدًا الانتهاكات ذات الطابع العرقي أو القبلي، والتي قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع السوداني وإشعال فتيل حرب لا تبقي ولا تذر.
مناشدات للإعلاميين والنشطاء
يجب على الإعلاميين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الناشطين المؤثرين الذين يمتلكون أعدادًا كبيرة من المتابعين، الالتزام بخطاب يدعو إلى التهدئة وتجنب تأجيج الصراعات القبلية. هؤلاء الناشطون، بمنصاتهم الواسعة الانتشار، لديهم القدرة على تغيير مسار الخطاب العام من التحريض إلى تعزيز قيم التعايش السلمي ونبذ العنف.
دور الصحفيين ووسائل الإعلام
من جهة أخرى، يجب على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، سواء عبر الصحف الإلكترونية أو القنوات الإعلامية التقليدية، الإقليمية منها، والدولية التطرق إلى هذه الانتهاكات بموضوعية ومصداقية. على الإعلام أن يكشف الحقيقة ويوثق الجرائم التي تُرتكب، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية لهذه الكارثة. يجب أن يكون الإعلام صوتًا للضحايا، وأداة للضغط على الأطراف المتنازعة والمجتمع الدولي للعمل على وقف هذه الحرب.
حماية النسيج الاجتماعي
الإعلام مسؤول أيضًا عن التذكير بأهمية حماية النسيج الاجتماعي للسودان، وضرورة عدم السماح بتحويل النزاع إلى صراع قائم على العرق أو الجنس أو القبيلة. عليه أن يواجه محاولات بعض الأطراف التي تسعى لتأجيج الفتنة القبلية لتحقيق مكاسب قصيرة المدى على حساب وحدة السودان ومستقبله.
هذا الدور الإعلامي الحساس يجعل من الصحفيين والإعلاميين شركاء أساسيين في مجابهة هذه الحرب اللعينة، ومنعها من التدهور إلى صراعات قبلية طويلة الأمد، قد تستنزف السودان لعقود قادمة.
الخاتمة
في ظل هذه الأزمات المتفاقمة، يتطلب الوضع في السودان تحركًا جماعيًا من كافة الأطراف، بدءًا من القيادات السياسية والعسكرية إلى المجتمع المدني والإعلام. لا يمكن للسودان أن يتحمل استمرار هذا النزاع الذي يهدد مستقبل أجياله ويُدمر نسيجه الاجتماعي. إن الحل الوحيد يكمن في وقف فوري لإطلاق النار، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، والالتزام بتسوية سياسية شاملة تضمن تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان.
على الإعلام، كسلطة رابعة، أن يستمر في نقل الحقيقة بموضوعية وشجاعة، وأن يكون صوتًا للضحايا ومنبرًا للمصالحة الوطنية. فلا يمكن تحقيق السلام دون مواجهة حقيقية للجرائم والتحديات، ودون خطاب إعلامي يوحد السودانيين بدلًا من تقسيمهم.
فهرس المراجع
العفو الدولية: تقرير حول انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، ديسمبر 2024
هيومن رايتس ووتش: تقارير موثقة عن الانتهاكات الجسيمة من قبل الأطراف المتنازعة، نوفمبر وديسمبر 2024
مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA): تقارير حول أعداد الضحايا والنازحين، 2024
صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA): تقرير عن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في مناطق النزاع، ديسمبر 2024
برنامج الأغذية العالمي: تقرير عن أزمة انعدام الأمن الغذائي في السودان، نوفمبر 2024
فرانس 24: إعلان العقوبات الأمريكية على قائد قوات الدعم السريع، 7 يناير 2025
سودان تربيون: تقرير حول العقوبات الأمريكية على عبد الفتاح البرهان، 16 يناير 2025
مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: تقارير النزوح الداخلي والخارجي في السودان، 2024
تصريحات مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك: حول الانتهاكات في ولاية الجزيرة، ديسمبر 2024
الجزيرة نت: تغطية للتصريحات والتطورات السياسية في السودان، يناير 2025