علي أيام الطلب في سبعينات القرن الماضي وحتي ثمانياته في فترة الدراسات العليا، وفي أعقاب حركة التحرر الوطني جمعتنا الدراسة مع مجموعة من الطلاب من بلدان مختلفة أفريقية وآسيوية ولاتينية أو فيما كان يطلق عليها آنذاك بلدان العالم الثالث. كانت نظرتنا كمجموعة من الطلاب السودانيين الي زملائنا الطلبة الآخرين لا تخلو من نظرة دنيوية للطلبة الآسيويين واللاتينيين أما بالنسبة للأفارقة فكانت النظر اليهم نظرة أستعلائية أقرب الي الأسترقاق ، كما تم وصفنا للعرب بالأجلاف تلطفاً بهم .
هذا ما كان عليه الحال قبل أن تأتي هذه الحرب التي وقعت علي رؤوسنا وفضحتنا وعرتنا بالكامل حتي أصبحنا نتواري خجلاً أمام سودانيتنا. أصبحنا نتسول ونبيت في الطرقات ونمد يدنا للمارة ونقتل ونغتصب ونبقر بطون الحوامل ونأكل أحشاء المقتول ونتسلي ونلعب بجماجم الضحايا في تراجيديا همجية لم يعرف فيها المقتول من قاتله والقاتل لم يتشرف بمعرفة المقتول مع أن الكل يتبع الشريعة المحمدية التي حرمت قتل النفس المؤمنة . حامل جواز السفر السوداني أصبح لا يسمح له بالدخول حتي في أسرائيل.
في هذا الشهر زرت دولة كولومبيا (ست الأسم) بأمريكا اللاتينية وليس تلك التي تم فض أعتصام القيادة العامة بذريعة أسمها علي يد المجرمين القتلة عبدالفتاح البرهان وحميدتي وكباشي ولجنة البشير الأمنية ، بعد زيارات شملت بلدان عربية وأخري في دول الكاربي . أصبح بحكم العادة ، كلما أزور بلدٍ وأثناء تواجدي به أندب حظي علي هذه الزيارة ويرجع السبب الأساسي في ذلك لمقارنة وضعها بحالنا في السودان . هذه الرحلات أفقدتني طعم المشاهدة والمذاق ورؤية جمال المدن والشوارع وحدائقها رغم فوائد السفر السبعة في رأي الأمام الشافعي "تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد" . الملاحظة الأولي في كولومبيا ومدنها السياحية ، رغم دخلوها في حرب أهلية لفترة تزيد عن خمسين عاماً والتي سنتطرق لها في مقال مُفصل الأ أنك حينما تتجول في هذه المدن لا تشعر بأي فرق بينها والمدن الأوربية المختلفة ، لا فرق بينها وبين نيويورك وباريس وتورنتو. معرفتنا بكولومبيا شحيحة أو تكاد تكون معدومة ، كل الذي تلقيناه عنها أما عن طريق سمعتها في كارتيل المخدرات أو الحرب الأهلية التي دخلت فيها أو روايات الكاتب الكولومبي " غابريل غارسيكا ماركيز" الحائز علي جائزة نوبل للآداب وأخيراً بفضل المطربة شاكيرا التي ساعدت في التعريف بها أمد الله في عمرها.
زرنا عاصمة كولومبيا (بوقتا) التي سحرتنا بجمالها ومتاحفها الاثرية الشهيرة وباحاتها في وسط المدينة حيث يتم الرقص اللاتيني بجميع أنواعه ومنها كان خط السير الي مزارع البن الكولومبية في وادي أرمينيا حيث شاهدنا هذه المزارع علي مد البصر. كولومبيا تقع في المرتبة الثالثة عالمياً من حيث أنتاج البن ، تتفوق عليها البرازيل وفيتنام في المرتبة الثانية . في فترة الثمانينيات كان دخل المخدرات في كولومبيا يفوق صادرات البن الكولومبي . وبجانب أشجار البن تجد أشجار الخزيران أضافة الي أشجار الموز. شجرة الخزيران تشبه الي حد كبير شجرة قصب السكر الأ أنها تفوقها طولاً حيث يصل في بعض المناطق طولها الي ما يقارب الخمسين متراً ولها أهمية قصوي في كولومبيا حيث تدخل في البناء والصناعات اليدوية المختلفة. وتتم الأستفادة من كل أجزائها كما هو الحال عندنا في أشجار النخيل .
حقيقة هذا الشعور بالتحضر والنظام ينتابك في اللحظة التي تطأ فيها قدماك مطار بيقوتا العاصمة . أنتهي العهد الذي يقلك فيه البص من سلم الطائرة الي مدخل المطار . من باب الطائرة تجد نفسك أمام سلالم متحركة ويافطات واضحة تؤدي بالواصلين الي المكان الذي يجب عليهم الوقوف به لأستلام حقائبهم ومنها الي الجوازات هذا الترتيب معمول به في كل مطارات الدنيا الصغيرة والكبيرة الأ خرطومنا أستثناءً . الملاحظ أنك تجد المرأة تعمل جنباً الي جنب بجانب الرجل في كل الأعمال بالمطار من صيانة الطائرات الي أستقبالها في المدرجات الي الجوازات الي أدارة الأسواق الحرة وبيع المعروضات المحلية والمستوردة الي اللبس الأنيق والخدمات السريعة في البوفيهات وأروقة المطار المختلفة . لا تجد من يتحدث علي الهاتف ولا من يكون جالساً علي كرسيه حتي يأتي المشتري . الكل في حركة دائبة ، تحس فعلاً أنك في دولة متحضرة . أما بوفيهات الطعام المنتشرة علي أروقة المطار فحدث ولا حرج . علي الحال تذكرت مأكولاتنا السودانية التي يسيل لها لعاب السواح ، التقلية والنعمية التي يمكن أن يودع بها المسافر الأجنبي صالة مطار الخرطوم أذا تم تحضيرها وعرضها بطريقة تليق بمأكولات المطارات الدولية وفي طقس السودان الحار يحبذ أن تكون في صالات وبوفيهات الأسواق الحرة عصائر الكركدي ، والحلو مر ، والتبلدي . الشرط الأساسي أن تخضع هذه الأطعمة والمشروبات الي معاير جودة عالية . ولا غضاضة في أن يُعدل الحلو مر لكي يباع مجففاً أسوة بالبطاطس االذي يجد قبولاً منقطع النظير من المسافرين في كل بقاع العالم .
من الأشياء الملفته للنظر في هذه البلاد حتي أصبحت جزء من ثقافة المواطن ، وضع النفايات سواء في المطارات أو في أماكن السكن في براميل معده لهذا الغرض خصيصاً وبالتفاصيل . أحدها للأواني البلاستيكية والآخر للزجاجية والثالث للمخلافات الورقية . التوعية البيئة بدأت من رياض الأطفال وصولاً الي من هم في سن الشيخوخة . هذه المخلفات تخضع لأعادة تدوير لكي تتم الأستفادة الكلية منها، وكما هو معلوم فرز هذه المخلفات من بعضها عالي التكلفة لذا تقوم الدول بوضع براميل مختلفة لهذه المخلفات لتقليل تكاليف إعادة تصنيعها . لذا تجد هذه البراميل البلاستيكية في الشوارع والحدائق العامة وأمام المطاعم بأختصار في أي مكان يتوجب عليك أن تلقي فيه بمخلافات الطعام أو الشراب . الخرطوم حتي قبل الحرب تحولت الي مصب للنفايات المختلفة حتي أصبح المواطن يخاف أن يسير في شوارعها كي لا تطئ قدماه ما لا يحسب عقباه . أما الولاية الشمالية فتحولت الي مخزون للنفايات النووية . ومن نافلة القول أن نذكر أن كل هذه المدن التي كنا نصف أقطارها بالعالم الثالث بها شوارع مرصوصة ، مضاءة ، السرعة فيها محدودة ، أشارات المرور في كل مفترق طرق ، أشارات للعبور وطرق لراكبي الدرجات ، حدائق عامة مزدهرة ومجهزة لجلوس العائلات حولها ، كما توجد بها أماكن مخصصة لملاعب الأطفال . شرطة المرور ليس من مهامها تنظيم حركة المرور وأنما لمراقبة المخالفات ، حركة المرور تنظمها أشارات تعمل اليكترونياً . تجد بكولومبيا ودول أفريقية أخري أنفاقاً يمتد طولها الي عشرات الكيلومترات لتسهيل حركة المرور . عندما تشاهد كل هذه الإنجازات تلعن فيه اليوم الذي زرت فيه هذا القطر لانه ببساطة سيعري لك حقيقتنا التي تقع في ذيل قائمة الدول .
عاصمتنا الخرطوم مدينة تخلو من المتاحف والآثار، بأستثناء المتحف القومي (سابقاً) ومتحف التاريخ الطبيعي وبيت الخليفة والطابية . لا تجد أثراً لتاريخ بداية هذا القطر ، ولا أثراً للذين ناضلوا وضحوا من أجل أستقلاله ولا لنضال نسائه . قطر بكامله يخلو تماماً من أي تمثال وكأننا أمة بلا تاريخ . نحن لا نحترم ماضينا ولا حتي حاضرنا . جوامعنا التي يمكن أن نجعلها أماكن لزيارة السواح مع العبادة فيها بحالة يرثي لها . يكفي أن تزور دورة المياه بأحدي الجوامع حتي يصيبك الندم والغثيان من أنك زرتها للتعبد .
في هذه الزيارات لبلدان العالم المختلفة شاهدت أحياء قديمة وحتي بعض المدن وأسوارها التي كانت تحميها من المعتدي تحت حماية اليونسكو حيث يمنع فيها التعمير والبناء وتشييد المباني الجديدة ، ولو لا الدمار المتعمد الذي نتج من جراء هذه الحرب لطالبت القائمين علي أمر اليونسكو بجعل أحياء أمدرمان القديمة وسوقها الذي أصبح أنقاضاً تحت حماية اليونسكو .
في أثناء تواجدي بكارتجينا دي أندياس التي تعتبر المدينة الثالثة بكولومبيا ذهبنا الي مطعم لتناول وجبة . الملاحظ أن طاولات المطعم تخلو من دفتر قائمة الطعام وعلي كل طاولة (بار كود) وعن طريقة تلفون الزبون يتم عرض قائمة الطعام علي تلفونه ويأتي النادل الذي له المعرفة بأستعمال الهاتف النقال ليسجل طلبات الزبون حيث يتم الأتصال اليكترونياً بين النادل والمطبخ لتحضير الوجبة . النادل يعرف أن الطلبات تم تحضيرها عن طريق رسائل لهاتفه الجوال . وفي أثناء تناول الوجبة قامت فرقة موسيقية بعزف رقصة الفالس وتم أداؤها من قبل راقصين من الفرقة . لاحقاً علمت أن مصدر رقصة الفالس هي الأرجنتين . علي الحال تذكرت مطعم البربري بالمحطة الوسطي الخرطوم عندما يصيح الجرسون أربعة عدس ، أثنين كبده وواحد شيه وتلاته بلطي . أختفي مطعم البربري وأختفي الجرسون وحتي هذه الطلبات أختفت بسبب التتر الذين جاؤا في ليل بهيم ودمروا العاصمة بعضهم بالطيران والآخرين بالقذائف والدانات وسبقهم من أدعي أنه يريد تطبيق الشريعة الأسلامية بسن قوانين سبتمبر سيئت الصيت . أتي بعضهم بزي عسكري والآخرين بزي مدني الي قصر غردون ولم يقرأوا تاريخ هذا البلد ولا التضحيات التي قُدمت في سبيل أستقلاله ناهيك من المحافظة عليه ولا حديث عن تعميره . دمار في دمار في دمار . وحينها برز السؤال الي متي نستمر أن نعيش في القرون الوسطي ؟
أذا قدر الله أن وضعت هذه الحرب أوزارها يتوجب علي الذين بقوا علي قيد الحياة أن يجعلوا من هذا القطر بلداً يصلح للسياحة كبقية أقطار الدنيا وهذا يتطلب بنية تحتية جديدة . السائح للسودان الجديد يود أن يتعرف علي مشروع الجزيرة حيث الري الأنسيابي ويجد متعة في التجول في مزارع القطن وشرح كيفية زراعة القطن من أين أتت هذه الفكرة ومتي تمت أولي التجارب لزراعة هذا المحصول حتي يتم تصنيعه لبنطلون الجنز الذي يلبسه السائح . هكذا تم تعريفنا عندما زرنا حقول البن بأرمينيا الكولومبية . البرنامج السياحي يتضمن السفر الي جبل مره بعد أن يتم بناء مطار بالقرب منه . زيارة مدينة بورتسودان وبناء مصايف حول البحر الأحمر وتأهيل كادر مناسب من السباحين والغطاسين لمساعدة السائح في التعرف علي كنائز البحر الأحمر . والسياحة بالباخرة علي نهر النيل وتأهيل المدابغ وفتح أماكن بداخل هذه المصانع للمصنوعات الجلدية المختلفة لبيعها للسواح ،كما يشمل برنامج السياحة زيارة مصانع السكر وما حولها . أهرامات المصورات والبجراوية والبركل مناطق ذات قيمة سياحية عالية . سباق الخيل والأبل مع الرقصات الشعبية لهذه القوميات التي تقطن بهذه المناطق مع أضافة مأكولات بلدية كل هذه تعتبر مصادر للعملة الصعبة . بعض الدول صار دخلها من السياحة ينافس صادراتها والسودان ليس أستثناءً. شاهدت كيف تستغل الدول الشمس والقمر في الشروق والغروب وبيع مشاهدتها للسواح . هنالك إبل في بعض هذه الأقطار معدة لركوب السائح عليها لفترة تصل الي عشرين دقيقة بتكلفة خمسين دولاراً ويتسابق عليها السواح ويسبقها حجزاً مُبكراً.
هذه المقترحات التي يمكنها أن تجعل من السودان قطراً صالحاً للسكن والسياحة تتطلب في المقام الأول تفعيل شعار ثورة ديسمبر المجيدة ( العسكر للسكنات والجنجويد ينحل ) وثانياً قيام دولة تفصل بين السياسة والدين ( الدين لله والوطن للجيمع ) وثالثاً علي المتصارعين علي قتل الشعب وأذلاله أن يذهبا الي حيثما يريدان ويتركا لنا الأرض والنيل لتعمير وبناء الوطن .
حامد بشري
19 مارس 2025
hamedbushra6@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: الموقع الذي تعرض للقصف الإسرائيلي في غزة كان بمنطقة معزولة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قالت الأمم المتحدة، إنه يجب تجنيب الموظفين الأمميين الغارات الإسرائيلية، وذلك حسبما أوردته فضائية "القاهرة الإخبارية"، في نبأ عاجل لها.
وأضافت الأمم المتحدة، خلال تصريحات لها، أن الموقع الذي تعرض للقصف الإسرائيلي في غزة كان بمنطقة معزولة.