ردع الحوثي: خيار إستراتيجي نحو الاستقرار في الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT
"الجغرافيا هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية لأنها العامل الأكثر ديمومة" بهذه العبارات حدد الأميركي نيكولاس سبيكمان أستاذ العلاقات الدولية وأحد مؤسسي المدرسة الواقعية الكلاسيكية في السياسة الخارجية الأمريكية في كتابه الشهير "جغرافية السلام" الدور المحوري للجغرافيا في صناعة القرار العالمي حيث خلصت أبحاثه إلى أن فهم الجغرافيا وأهميتها يساعد بشكل كبير على فهم الديناميكيات التي تؤثر على الاستقرار والسلام في عالم يعج بالمخاطر والأزمات.
الهجوم الأمريكي على أهداف عسكرية تابعة لميليشيا الحوثي في اليمن لا يمكن فهمه إلا من خلال سعي الإدارة الأمريكية لتحريك الجغرافيا من أجل بناء الاستقرار وترسيخ السلام بوضع قواعد اشتباك إقليمية جديدة في الشرق الأوسط تستهدف أساسا تقليم أظافر إيران الإقليمية وتطهير خطوط الاتصال البحرية في مضيق باب المندب من سيطرة التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة، التي هددت بشكل مباشر الملاحة الدولية طوال عقود بشكل أثّر على التجارة الدولية والاقتصاد العالمي.
وحسب معطيات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية لسنة 2023 يعتبر باب المندب نقطة اختناق للنفط والغاز الطبيعي، حيث مثل 12% من تجارة النفط المنقولة بحراً و8% من تجارة الغاز الطبيعي المسال في النصف الأول من عام 2023، حيث أن متوسط تدفقات تجارة النفط عبر مضيق باب المندب انخفض إلى 4 ملايين برميل يومياً حتى أغسطس 2024، مقارنةً بـ8.7 مليون برميل يومياً عام 2023 حيث فضلت شركات النقل العالمية سلك طرق أطول وأكثر تكلفة حول أفريقيا.
وبشكل عام توجد ثمانية معابر عالمية لها أهمية بالغة في خطوط الملاحة الدولية وأمنها يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي واستقرار الأسواق المالية الدولية، أو ما يسمّى في الجغرافيا السياسية بنقاط الاختناق الإستراتيجية.
نصف هذه المعابر الثمانية العالمية منتشر خارج منطقة الشرق الأوسط، ويتركز النصف الآخر من هذه المعابر الحيوية في منطقة صغيرة نسبياً حيث يلتقي جنوب غرب آسيا بأوروبا وأفريقيا: مضيق البوسفور في تركيا، وقناة السويس في مصر، ومضيق باب المندب في البحر الأحمر، ومضيق هرمز في الخليج العربي. كما تُعد هذه المنطقة أهم مصدر للطاقة اللازمة لاستدامة النمو الاقتصادي العالمي.
ومن زاوية التحليل الجيوسياسي والجيواقتصادي، تعتبر هذه المعابر البحرية من أهم النقاط في تمرير النفط والغاز المسال من مراكز الإنتاج إلى مواقع الاستهلاك. ويمثل مضيق باب المندب نقطة جيوسياسية إستراتيجية ذات أهمية عسكرية واقتصادية كبيرة لمختلف المحاور الدولية والقوى الإقليمية بعبور حوالي 25000 قطعة بحرية سنوياً، أي بمعدل 75 قطعة يومياً، ويُعتبر المضيق ممراً حيوياً للتجارة العالمية، لاسيما في ما يتعلق بنقل النفط والغاز.
عسكرياً، يُعد المضيق نقطة مراقبة حيوية للقوى البحرية، حيث يُمكنها التحكم في مسارات الملاحة ومنع التهديدات المحتملة، يتداخل ذلك مع النزاعات الإقليمية والمخاطر المهددة للاستقرار، حيث تسعى مختلف القوى إلى تعزيز نفوذها وضمان أمن خطوط الإمداد ويتجلى ذلك في وجود أكثر من 19 قاعدة في المضيق، مما يزيد من تعقيد الديناميكيات الجيوسياسية، حيث يُعتبر المضيق محوراً للتجارة الدولية، إذ يؤثر على حركة السلع الأساسية بين القارات وأيّ اضطرابات في الملاحة قد تؤدي إلى آثار سلبية على الأمن الغذائي والطاقة للدول المتلقية، مما يبرز الحاجة إلى استقرار هذا الممر.
من الناحية الاقتصادية، تساهم الحركة الكثيفة للقطع البحرية عبر المضيق في تعزيز الاقتصاديات المحلية والإقليمية، حيث يجسد مضيق باب المندب تقاطعاً حيوياً للأبعاد العسكرية، الحيوية، والاقتصادية، مما يجعله محوراً رئيسياً في الديناميكيات الجيوسياسية العالمية.
فالعملية العسكرية الأمريكية بدأت بإطلاق الطائرات المهاجمة من حاملة الطائرات الأمريكية هاري ترومان وقد استخدمت طائرات F/A18 سوبر هورنت للتغطية الجوية ولمهمة الهجوم الفعلية ترافقها قاذفات قنابل موجهة لتغطية جميع مهام الحرب الإلكترونية والتشويش، وبالتالي فهذه العملية هي تجسيد عملي لإستراتيجية "مفهوم الولوج العملياتي المشترك” الذي وضعته القيادة العسكرية الأمريكية بهدف ضمان القدرة على ولوج القوات الأمريكية أيّ موقع أو مسرح نزاع، سواء على الأرض أو الجو أو الفضاء أو البحر أو في مجال الإنترنت، وضمان استمرارية وجودها فيه في مواجهة إستراتيجية “منع الوصول/منع دخول المنطقة" الذي تحاول إيران وأدواتها تنفيذها في مضيق باب المندب منذ عقود.
يمكن تعريف هذه الإستراتيجية العسكرية كمجموعة من القدرات المتداخلة عبر مجالات متعددة مثل الهواء والأرض والبحر والحرب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي والحروب السيبرانية، بهدف وحيد هو فرض أقصى قدر من الاستنزاف على قدرة القتال الحربية للولايات المتحدة وحلفائها في البحر الأحمر وبالتالي فقد وضعت القوات الأمريكية من خلال هجومها الأخير الإطار العملي لتطوير تصوّر شمولي لمجابهة التحديات التي قد تنجم عن تهديدات منع الولوج والمناطق المحرمة الإيرانية التي كانت إيران عبر الحرس الثوري وأدواته الإقليمية تحاول توسيع مجالها إلى مضيق جبل طارق أو عبر سفن التجسس الإيرانية المرابطة في المضيق كبهشاد وسافيز اللتين كانتا تقومان بالتجسس وجمع المعطيات لصالح الحوثيين بنقل المعلومات والإحداثيات وعمليات التتبع للسفن التجارية لتنفيذ عمليات القرصنة واستهداف وتعطيل الملاحة في المضيق.
عملياً رد جماعة أنصارالله المنتظر لن يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة في إطار قواعد الاشتباك الإقليمية التقليدية المتوافق عليها بين جميع الأطراف، فالحوثي في اليمن لا يمتلك القرار السيادي الوطني لتحريك ترسانته من الصواريخ الباليستية والمسيرات الإستراتيجية لاستهداف العمق الإسرائيلي أو القواعد الأمريكية في الخليج إلا بموافقة من غرفة العمليات المركزية للحرس الثوري في طهران، كما أن الإسناد العملياتي من باقي أدوات إيران في المنطقة هو أمر شبه مستحيل خاصة وأن الموقف الإيراني في الشرق الأوسط يعيش أصعب أيامه منذ الحرب الإيرانية – العراقية في ثمانينات القرن الماضي بسقوط النظام البعثي السوري وهزيمة حماس العسكرية في قطاع غزة وتحييد حسن نصرالله وكامل القيادة العسكرية العليا لحزب الله، لذا تصعيد الموقف العسكري في مضيق باب المندب الذي يشكل خاصرة الملاحة الدولية وضع لا تتفق عليه أغلب القوى الإقليمية الفاعلة، وتحويل البحر الأحمر إلى أحد مسارح المواجهة بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، أمر يقلق الخاسر الأكبر في الموضوع جمهورية مصر العربية التي تتكبد قناة السويس خسائر بالمليارات نتيجة تعطل وعرقلة الملاحة التجارية في القناة.
في الجانب المظلم من القصة هناك جانب أخلاقي يستوجب تحرك المجتمع الدولي، فميليشيا الحوثي وبأوامر مباشرة وتحت إشراف عبدالملك الحوثي ترتكب في المناطق الخاضعة لسيطرتها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان على شكل إعدامات ميدانية دون محاكمة واختطافات وعمليات قرصنة واحتجاز قسري لمئات الآلاف من اليمنيين خارج أيّ مراقبة للمنظومة الأممية لحقوق الإنسان.
وأكد الفريق الحقوقي اليمني خلال اللقاء المنعقد بالمفوضية السامية لحقوق الإنسان بمدينة جنيف على هامش الدورة الـ53 لمجلس حقوق الإنسان أن منظمات المجتمع المدني اليمنية رصدت ووثقت نحو 238 طفلاً جرى تجنيدهم بعد الاتفاقيات التي وقّعتها ميليشيات الحوثي مع الأمم المتحدة سنة 2018، كما أن الفريق الحقوقي اليمني أكد أن ما تقوم به الميليشيات الحوثية من زراعة الألغام والعبوات المفخخة بشكل ألعاب يصعب التعرف عليها وبأشكال أحجار وتشكيلات مموهة ليكون معظم ضحاياها من الأطفال.
والأكيد أن الشعب اليمني الذي يعاني جراء هذه الممارسات الخطيرة هو الضحية الحقيقية في هذه الأزمة باختطاف الدولة اليمنية ووضع مقدراتها في خدمة المشروع الإقليمي لنظام الولي الفقيه وتحويل الشعب اليمني إلى رهينة في يد الميليشيا دون وازع أخلاقي أو إنساني يشكل وجودها في أحد أهم خطوط التماس الجيوسياسي العالمي خطرا على الأمن الإقليمي والعالمي .
العملية العسكرية الأمريكية ضد الحوثي هي جزء من نهج شامل في مواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط، وردع الحوثي يتطلب وضع إستراتيجيات شاملة ومتعددة الأبعاد ورؤية شاملة تضمن الأمن والسلام لكل شعوب المنطقة وبناء إطار أمني إقليمي مستدام، فالأمن الإقليمي في مضيق باب المندب لا يمكن تحقيقه من خلال الإجراءات العسكرية وحدها، بل يحتاج إلى تكامل مختلف الجهود السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وينطلق ذلك بتقديم الدعم الإنساني والاقتصادي للشعب اليمني كخطوة أساسية نحو تعزيز الاستقرار تحت قيادة الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً والتي تسيطر على حوالي 60% من المساحة الجغرافية لليمن.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: وقف الأب رمضان 2025 عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل يوم زايد للعمل الإنساني غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية اليمن فی مضیق باب المندب فی الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
زيارة السيسي إلى قطر والكويت: دبلوماسية تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط
في توقيت بالغ الدقة، تأتي زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى دولتي قطر والكويت لتؤكد مجددًا أن القيادة السياسية المصرية تُجيد قراءة المتغيرات وتوظيفها ببراعة لصالح الدولة. لم تعد القاهرة مجرد طرف في معادلات المنطقة، بل أصبحت بوصلة يُعاد وفقها ترتيب الحسابات.
قبل سنوات، كانت قطر رأس حربة في مشروع تقسيم الشرق الأوسط عبر تمويل جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية. سارت حينها في فلك يخدم أجندات الفوضى الخلاقة، وسخّرت أدواتها الإعلامية لضرب استقرار الدول. لكن المعادلة تغيرت، وبفضل القيادة السياسية المصرية، نجحت القاهرة في تفكيك ذلك المشروع، وإعادة ضبط العلاقة مع قطر. اليوم، لم تعد الدوحة في موقع الخصومة، بل أصبحت شريكًا استراتيجيًا وأداة فاعلة ضمن مساعي إنهاء الحرب في غزة، في تنسيق مصري- قطري يعكس نضجًا سياسيًا يُحسب للطرفين.
أما الكويت، التي مرت علاقتها بمصر بمرحلة من البرود، فقد عادت إلى موقعها الطبيعي كداعم استراتيجي، بعدما تيقنت أن القاهرة هي الضامن الحقيقي للاستقرار. الزيارة الأخيرة فتحت أبواب التعاون، وجددت الثقة المتبادلة، وأعادت العلاقات إلى عمقها التاريخي.
ولا يمكن إغفال الأثر الكبير لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة، التي شكلت نقطة تحول في نظرة القوى الكبرى إلى مصر. ما شهدته تلك الزيارة من استقبال استثنائي وحوار سياسي عميق، قدّم صورة واضحة عن دولة باتت تتعامل بندية واحترام مع العالم. لقد أعادت هذه الزيارة ترتيب الكثير من الحسابات، وجعلت عواصم عدة تهرول إلى القاهرة لكسب هذا الحليف القوي، الذي يثبت يومًا بعد يوم أنه لا ينكسر ولا يساوم.
الملف الفلسطيني كان حاضرًا بقوة، لا سيما في ظل التصعيد الإسرائيلي في غزة. زيارة السيسي إلى قطر جاءت في إطار مبادرة مصرية حقيقية لوقف إطلاق النار وإنهاء الكارثة الإنسانية. التحول القطري في هذا الملف لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة لجهد مصري طويل أعاد توجيه بوصلة السياسات القطرية لتصبح جزءًا من الحل. مصر، بعلاقاتها التاريخية مع السلطة الفلسطينية والفصائل، تستثمر هذا الرصيد لتقود مسار التسوية في ظل صمت دولي وعجز أممي.
الجانب الاقتصادي حظي كذلك باهتمام كبير، إذ أعلنت قطر والكويت عزمهما ضخ استثمارات بمليارات الدولارات في السوق المصري، في قطاعات حيوية كالبنية التحتية، والطاقة، والسياحة، والعقارات. تلك الاستثمارات تمثل شهادة ثقة في الاقتصاد المصري، وفرصة لتعزيز النمو وخلق فرص عمل، في وقت تشهد فيه الأسواق العالمية اضطرابًا.
ما تحقق خلال هذه الجولة الدبلوماسية يؤكد براعة مصر في إدارة التوازنات السياسية والاقتصادية، ويُظهر قدرتها على التأثير الإقليمي الهادئ دون ضجيج. الرئيس السيسي لا يطرق الأبواب طلبًا للدعم، بل يفرض احترامه بسياسات رشيدة ومواقف ثابتة تستند إلى رؤية وطنية وشعبية صلبة.
بهذا النهج، انتقلت مصر من موقع الدفاع إلى موقع التأثير وصناعة القرار. دبلوماسية هادئة، لكنها تُغيّر موازين القوى، وتصنع واقعًا جديدًا عنوانه: مصر أولًا.. .والعرب أقوياء بوحدتهم.