المسألة اليهودية بين الحلين: النازي والصهيوني
تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT
ضاقت أوروبا ذرعاً بالوجود اليهودي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ضاقت إلى الحد الذي بات ينظر إلى هذا الوجود على أنه معضلة، معضلة حقيقية: دينية وسياسية واقتصادية وثقافية، معضلة تحتاج إلى حل، وكما تنوعت أوجه هذه المشكلة، تعددت الحلول، وخاض في المشكلة وفي الحل فلاسفة ومفكرون، سياسيون واقتصاديون، صحافيون وكتاب، وظهرت عناوين ونحتت مصطلحات من مثل: "المسألة اليهودية أو المشكلة اليهودية" و"معاداة السامية" و"الحل النهائي للمسألة اليهودية" و"الغيتو اليهودي" أو "الحي اليهودي" وصولاً إلى "معسكرات الاعتقالـ" و"الهولوكوست" و"الحل النازي" ثم فكرة "الوطن القومي لليهود "، و"الحل الصهيوني".
وخاض الكثير في طرق حل هذه المشكلة التي بدا أنها مشكلة أوروبية خالصة، إذ لم يكن الوجود اليهودي يعد مشكلة في البلدان العربية والإسلامية، ولا في الأندلس التي عانى اليهود بعد سقوطها من ويلات محاكم التفتيش الإسبانية، كما عانى المسلمون، وكانت الحلول متفاوتة ما بين التخلص من اليهود، بنفيهم داخلياً بالفصل العنصري بينهم وعامة المجتمع المسيحي، وعزلهم في "الحي اليهودي" الذي تحول إلى "غيتو" منعزل تماماً عن بقية المجتمع ثقافياً واجتماعياً وقانونياً وأمنيا، وتجسد حل آخر في النفي خارج الحدود، بنزع الجنسية عنهم، ورفض أوروبيتهم، واعتبارهم أجانب غرباء ووافدين على القارة، ومصدر شر وكيد ودسائس ومؤامرة، كما عكست ذلك أعمال كثير من الأدباء والكتاب والشعراء والفنانين، إلى أن ابتكرت "الصهيونية بشقيها المسيحي واليهودي" فكرة "الوطن القومي لليهود" وفي إطار هذا الحل طرحت العديد من الخيارات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والبلاد العربية، لإقامة هذا الوطن الذي كانت فكرته نابعة من الرغبة في التخلص من "المشكلة اليهودية" أكثر من كونها رغبة في إنصاف اليهود وتحقيق مصالحهم.
وقد ظل "الحل الصهيوني" يتكامل تدريجياً، في انتظار اللحظة التاريخية الحاسمة التي يعلن فيها عن ميلاد "الوطن القومي اليهودي" وتمثلت تلك اللحظة في سنوات "الهولوكوست" أو "الشواء" أو "المحرقة" التي كانت الحل النازي الذي وظفه "الحل الصهيوني" للمشكلة الفلسطينية، في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
كان الفيلسوف اللاهوتي الألماني برونو باور يرى أن اليهود مسؤولون عما جرى لهم من معاملة من طرف المجتمعات التي عاشوا فيها، وفي كتابه "المسألة اليهودية" رأى أن تحقيق اليهود لذاتهم السياسية يتطلب تخليهم عن الدين، وفي ذلك إشارة إلى أن المشكلة اليهودية هي مشكلة دينية، والمشكلة الدينية تتمثل في المعتقد، وهو المعتقد الذي اختصر اليهودية/الدين في اليهودية الجين، حيث بولغ في تقديس العرق على حساب الديانة، حتى أن الانتساب للديانة أصبح محصوراً في أولئك الذين يمتلكون النسب، وحتى أصبح هؤلاء الذين يمتلكون النسب هم "شعب الله المختار" وكانت تلك إحدى أهم المعضلات التي وقفت حجر عثرة أمام اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية وغيرها، حسب باور وغيره، حيث لم تكن منظومة "الغيتو" أو "الحي اليهودي" ناتجة عن أن المجتمعات التي عاش فيها اليهود مارست نوعاً من "العزل" عليهم وحسب، ولكن المعتقدات اليهودية أسهمت كذلك في عزل معتنقيها إلى حد كبير، إذ يسهم الشعور بالتميز في عزل "المتميزين" عن بقية شرائح المجتمع، حتى أنهم "جعلوا أعشاشهم في مسام المجتمع البرجوازي وفراغاته" منعزلين عن عموم الناس، حسب تعبير باور.
وفي حين يرجع باور عزلة اليهود إلى العوامل الدينية والثقافية، فإن كارل ماركس، في كتابه "نصوص حول المسألة اليهودية" يرجع ذلك إلى الرأسمالية التي رآها الأساس المادي لليهودية، وهو ما يعني أن العوامل الاقتصادية هي المؤثرة في هذه العزلة، وبما أن اليهود أصحاب مال فإن ذلك دفعهم لشيء من العزلة، كأي رأسمالي يريد أن يعيش بعيداً عن الآخرين، على طريقة ماركس في تغليب العوامل المادية على العوامل الروحية والثقافية في تفسير حركة التاريخ والمجتمع.
وأياً ما تكن أسباب العزلة فإنه مع العزل تخرج الانطباعات المغلوطة والتصورات المسبقة والصور النمطية التي غالباً ما تكون سلبية، ومع الصورة السلبية يحدث استهداف الأشخاص والمجتمعات، وأما إذا ابتليت الطوائف المنمطة بقيادات تعمل على تكريس هذه الصور عن مجتمعاتها فإن تلك القيادات تضع في يد من يريد استهداف تلك الشرائح أو الطوائف مبررات الاستهداف، وهذا ما حصل، عندما اتخذت النازية تصرفات "الرأسمالية اليهودية" مبرراً للجرائم البشعة التي نفذتها ضد اليهود، تماماً، كما يرتفع منسوب "معاداة السامية" حول العالم بسبب جرائم حكومة اليمين الإسرائيلي التي تربط بين الصهيونية واليهودية.
وإذ قيل ما قيل، فإن ما سبق قوله عن "المسألة اليهودية" أو "المشكلة اليهودية" أو "الحل النهائي للمشكلة اليهودية" كل ذلك كان شأناً أوروبياً، ولم يكن اليهود يوماً ما مشكلة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل كانوا مشكلة أوروبية، حتى أن "معاداة السامية" هي عنوان أوروبي وغربي، لا عربي ولا إسلامي.
يتحدث المؤرخ اليهودي الإسرائيلي البريطاني من أصل عراقي عن "تاريخ طويل من التسامح الديني والتعايش بين مختلف الأقليات" في البلدان العربية، ويشير في أحد لقاءاته المتلفزة إلى أن "التعايش المسلم اليهودي في البلدان العربية لم يكن عبارة عن فكرة مجردة، ولكنه كان واقعاً ملموساً، بشكل يومي".
ويستذكر حياته في بغداد، ويقول إن "العراق لم يكن لديه مشكلة يهودية، بل هي أوروبا التي كان لديها مشكلة يهودية، وإن اليهود في أوروبا كانوا هم (الآخر) المطلوب منه الوقوف بعيداً" وهو الذي يشير إلى أن "معاداة السامية كانت مرضاً أوروبياً" وأنها "ولدت في أوروبا، في العصور الوسطى…وتم تصديرها من أوروبا إلى الشرق الأوسط".
وبما أن "المشكلة اليهودية" لم تكن مشكلة عربية إسلامية، رأى الباحثون عن حلول أن "الحل النهائي" لهذه المشكلة يجب أن يكون في المناطق التي لم تولد فيها تلك المشكلة، وذلك بعد أن تم الاتفاق على أن "الحل الصهيوني" في إقامة "وطن قومي" هو الحل الأنسب أوروبياً، حيث اتفق طرفا الصهيونية المسيحية واليهودية على ذلك الحل، وتم الاتفاق لاحقاً على أن يكون هذا الوطن في فلسطين.
لكن، ومع مرور السنوات يتكشف لليهود قبل غيرهم أن "الحل الصهيوني" ليس الحل الأنسب، ذلك أن دولة إسرائيل كانت وليدة الحركة الصهيونية، والصهيونية ليست حركة تحرر وطني، كما روج لها زعماؤها، ولكنها امتداد للاستعمار الغربي، وكما رحل المستعمرون عن تلك الأرض، فإن كثيراً من المفكرين يتحدثون بشكل مستمر عن أن الاحتلال سيسقط، وأن المشروع الصهيوني برمته سينهار، وقد أثبتت الحرب الأخيرة على غزة هشاشة هذا المشروع، كما يرى الحبيب شوباني في كتابه "المسألة اليهودية في عصر الطوفان" حيث أثبتت هذه الحرب أن هذا المشروع برمته هو مشروع استعماري غربي، وأنه لم يكن ليستمر لولا الدعم الغربي الكبير لهذا المشروع الذي نجح في التدثر بعباءة اليهودية، الأمر الذي جعل "المشكلة اليهودية" أكثر التباساً، وحلها أكثر تعقيدا.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أوروبا الاحتلال غزة غزة أوروبا الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المسألة الیهودیة معاداة السامیة الحل الصهیونی لم یکن إلى أن
إقرأ أيضاً:
السلام هو الحل لليمن
علي بن مسعود المعشني
ali95312606@gmail.com
يأتي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وطاقمه اليوم ليُجَرِّب المُجرَّب ويُعيد إنتاج الفشل في اليمن، معتقدًا بأنَّ الحرب والقتل والدمار هو ما سيدفع "أنصار الله" إلى رفع الراية البيضاء وإعلان الاستسلام.
ترامب يمثل الشخصية الأمريكية التي تعتقد بأنَّ العالم بجغرافياته ملك لأمريكا ومرتع لها، بالقوة الخشنة أو بالقوة الناعمة؛ فترامب- كأي أمريكي- يؤمن بأنَّهم العالم الجديد والعالم النموذجي الأخير للبشرية، ونهاية أمريكا تعني نهاية العالم ونهاية التاريخ. الشخصية الأمريكية شخصية نشأت وتكوَّنت من المُهمَّشين في أوروبا، تشكل المجتمع الأمريكي من عقليات تُعاني جذورها ونشأتها الأولى من أعراض الاضطهاد والقمع والتهميش، وبالنتيجة قيام وتشكُّل مجتمعٍ ذي ثقافة عنف مُتجذِّر وعنصرية مُتجددة، لم يستطع تهذيبها علم ولا تطور ولا انفتاح على العالم. العقل الأمريكي ذو بُعد واحد، لهذا يؤمن بأنَّ كل من ليس معه فهو بالضرورة ضده، وكل من يعاديه أو يقاومه فهو بالضرورة إرهابي وفق "البورد" السياسي الأمريكي، وكل من لا يشبهه فهو بالضرورة "مُتخلِّف".
لهذا ولغيره من الأسباب، نجد الأمريكي يتصرف خارج قناعات البشر وتجاربهم ومفاهيمهم، لأنه يعتقد بأنه مُتفَرِّد ورسول العناية الإلهية بلا منازع!
ما يفعله ترامب اليوم من فتح جبهات حروب مجانية في وقت يمكنه كسبها بالقوة الناعمة، يوحي بأن الرجل مبعوث العناية الإلهية، ولكن لتفتيت بلده والعبث بمكتسباتها وتوسيع دائرة الأعداء وتقليص دائرة الحلفاء والأصدقاء.
فبعد أن استَنزَفت أمريكا طاقاتها وطاقات حلفائها الأوروبيين في تبني قضية خاسرة تمثلت في قضية الحرب في أوكرانيا، عقد ترامب صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتسوية ملف أوكرانيا وكأنَّ شيئًا لم يكُن، مقابل ضغطه على الرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي للتوقيع على التنازل عن ثروات بلاده لأمريكا كتعويضٍ عن الدعم الأمريكي طيلة سنوات الحرب. وبهذا الموقف طعن ترامب شركاءه وحلفاءه الأوربيين في الظهر، وأعلن الحرب عليهم؛ مما دفع الأوربيين إلى التشبث بأوكرانيا وزيلينسكي لتعويض شيء من خسائرهم، تلك الخسائر التي أوصلت بعض اقتصادات أوروبا إلى حافة الإفلاس.
حقيقة ما يجمع الأمريكي والأوروبي هو تحالف الضرورة وليس القواسم المشتركة كعادة قواعد التحالف من جغرافيا وتاريخ ومصير مشترك؛ فمشروع مارشال الأمريكي بعد الحرب الأوروبية (العالمية) الثانية لإعمار أوروبا، كان يعني في حقيقته ومراميه السيطرة الأمريكية المُطلقة على أوروبا، وهذا ما تحقق بالفعل.
كان حريٌّ بترامب السعي إلى إغلاق الملفات المُلتهبة بدءًا من أوكرانيا وصولًا إلى إيران ومرورًا باليمن ولبنان وسوريا وغزة؛ فهذه الملفات كفيلة بتحقيق الريادة والصدارة له ولاقتصاد بلاده ودولاره؛ بل وكفيلة بتعطيل أو إبطاء التكتلات الاقتصادية الناشئة والتي تُهدد عرش بلاده وعملته بالأفول.
وكما حدث لأمريكا جراء تدخلها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي جنت منه التموضُع المُريح في الشرق الأوسط، وتجفيف النفوذ الأوروبي إلى حد كبير. أمريكا والعالم اليوم يعانون من غياب الزعامات والساسة الحقيقيين؛ فبغياب الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر يمكن القول بغياب آخر الزعماء وآخر الساسة الحقيقيين لأمريكا، فقد تعاقب عليها ثُلة من المُقامرين وضحايا وأتباع اللُوبيات الثلاثة المعروفة: السلاح والنفط والمال.
ما يحتاجه اليمن اليوم هو الهجوم عليه بالسلام، هذا السلام الذي سيجعل من اليمن واليمنيين ينهمكون في ثقافة السلام والإعمار إلى النخاع ولسنوات طويلة، أما خيار الحرب على اليمن، فسيُعيد اليمنيين واليمن- وكعهدهم التاريخي- مقبرةً للغُزاة، وجمهوريين صباحًا وملكيين في الليل.
قبل اللقاء.. إذا نفذت قوة الأرض، تبقى قوة السماء هي الفصل، فأمريكا تُريد والله فعّال لما يُريد.
وبالشكر تدوم النعم.
رابط مختصر