نشأة العنصرية وتطورها
تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT
بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
"أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين"؛ بهذه الكلمات، أعلن إبليس أول تمرد في تاريخ الكون، مؤسِّسًا لمفهوم العنصريّة، أحد أخطر المفاهيم التي رسَخت في العقل الإنساني، وهو التمييز القائم على الشعور بالتفوق.
كانت هذه الفكرة البذرة الأولى للعنصرية، التي تطورت عبر العصور واتخذت أشكالًا مختلفة، متغلغلة في المجتمعات، ومدعومة أحيانًا بنظريات فلسفية وعلمية زائفة، لتتطور لاحقا إلى منظومة فكرية مترسخة، وتصبح وقودًا لأبشع الجرائم في التاريخ.
في القرن التاسع عشر، أسس العالم البريطاني تشارلز داروين، من دون قصد، لمرحلة جديدة من الفكر العنصري بكتابه "أصل الأنواع" الذين نشر عام 1859. ورغم أن نظريته كانت علمية في جوهرها، إلّا أن مفهوم "البقاء للأصلح" أُعيد تأويله من قبل أنصاره ليُستعمَل مُبررًا لتصنيف البشر على أساس عرقي. هذا التأويل الخطير شكّل القاعدة التي ارتكز عليها دعاة التفوق العرقي، وأسهم في إشعال حروب دامية وصراعات طويلة.
يرى المؤرخ البريطاني جيمس جول أن إيمان القادة الأوروبيين في تلك الفترة بالمبادئ الداروينية كان أحد المحركات الخفية للحروب الكبرى، إذ عززت هذه الفكرة قناعة بأن الأعراق "الأدنى" يجب أن تزول لصالح "الأقوى".
وليس أدل على ذلك من الأيديولوجية النازية، التي تبناها الزعيم الألماني أدولف هتلر في سياساته العنصرية؛ حيث أطلق عمليات الإبادة الجماعية ضد اليهود والسُلاف والغجر وغيرهم ممن اعتبرهم "غير لائقين بيولوجيًا"؛ حيث اعتقد هتلر أن العرق الآري هو الأكثر تفوقًا، وأن وجود أعراق أخرى يشكل تهديدًا لتقدمه وهيمنته، مما دفعه إلى وضع سياسات تهدف إلى "تطهير" ألمانيا وأوروبا من أي عنصر لا يتوافق مع تصوره للأُمة الألمانية المثالية.
هتلر لم يكن وحده من استند إلى هذه الفلسفات لتبرير سياساته العنصرية؛ فالحركة الصهيونية أيضًا تبنّت منطقًا مشابهًا في سعيها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد استندت إلى فكرة تفوق العرق اليهودي وحقه في الأرض على حساب السكان الأصليين، الذين رأت أنهم لا يستحقون البقاء.
ومنذ بدايات المشروع الصهيوني، صُوِّرَ الفلسطينيون على أنهم عائق أمام تقدم "الحضارة اليهودية"، واستُخدمت الخطابات العنصرية لنزع صفة الإنسانية عنهم، مما مهد الطريق لعمليات التطهير العرقي والتهجير القسري.
ويوضح المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" أن عمليات التهجير والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية عام 1948 كانت جزءًا من خطة مدروسة تهدف إلى إفراغ الأرض من سكانها الأصليين. وينقل بابي شهادةً لأحد الجنود الصهاينة الذين شاركوا في هذه المجازر؛ حيث قال إن القادة "أقنعونا أن العرب ليسوا بشرًا"، في تجسيد لعقليةٍ رسخت بين الجنود، سهّلت ارتكاب الفظائع ضد الفلسطينيين دون إحساس بالذنب أو التردد.
لكن، هل يمكن القول إن العنصرية الحديثة بدأت مع الداروينية؟
في الواقع، كان الفكر العنصري متجذرًا في أوروبا قبل ذلك بقرون. ففي القرن الثامن عشر، أعاد الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو إحياء مفهوم "طبيعة العبيد والأسياد" في كتابه "روح القوانين". وقد عبّر عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: "فلا نستطيع أن نفهم أن الله الذي هو خبير حكيم قد ركب نفسًا خيِّرة في جسم أسمر". وهو طرح قدَّم الحجج الفكرية لدعاة الاستعمار الأوروبي، ممهّدًا لحقبة جديدة من التوسع الإمبريالي.
أما الكنيسة المسيحية، التي كان يُفترض أن تكون حامية للقيم الإنسانية، فقد انشغلت طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر بالجدل حول ما إذا كان الأفارقة والسكان الأصليون للعالم الجديد يمتلكون أرواحًا، أي إن كانوا بشرًا أم مجرد كائنات دونية. وانقسم رجال الدين بين من يرى في هؤلاء الشعوب بشرًا كاملي الإنسانية، ومن يعتقد أنهم خُلِقوا للخدمة والعمل دون حقوق طبيعية. وظلت هذه التساؤلات تُغذِّي شرعية الاستعباد والتمييز، مما وفر غطاءً دينيًا للجرائم التي ارتُكبت بحق الشعوب المستعمَرة.
وبدأت خطورة هذا الجدل عندما تحول من الناحية النظرية، إلى سياسات استعمارية وحشية تطبق على أرض الواقع. وفي الوقت الذي كان فيه بيتهوفن يعزف سيمفونيته الخامسة عام 1808، كانت أوروبا في ذروة توسعها الاستعماري. وبينما كان الجمهور الأوروبي يستمتع بإبداعه الفني، كانت الجيوش الأوروبية تجوب إفريقيا وآسيا والأمريكيتين تحت ستار "تحضير الشعوب البدائية"، تفرض سيطرتها على الشعوب الأصلية، وتستغل مواردها، وتبرر ذلك بمفاهيم التفوق العرقي ورسالة الحضارة، في تناقض صارخ بين عالم يبدع في الموسيقى والفن، وعالم آخر يُسحق تحت وطأة الاستعمار والتمييز.
وكانت النتيجة إبادة مجتمعات بأكملها، وفرض أنظمة عبودية قاسية؛ فقد تعامل المستعمرون مع البشر كأرقام في سجلات التجارة؛ إذ تشير التقديرات إلى أن أعداد القتلى من الهنود الحمر، السكان الأصليين للولايات المتحدة الأمريكية، بلغت 80 مليونًا، قُتِلوا بسبب سياسات الإبادة العرقية التي قادها العنصريون تحت ذريعة التفوق الحضاري.
أما تجارة الرّقّ، فكانت نموذجًا آخر لوحشية الفكر العنصري. فما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، اصطيد أكثر من أربعين مليون إفريقي، قيدوا بالسلاسل، وشحنوا عبر المحيطات ليباعوا ويُستغلوا، في واحدة من أكثر الأنشطة الاقتصادية وحشيةً في التاريخ الحديث. لقد كانت العبوديّة محاولة ممنهجة لمحو هويات بشريّة بأكملها وتحويلهم إلى أدوات إنتاج لا أكثر، حتى يستمتع العنصريّ بالأكل والشرب والراحة، على حساب من يعدّهم أقل منه طبقة.
إنّ الإنسان العُنصريّ هو الامتداد الطبيعي لإبليس، أول مُتكبِّر في التاريخ، الذي أعلن تفوقه على آدم بغير حق، مؤسِّسًا لنزعة التمييز القائمة على الأوهام. وكما أعمى الغرور إبليس عن رؤية الحقيقة، يعجز العنصريُّ عن إدراك أن تفوقه المزعوم ليس سوى وَهمٍ زرعته ثقافةُ التفرقة والتصنيف.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
سلمى لاغرلوف.. أول امرأة تفوز بنوبل في الأدب هل كانت تستحقها؟
في عام 1909، دخلت الكاتبة السويدية سلمى لاغرلوف التاريخ كأول امرأة تحصل على جائزة نوبل في الأدب، في وقت كان عالم الأدب يهيمن عليه الرجال.
لم يكن هذا التكريم مجرد تتويج لمسيرتها الأدبية، بل كان أيضًا لحظة فارقة في تاريخ المرأة في الأدب العالمي.
لاغرلوف وكسر الحواجز الأدبيةولدت سلمى لاغرلوف عام 1858 في السويد، ونشأت في بيئة ريفية ألهمت الكثير من أعمالها.
لم تكن رحلتها في عالم الأدب سهلة، فقد كانت النساء آنذاك نادرًا ما يحظين بفرصة للنشر أو الاعتراف بموهبتهن، ورغم ذلك، استطاعت أن تفرض اسمها في المشهد الأدبي بفضل أسلوبها الفريد الذي مزج بين الخيال والأسطورة والواقع.
كانت روايتها الأولى “غوستا برلينغ” (1891) نقطة انطلاقتها الكبرى، حيث نالت إعجاب النقاد ووضعتها في مصاف كبار الكتاب السويديين، لكن عملها الأشهر عالميًا كان “مغامرات نيلز العجيبة” (1906)، وهو كتاب تعليمي للأطفال تحول إلى أيقونة أدبية وثقافية في السويد.
هل كان الفوز مستحقًا؟عند إعلان فوزها بجائزة نوبل، بررت الأكاديمية السويدية قرارها بأن “أسلوبها السردي الفريد أعاد إحياء الأسطورة وأضفى لمسة شعرية على الأدب”، وهذا ما يجعل تكريمها يبدو مستحقًا، خاصة أن أعمالها امتازت بقدرتها على دمج التقاليد السويدية بالقصص الفانتازية، ما أعطاها طابعًا أدبيًا خاصًا.
لكن في المقابل، لم يكن بالإمكان تجاهل سياق الجائزة آنذاك، فقبل فوزها، تعرضت الأكاديمية السويدية لانتقادات لعدم تكريم النساء، ما جعل البعض يتساءلون: هل جاء اختيارها بدافع تحقيق توازن جندري، أم أن أدبها استحق التقدير عالميًا بغض النظر عن كونها امرأة؟
التأثير النسوي لفوزهابعيدًا عن الجدل، كان لفوز لاغرلوف أثر كبير على الأديبات اللاتي جئن بعدها، فقد فتحت الطريق أمام النساء للحصول على اعتراف عالمي بمواهبهن الأدبية، وساهمت في تعزيز حضور الكاتبات في عالم النشر.
لم تكن سلمى لاغرلوف فقط كاتبة متميزة، بل كانت مدافعة عن حقوق المرأة، حيث دعمت حق المرأة في التصويت في السويد، وكانت ناشطة في عدد من الحركات النسوية، مما يجعل فوزها امتدادًا لنضال النساء في ذلك الوقت