العودة إلى موضوع "دكتوراه في الجهل"
تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT
مرتضى بن حسن بن علي
المَقالةُ التي نشرها الكاتب الخبير في التدريب والموارد البشرية العقيد المُتقاعد عبدالوهاب البلوشي في جريدة "الرؤية"، وأُعيدَ نشرها في عدد كبير من وسائل التَّواصل الاجتماعي تحت عنوان: "دكتوراه في الجهل"، أثارت ردود فعل مُتباينة تغلبت عليها عبارات النقد والتَّهكم.
في اعتقادي المتواضع، أن المقالة لم يكن موجهًا ضد البحوث العلمية المُحترمة؛ بل بالعكس، بقدر ما كانت تحمل دلالات نقدية عميقة توجه رسالة واضحة حول إشكالية الحصول على الدرجات العلمية (خاصة الدكتوراه) في بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية لأسباب غير أكاديمية أو علمية أو مجتمعية؛ مما ينتج عنها:
تفريغ الشهادات من قيمتها؛ وذلك بسبب ظاهرة سعي بعض الأفراد للحصول على شهادة الدكتوراه، ليس بهدف الإضافة العلمية أو خدمة المجتمع؛ بل للتفاخر بلقب "دكتور"، مما يحوّل الشهادة إلى مجرد "وسام اجتماعي" فارغ من المضمون.يستخدم الكاتب تعبيرًا لافتًا هو "دكتوراه في الجهل" ليُشير إلى تناقض صارخ بين الشهادة ومضمونها وفائدتها للمجتمع؛ فبدلًا أن تكون الدكتوراه رمزًا للعلم والبحث الجاد، تصبح أداة لترسيخ الجهل عندما تُمنح لـ"أبحاث" غير جادّة أو عديمة الفائدة للمُجتمع. يحذر الكاتب من تدهور قيمة العلم، وتحوّل النظام الأكاديمي إلى سوق استهلاكية للتفاخر وتعزيز المكانة الشخصية للشخص ومن دون اعتبار لجودة البحث او فائدته للمجتمع او بسبب سعيه للحصول على شهادة الدكتوراه، من أجل الحصول على راتب أعلى، وخصوصًا بعد أن تم ربط الراتب بالشهادة، بغض النظر عن الاستفادة منها! يُلمح الكاتب إلى أنَّ هذه الظاهرة تُهدر الموارد (الوقت، المال، الجهود) على أبحاث لا تُسهم في حل المشكلات الواقعية، اجتماعية أو تنموية أو اقتصادية أو علمية أو فكرية أو تطوير المعرفة الإنسانية إجمالًا. يتضح من المقال أن الكاتب يطالب بضرورة تشديد المعايير الأكاديمية لمنح الدرجات العلمية، وربط الأبحاث باحتياجات المجتمع؛ لتجنُّب "شهادات الجهل" عن طريق "تغيير الثقافة المجتمعية" التي تُقدِّس الألقاب دون النظر إلى الجوهر، مع التأكيد على أن قيمة الإنسان تكمن في إسهاماته الفعلية، لا في شهاداته. من الواضح من ثنايا المقال، أن الكاتب يوجّه نقدًا غير مباشرٍ إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار والجامعات وهيئات الاعتماد الأكاديمي، التي ربما قد تتساهل في منح الشهادات لتحقيق مكاسب مادية أو إحصائية أو دعائية، ليست لها علاقة بتطور المجتمع وصعوده لسلالم التقدم الحقيقي.
إنَّ الإعلام العمودي والأفقي، الرسمي والموازي، يتحمل جزءًا من المسؤولية في تعزيز صورة "الدكتور" كرمز للوجاهة الاجتماعية؛ بدلًا من كونه رمزًا للعطاء الفكري والعلمي والاقتصادي والاجتماعي.
وفي اعتقادي أن هدف الكاتب العقيد المتقاعد عبدالوهاب البلوشي هو إثارة نقاش حول "أزمة أخلاقيات العلم" في المجتمعات العربية؛ حيث يُختزل التعليم العالي في شكليات الألقاب، ويُهمش دور البحث العلمي الحقيقي في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، والاستمرار في هذه الظاهرة سيؤدي إلى "تآكل مصداقية المؤسسات الأكاديمية" وتراجع ثقة المجتمع في قيمة الشهادات الاكاديمية.
المقالة حسب وجهة نظري، ليست مجرد نقد لظاهرة فردية؛ بل هي "صيحة تحذير" من تحوُّل العلم إلى أدوات للتزيين الاجتماعي، وفقدان دوره الحقيقي في مواجهة التحديات الفكرية والتعليمية والمجتمعية والاقتصادية والتنموية والفكرية التي تواجهنا.
الكاتب يطمح إلى إعادة الاعتبار لشهادة "الدكتوراه الجادة" التي تُبنى على البحث الرصين والإخلاص لخدمة الإنسان وإيجاد حلول لمصائب المجتمعات، وخصوصًا عندما يتصدر المشهد أصحاب شهادات "الدكتوراه" (بلا علم ولا فَهم)، ويقحمون أنفسهم في كل قضية وكل مجال، وهم في الواقع عاجزون عن تقديم ما يُفيد في تخصصهم نتيجةً لجهلهم. شهادات قسم منها ليست معروفة المصادر أصلًا، أو طريقة حصولهم عليها، وقسم آخر يجدون في برامج التواصل الاجتماعي المتكاثرة ضالتهم ليبرزوا أنفسهم.
والكاتب عبدالوهاب البلوشي، ليس أول شخص يتكلم عن "دكتوراه الجهل" في العالم العربي؛ فهناك العالم المغربي المعروف الراحل الدكتور محمد المنجرة، الذي سبقه بسنوات عديدة، عندما استخدم المنجرة مصطلح " دكتوراه في الجهل"، كتعبير ساخر لوصف النخب الفاسدة أو المُثقفين المُزيَّفين الذين يحملون شهادات أكاديمية ولكنهم يفتقدون للوعي الحقيقي والمعرفة الحقيقية والإحساس بالمسؤولية تجاه مجتمعاتهم.
كان الدكتور المنجرة يرى أن هناك من يكتسبون شهادات عُليا، لكنهم في الواقع يُكرِّسون التخلف والجهل، إما من خلال تبعيتهم للفساد أو من خلال غياب الفكر النقدي والإبداعي، في طرح الحلول لمشكلات المجتمع. المختلفة والمتطورة.
الدكتور محمد المنجرة في انتقاداته للأنظمة التعليمية والسياسية في العالم العربي، كان يرى أنَّ التعليم لا ينبغي أن يكون مجرد تحصيل للشهادات؛ بل يجب أن يكون أداة لتحرير العقول والأفكار وتنمية المجتمعات.
والدكتور محمد المنجرة، كان عالمًا ومفكرًا مغربيًا مرموقًا في مجال الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية وعلى مستوى العالم، وعُرف بنقده اللاذع للعولمة الثقافية والهيمنة الغربية على المعرفة، ويُعد أحد أبرز العلماء العرب الذين حذروا من مخاطر التبعية الفكرية والثقافية للعالم الثالث تجاه النماذج الغربية.
إنَّ "دكتوراه في الجهل" تعبيرٌ استخدمه المنجرة بشكل نقدي لوصف ظاهرة تهميش المعرفة العميقة والتحليل النقدي في ظل العولمة؛ حيث تُختزل المعرفة إلى معلومات سريعة وسطحية تُروِّج لأجندات معينة، فهو ينتقد الفكرة القائلة إنَّ الشهادات الأكاديمية (مثل الدكتوراه) تعكس بالضرورة وعيًا حقيقيًا أو التزامًا بالتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية؛ بل رأى أن بعض النُخب "المُتعلِّمة" تُسهم في تعميق الجهل عبر تبنيها نماذج استهلاكية أو فكرية تُفقر الهوية المحلية وتُعزز التبعية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لذا لزم التنويه: مفتاح العودة ومجلّة ميكي (2-8)
في سنةٍ بعيدة، أحضروا عشرات المعتقلين في قضيّة فضّ اعتصام رابعة إلى معتقل طرة تحقيق الذي كنت فيه، وكان بينهم محكومون بالإعدام، التقيتُ بعضهم اختلاسا وتحايلا، وتناقشنا بأعجب ما تكون سبل النقاش، كانوا ممنوعين من كلّ حقٍّ تنصّ عليه لوائح السجن وقوانينه -كغالب المعتقلين من كلّ التيارات- كنت أحاول تهريب طعامٍ وملابس وأغطية وأدوية لهم ما استطعت، وحين سألتُ أحدهم عن شيء يحبّ أن يحصل عليه بعيدا عن لوازم الحياة، فقال: مجلّة ميكي.
طلبتها من إدارة السجن فرفضوا، وحاولتُ إدخالها في الزيارات فمنعوها، فدخلتُ إضرابا عن الطعام لأحصل عليها حتى سمحوا بالاشتراك فيها، كما ينصّ قانون السجون، وأصبحت تأتيني كل أسبوع، فأهرّبها لهذا الصديق الذي يمرّرها لرفاقه.
ظلّ يحكي لشهور عن هذا الانتصار وسعادته به، حتى تمّ ترحيلهم من المعتقل إلى غيره.
* * *
مررتُ بأحوال الإيراد كلّها، بدءا من حفلة "الاستقبال" تعذيبا بين صفّينِ من المخبرين بأكفّهم وأرجلهم أو عصيّهم -كما في أحد مشاهد فيلم البريء- إلى معتاد الحال تجريدا ومصادرة لكلّ شيء (ملابس، طعام، كتب، دواء، صور، أدوات نظافة، وحتى كتب وملازم الجامعة المصرّح بها من النيابة العامة) ثم حرقها أمامي في ساحة السجن
لم تعد الأقفالُ موجودة، ولا الأبواب التي كانت عليها، ولا حتى البيوت التي حرستها، لم يعد الوطن على صورته التي كان عليها قبل سبعين عاما أو يزيد، لكنّ الفلسطينيّين ما زالوا يعلّقون مفاتيح دورهم في رقابهم، وعلى صدورهم، وفي صدر كلّ منزلٍ سكنوه -مؤقّتا- إلى أن يعودوا.
ليس إنكارا للهزيمة التي وقعت، والاحتلال الذي استولى والمستوطنات التي قامت، إنّما على عكس ما يبدو للوهلة الأولى، إنّما هو اعترافٌ بها بعد استيعاب حقيقة أثرها وامتداداته، لكنّه في الوقت ذاته مقاومةٌ لها، في ذهن حامل المفتاح وروحه، فقد كلّ شيء، وتوفّرت غالب مبررات السقوط وتمكّن الهزيمة منه، لكنّه تشبّث بهذا المفتاح، الذي سمّاه مفتاح العودة، واستند عليه كي يمنع سقوطه.
* * *
على عتبة المعتقل -ليمان طرة- داخلا لجحيمه الذي سبق وجرّبته، منهكا من إعادة الرحلة السيزيفيّة حاملا صخرة عمري وحلمي إلى القمّة، كانت أولى المعارك، على حِذائي وملابسي (طلبوا مني خلعها والبقاء حافيا، وتمسّكتُ بهما رفضا للإهانة، ومبادلة لهم عمليّة ترسيم الحدود السجنيّة التي تبدأ مع دخول الإيراد، وتجرّد فيها من كل الحقوق بلا استثناء، إلا ما تنتزعه بمعاركك إن استطعت، أو ما يتفضل به عليك سجّانك مقابلا رخيصا لرضوخك واستخدامِك).
وقد مررتُ بأحوال الإيراد كلّها، بدءا من حفلة "الاستقبال" تعذيبا بين صفّينِ من المخبرين بأكفّهم وأرجلهم أو عصيّهم -كما في أحد مشاهد فيلم البريء- إلى معتاد الحال تجريدا ومصادرة لكلّ شيء (ملابس، طعام، كتب، دواء، صور، أدوات نظافة، وحتى كتب وملازم الجامعة المصرّح بها من النيابة العامة) ثم حرقها أمامي في ساحة السجن، وغير ذلك من أحوال وصور دخول السجن في كلّ مرّة، والتي يعانيها المعتقلون كلّهم دون تمييزٍ، إلا قليلٌ منهم.
لطالما سخر سجّانون ورفاق من معارك حول حقوق رئيسة (كالراديو والتلفاز والصور والملابس وإطالة الشعر، مثلا) أو حقوق أخرى (كفنجان القهوة أو مجلّة ميكي)؛ خضتُ لأجلها ذات المعارك حتى نهايتها، بما في ذلك الإضراب عن الطعام، وتلقّيتُ العقوبات ضربا ونقلا لعنبر التأديب أو تجريدا أو منعا من الزيارة والتريّض وغيرها من العقوبات السجنيّة.
ولطالما استمرّ خوضي هذا النوع من المعارك، حتى يوم خروجي من المعتقل بعد عشر سنين، لم أرَ الأمر نضالا في مواجهة السجّان، وإن كان كذلك في حقيقته وإن لم يُقصد، ولا أردتُ منه إلهام أحد أو حتى تقديم صورة تحريضيّة، إنّما فقط أردتُ أن أستند إلى شيءٍ يمنع سقوطي، بعد أن أفقدني السجّان بإلحاح وحسم واستدامة محشوّين بالانتقام والجنون والسيطرة على كلّ شيءٍ في حياتي ومحيطي وحتى جسدي.
إذا كانت المعارك الكبرى غير متوقّعٍ كسبها وأنت مقيّد -حتى هذه ليست قاعدة؛ جرّبتُ خوضها مرارا، وكسبتُ شيئا منها- مع الوقت ستشعر بفقد السيطرة مطلقا، وسينهارُ ذهنك دفعة واحدة، وستسقط معه حتما (جسدا أو نفسا، وسلوكا)
السجن صراع سيطرة، لا على حركتك وأثرك وحدهما، إنّما على توازنك وأفكارك وهواجسك وأحلامك وكوابيسك، وعلى ذهنك قبل كلّ شيء، ولكلِّ صراع طرفين، السجّان هنا أحدهما (حامل مفتاح الزنزانة وحامل مفتاح القصر وطابور السجّانين بينهما)، ولا قواعد حاكمة، لا قانون ولا عُرف ولا ضمير ولا رقابة ومحاسبة، لا يبقى في الداخل سوى تضامن الصّحبِ، وذاتك؛ وعليك أن تنخرطَ في الصراع الذي قُسرتَ عليه، أو الاستسلام فيه، إذ لا فرصة لتجنّبه أو تجاهله أو الانسحاب منه.
وإذا كانت المعارك الكبرى غير متوقّعٍ كسبها وأنت مقيّد -حتى هذه ليست قاعدة؛ جرّبتُ خوضها مرارا، وكسبتُ شيئا منها- مع الوقت ستشعر بفقد السيطرة مطلقا، وسينهارُ ذهنك دفعة واحدة، وستسقط معه حتما (جسدا أو نفسا، وسلوكا)، ولعلّ واحدة من سبل المقاومة المجرّبة في هذا السياق التشبّث بالمعارك "الصغيرة" -إن صحّت التسمية- وبالتالي انتصاراتها الصغيرة التي ستمنحك شيئا من السيطرة على ذاتك، وهو ما لا استغناء عنه حتى تستطيع استكمال الطريق والدخول في جولات أخرى من المعارك الكبرى، وقبلها البقاء على قيد الحياة أصلا.
في لحظة الهزيمة وتبعاتها يحدث أن تبحث عن تجلٍّ آخر، غير أحلامك الكبرى، أكثر ماديّة -ربّما- وقابليّة للتحقق لتتشبّث به وتستند عليه استنادة ما قبل السقوط، وستجده حتما حولك، قريبا منك، أو حتى في ذاتك. ثق في ذلك تماما.